مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا
فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا
[عدل]وأما قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا، فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم». وقد ثبت في الصحيح قوله ﷺ: «إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه»، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلا سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار.
وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء. وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي ﷺ: «ما تركت لأهلك؟» قال: تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه.
بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند: أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا. فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال: «لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع» وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1، فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده.
ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ} 2، ومدح الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة. ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب.
ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال: سل. قال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي». وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله: أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد ﷺ حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.
وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطًا لما خلقه وأمر به؟ والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.
هامش