مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب
فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب
[عدل]إذا عرف هذا: فالسالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد، والعلم، والعبادة، وغير ذلك عاجزًا عن الكسب، كالذين ذكرهم الله في قوله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 1، والذين ذكرهم الله في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ الله وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} 2.
فالصنف الأول، أهل صدقات، والصنف الثاني، أهل الفىء، كما قال تعالى في الصنف الأول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلى قوله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله} 3، وقال في الصنف الثاني: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 4. فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة، والأنصار تغلب عليهم الزراعة، وقد قال للطائفتين: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} 5، فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر.
ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال تعالى لما أمرهم بقيام الليل: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} 6، فجعل المسلمين أربعة أصناف، صنفًا أهل القرآن والعلم والعبادة، وصنفًا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وصنفًا يجاهدون في سبيل الله، والرابع المعذورون.
وأما قول القائل: إن الغذاء والقوام هو من فعل الله، فلا يمكن طلبه كالحياة، فليس كذلك هو، بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت، فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله، فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله، وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به، قال تعالى في داود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} 7، وقال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} 8، وقال تعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} 9، وهذا مثل دفع الحر والبرد عنا هو من فعل الله، فاللباس، والاكتساب، ومثل دفع الجوع، والعطش، هو من فعل الله بالطعام والشراب.
وهذا كما أن إزهاق الروح، هو من فعل الله، ويمكن طلبه بالقتل وحصول العلم والهدى في القلب، هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء.
وقول القائل: إن الله يفعل بسبب وبغير سبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب.
جوابه أن يقال له: ليس الأمر كذلك، بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدورًا له، ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله.
والأسباب منها، معتاد، ومنها نادر، فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها، وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي ﷺ، والرجل الصالح، فهو أيضا سبب من الأسباب، ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق، فمن الناس من يأتيه برزقه جنى أو ملك أو بعض الطير والبهائم. وهذا نادر، والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، أو نذرًا، وإما غير ذلك، مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «يا ابن آدم، إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسك الفضل شر لك، ولا يلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى»، وفي حديث آخر صحيح: «يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى».
وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله ﷺ حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى.
وقول القائل: إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا.
فيقال له: هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه.
وقول القائل: كيف يطلب مالا يعرف مكانه؟
جوابه: أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علي الله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين.
فصل
فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولا بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا.
ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: «على كل مسلم صدقة"، قالوا: يا رسول الله! فمن لم يجد. قال: «يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق». قالوا: فإن لم يجد. قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف». قالوا: فإن لم يجد، قال: «فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة».
هامش
- ↑ [البقرة: 273]
- ↑ [الحشر: 8]
- ↑ [البقرة: 271 273]
- ↑ [الحشر: 7- 9]
- ↑ [البقرة: 267]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [الأنبياء: 80]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [النساء: 102]