مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله
فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله
وأما السلف والأئمة، كما أنهم متفقون على الإيمان بالقدر، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء من أفعال العباد، وغيرها، وهم متفقون على إثبات أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد على الله في ترك مأمور، ولا فعل محظور، فهم أيضا متفقون على أن الله حكيم رحيم وأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها». وقد أخبر عن حكمته في خلقه وأمره بما أخبر به في كتابه وسنة رسوله.
والجهم بن صفوان ومن اتبعه، ينكرون حكمته ورحمته، ويقولون: ليس في أفعاله وأوامره لام كي، لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لشيء.
وكثير من المتأخرين من المثبتين للقدر من أهل الكلام، ومن وافقهم سلكوا مسلك جهم في كثير من مسائل هذا الباب، وإن خالفوه في بعض ذلك، إما نزاعًا لفظيًا، وإما نزاعًا لا يعقل، وإما نزاعًا معنويا، وذلك كقول من زعم، أن العبد كاسب ليس بفاعل حقيقة، وجعل الكسب مقدورًا للعبد، وأثبت له قدرة لا تأثير لها في المقدور؛ ولهذا قال جمهور العقلاء: إن هذا كلام متناقض غير معقول، فإن القدرة إذا لم يكن لها تأثير أصلا في الفعل كان وجودها كعدمها، ولم تكن قدرة، بل كان اقترانها بالفعل، كاقتران سائر صفات الفاعل في طوله وعرضه ولونه.
ولما قيل لهؤلاء: ما الكسب؟ قالوا: ما وجد بالفاعل، وله عليه قدرة محدثة، أو ما يوجد في محل القدرة المحدثة، فإذا قيل لهم: ما القدرة؟ قالوا: ما يحصل به الفرق بين حركة المرتعش، وحركة المختار، فقال لهم جمهور العقلاء: حركة المختار حاصلة بإرادته دون حركة المرتعش، وهي حاصلة بقدرته أيضا، فإن جعلتم الفرق مجرد الإرادة، فالإنسان قد يريد فعل غيره ولا يكون فاعلا له، وإن أردتم أنه قادر عليه، فقد عاد الأمر إلى معنى القدرة، والمعقول من القدرة معني به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدرة لغير فاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء.
وهؤلاء المتبعون لجهم يقولون: إن العبد ليس بفاعل حقيقة، وإنما هو كاسب حقيقة، ويثبتون مع الكسب قدرة لا تأثير لها في الكسب، بل وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء، ولكن قرنت به من غير تأثير فيه، وزعموا أن كل مافي الوجود من القوى، والطبائع، والأسباب العلوية، والسفلية كقدرة العبد لا تأثير لشيء منها فيما اقترنت به من الحوادث والأفعال، والمسببات، بل قرن الخالق هذا بهذا لا لسبب، ولا لحكمة أصلا.
وقالوا: إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهي، ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن ينعم طائفة ويعذب طائفة لا لحكمة، والسبب هو جعل الأمر والنهي، والطاعة والمعصية، علامة على ذلك لا لسبب ولا لحكمة، وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء حتى بالشرك، وتكذيب الرسل والظلم والفواحش، وينهي عن كل شيء حتى التوحيد والإيمان بالرسل وطاعتهم.
وكثير من هؤلاء كأبي الحسن وأتباعه ومن وافقهم من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد، مثل ابن عقيل وابن الجوزي، وأمثالهما يقولون: إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، وقد جعلوا أفعال العباد فعلا لله، والفعل عندهم هو المفعول، فامتنع مع هذا أن يكون فعلا للعبد؛ لئلا يكون فعل واحد له فاعلان.
وأما الجمهور، فيقولون: إنها مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعبد قائمة به، وليست فعلا لله قائمًا به، بل مفعوله غير فعله، والرب تعالى لا يوصف بما هو مخلوق له، وإنما يوصف بما هو قائم به، فلم يلزم هؤلاء أن يكون الرب ظالمًا، وأما أولئك، فإذا قالوا: إنه يوصف بالمخلوق المنفصل عنه، فيسمى عادلا وخالقًا؛ لوجود مخلوق منفصل عنه خلقه، فإنهم ألزموهم أن يكون ظالمًا لخلقه ظلمًا منفصلا عنه؛ إذ كانوا لا يفرقون فيما انفصل عنه بينما يكون صفة لغيره وفعلا له، وبين ما لا يكون، إذ الجميع عندهم نسبته واحدة إلى قدرته ومشيئته وخلقه.
وهؤلاء أطلقوا القول بتكليف ما لا يطلق، وليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يطاق، كما أنه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر، وإطلاق القول بأنه يجبر العباد، كإطلاق القول بأنه يكلفهم ما لا يطيقون، هذا سلب قدرتهم على ما أمروا به، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين.
ولهذا كان المقتصدون من هؤلاء، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأكثر أصحاب أبي الحسن، وكالجمهور من أصحاب مالك، والشافعي وأحمد بن حنبل، كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله يفصلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر، فيقولون: تكليف ما لا يطاق؛ لعجز العبد عنه لا يجوز، وأما ما يقال أنه لا يطاق؛ للاشتغال بضده، فيجوز تكليفه، وهذا؛ لأن الإنسان لا يمكنه في حال واحدة أن يكون قائمًا قاعدًا، ففي حال القيام لا يقدر أن يفعل معه القعود، ويجوز أن يؤمر حال القعود بالقيام، وهذا متفق علي جوازه بين المسلمين، بل عامة الأمر والنهي هو من هذا النوع، لكن هل يسمى هذا تكليف مالا يطاق؟ فيه نزاع.
قيل: إن العبد لا يكون قادرًا إلا حين الفعل، وإن القدرة لا تكون إلا مع الفعل، كما يقوله أبو الحسن الأشعري، وكثير من نظار المثبتة للقدر، فعلى قول هؤلاء كل مكلف، فهو حين التكليف قد كلف ما لا يطيقه حينئذ، وإن كان قد يطيقه حين الفعل بقدرة يخلقها الله له وقت الفعل، ولكن هذا لا يطيقه لاشتغاله بضده وعدم القدرة المقارنة للفعل؛ لا لكونه عاجزا عنه. وأما العاجز عن الفعل، كالزمن العاجز عن المشي، والأعمي العاجز عن النظر ونحو ذلك، فهؤلاء لم يكلفوا بما يعجزون عنه، ومثل هذا التكليف لم يكن واقعًا في الشريعة باتفاق طوائف المسلمين، إلا شرذمة قليلة من المتأخرين ادعوا وقوع مثل هذا التكليف في الشريعة، ونقلوا ذلك عن الأشعري وأكثر أصحابه، وهو خطأ عليهم.
وأما جواز هذا التكليف عقلا، فأكثر الأمة نفت جوازه مطلقًا، وجوزه عقلا طائفة من المثبتة للقدر من أصحاب أبي الحسن الأشعري، ومن وافقهم من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما. وطائفة ثالثة فرقت في الجواز العقلي، بين الممكن لذاته الذي يتصور وجوده في الخارج، كالطيران، وبين الممتنع عقلا كالجمع بين النقيضين.
والذين زعموا وقوع التكليف بالممتنع لذاته كالرازي وغيره احتجوا بأن الله كلف أبا لهب بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، وإخباره بأنه لا يؤمن. فكلفه بالجمع بين النقيضين بأن يفعل الشيء، وبأن يصدق أنه لا يكون مصدقًا بذلك، وهو صادق في تصديقه إذا لم يكن، واحتجوا بأنه كلف خلاف المعلوم، وخلاف المعلوم محال، فيكون حقيقة التكليف أنه يجعل علم الله جهلا، وهذا ممتنع لذاته.
وهؤلاء جعلوا لفظ ما لا يطاق لفظًا عامًا يدخل فيه كل فعل؛ لكون القدرة عندهم لا تكون إلا مع الفعل، ويدخل فيه خلاف المعلوم، ويدخل فيه المعجوز عنه، ويدخل فيه الممتنع لذاته، ثم ذكروا نحو عشر حجج يستدلون بها على جواز هذا الجنس، فإذا فصل الأمر عليهم ثبت أن دعواهم جواز ما لا يطاق للعجز عنه سواء كان ممتنعا لذاته أو ممكنًا باطلة لا دليل عليها، وأما جواز تكليف ما يقدر العبد عليه من العبادة، ويقولون هم: أنه لا يكون قادرًا عليه إلا حين الفعل، فهذا مما اتفق الناس على جواز التكليف به، لكن ثم نزاع لفظي ومعنوي في كونه يدخل فيما لا يطاق، فصار ما أدخلوه في هذا الاسم أنواعًا مختلفة: منها ما ينازعون في جوازه أو وقوعه. ومنها: ما ينازعون في اسمه وصفته لا في وقوعه.
أما تكليف أبي لهب، وغيره بالإيمان، فهذا حق، وهو إذا أمر أن يصدق الرسول في كل ما يقوله، وأخبر مع ذلك أنه لا يصدقه، بل يموت كافرًا، لم يكن هذا متناقضًا، ولا هو مأمور أن يجمع بين النقيضين، فإنه مأمور بتصديق الرسول في كل ما بلغ، وهذا التصديق لا يصدر منه، فإذا قيل له أمرناك بأمر ونحن نعلم أنك لا تفعله لم يكن هذا تكليفًا للجمع بين النقيضين.
فإن قال: تصديقكم في كل ما تقولون يقتضي أن أكون مؤمنًا، إذا صدقتكم وإذا صدقتكم لم أكن مؤمنًا؛ لأنكم أخبرتم أني لا أؤمن بكل ما أخبر به، قيل له: لو وقع منك لم يكن فيه هذا الخبر، ولم يكن يخبر أنك لا تؤمن، فأنت قادر على تصديقنا، وبتقدير وجوده لا يحصل هذا الخبر، وإنما وقع؛ لأنك أنت لم تفعل ما قدرت عليه من تصديقنا بهذا الخبر، فوقع بعد تكذيبك وتركك ما كنت قادرًا عليه، لم نقل لك حين أمرناك بالتصديق العام وأنت قادر عليه.
ولو قيل لك: آمن ونحن نعلم أنك لا تؤمن بهذا الخبر، فالذي أمرت أن تؤمن به هو الإخبار بأن محمدا رسول الله، وهذا أنت قادر عليه ولا تفعله، وإذا صدقتنا في خبرنا أنك لا تؤمن لم يكن هناك تناقض، لكن لا يمكن الجمع بين الإيمان والتصديق، فإنه لم يقع ونحن لم نأمرك بهذا، بل أمرناك بإيمان مطلق تقدر عليه، وأخبرنا مع ذلك أنك لا تفعل ذلك المقدور عليه، ولم نقل لك صدقنا في هذا وهذا في حال واحدة، لكن الواجب عليك هو التصديق المطلق، والتصديق بهذا لا يجب عليك حينئذ، ولو وقع منك التصديق المطلق امتنع منا هذا الخبر، بل هذا الخبر إنما وقع لما علمنا أنه لا يقع منك التصديق المطلق.
وهذا كله لو قدر أن أبا لهب أسمع هذه الآية وأمر بالتصديق بها، وليس الأمر كذلك، لكن لما أنزل الله قوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} 1، ولم يسلم لهم أن الله أمر نبيه بإسماع هذا الخطاب لأبي لهب، وأمر أبا لهب بتصديقه، بل لا يقدر أحد أن ينقل أن النبي ﷺ أمر أبا لهب أن يصدق بنزول هذه السورة، فقوله: أنه أمر أن يصدق بأنه لا يؤمن قول باطل لم ينقله أحد من علماء المسلمين، فنقله عن النبي ﷺ قول بلا علم، بل كذب عليه.
فإن قيل: فقد كان الإيمان واجبًا على أبي لهب، ومن الإيمان أن يؤمن بهذا، قيل له: لا نسلم أنه بعد نزول هذه السورة وجب على الرسول أن يبلغه إياها، بل ولا غيرها، بل حقت عليه كلمة العذاب، كما حقت على قوم نوح إذ قيل له: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2، وبعد ذلك لا يبقى الرسول مأمور بتبليغهم الرسالة، فإنه قد بلغهم فكفروا حتى حقت عليهم كلمة العذاب بأعيانهم.
وقد يخبر الله الرسول عن معين أنه لا يؤمن، ولكن لا يأمره أن يعلمه بذلك، بل هو مأمور بتبليغه وإن كان الرسول يعلم أنه لا يؤمن، كالذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 3، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} 4.
فهؤلاء قد يعلم بعض الملائكة، وبعض البشر من الأنبياء وغيرهم في معين منهم أنه لا يؤمن، وإن كانوا مأمورين بتبليغه أمر الله ونهيه، وليس في ذلك تكليفه بالجمع بين النقيضين، وذلك خلاف المعلوم، فإن الله يفعل ما يشاء بقدرته وما لا يشاء يعلم أنه لا يفعله وأنه قادرعليه لو شاء لفعله، وعلمه أنه لا يفعله، لا يمنع أن يكون قادرًا عليه.
والعباد الذين علم الله أنهم يطيعونه بإرادتهم، ومشيئتهم وقدرتهم، وإن كان خالقًا لذلك، فخلقه لذلك أبلغ في علمه به قبل أن يكون، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 5، وما لم يفعلوه فما أمرهم به يعلم أنه لا يكون لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وليس الأمر به أمرًا بما يعجزون عنه، بل هو أمر بما لو أرادوه لقدروا على فعله، لكنهم لا يفعلونه، لعدم إرادتهم له.
وجهم، ومن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبته ورضاه بمعنى واحد، ثم قالت المعتزلة: وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه، فقالوا: إنه يكون بلا مشيئة، وقالت الجهمية، بل هو يشاء ذلك، فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء، فذكر أبو المعالي الجويني، أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق بين المشيئة والمحبة والرضا.
وأما سلف الأمة وأئمتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوف، وكثير من طوائف النظار، كالكلابية، والكَرَّامية، وغيرهم، فيفرقون بين هذا وهذا، ويقولون: إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ويرضى به، كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه، كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه؛ ولهذا كان حملة الشريعة من الخلف والسلف متفقين على أنه لو حلف ليفعلن واجبًا أو مستحبًا، كقضاء دين يضيق وقته، أو عبادة يضيق وقتها، وقال: إن شاء الله، ثم لم يفعله لم يحنث وهذا يبطل قول القدرية، ولو قال: إن كان الله يحب ذلك ويرضاه فإنه يحنث، كما لو قال: إن كان يندب إلى ذلك، ويرغب فيه أو يأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وهذا يرد على الجهمية، ومن اتبعهم، كأبي الحسن الأشعري ومن وافقه من المتأخرين. وبسط هذه الأمور له موضع آخر.
والمقصود هنا جواب هذه المسألة فإن هذه الإشكالات المذكورة إنما ترد على قول جهم، ومن وافقه من المتأخرين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وغيرهم، وطائفة من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
وأما أئمة أصحاب مالك والشافعي وأحمد وعامة أصحاب أبي حنيفة، فإنهم لا يقولون بقول هؤلاء، بل يقولون بما اتفق عليه السلف من أنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون الفرق بين مشيئته، وبين محبته ورضاه فيقولون: إن الكفر والفسوق والعصيان وإن وقع بمشيئه فهو لا يحبه ولا يرضاه، بل يسخطه ويبغضه، ويقولون: إرادة الله في كتابه نوعان:
نوع بمعنى المشيئة لما خلق، كقوله: {فَمَنْ يُرِدْ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 6.
ونوع بمعنى محبته ورضاه لما أمر به، وإن لم يخلقه، كقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} 7، {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 8، {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} 9.
وبهذا يفصل النزاع في مسألة الأمر. هل هو مستلزم للإرادة أم لا؟ فإن القدرية تزعم أنه مستلزم للمشيئة، فيكون قد شاء المأمور به ولم يكن، والجهمية قالوا: إنه غير مستلزم لشيء من الإرادة، لا لحبه له، ولا رضاه به إلا إذا وقع، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك عندهم ما أحبه ورضيه كان، وما لم يحبه ولم يرضه لم يكن، وتأولوا قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 10، على أن المراد ممن لم يقع منه الكفر، أو لا يرضاه دينا، كما يقولون: لم يشأه ممن لم يقع منه، أو لا يشاءه دينًا؛ إذ كانوا موافقين للجهمية والقدرية، في أنه لا فرق بين المحبة والمشيئة، وقد قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 11، فأخبر أنه إذا وقع الكفر من عباده لم يرضه لعباده، كما قال: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} 12، وقال: {وَالله لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 13، مع قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} 14.
وفصل الخطاب: أن الأمر ليس مستلزمًا لمشيئة أن يخلق الرب الآمر الفعل المأمور به. ولا إرادة أن يفعله، بل قد يأمر بما لا يخلقه، وذلك مستلزم لمحبة الرب ورضاه من العبد أن يفعله، بمعنى أنه إذا فعل ذلك أحبه ورضيه، وهو يريده منه إرادة الآمر من المأمور بما أمره به لمصلحته، وإن لم يرد أن يخلقه وأن يعينه عليه؛ لما له في ترك ذلك من الحكمة، فإن له حكمة بالغة فيما خلقه وفيما لم يخلقه.
وفرق بين أن يريد أن يخلق هو الفعل، ويجعل غيره فاعلا يحسن إليه، ويتفضل عليه بالإعانة له على مصلحته، وبين أن يأمر غيره بما يصلحه، ويبين له ما ينفعه إذا فعله، وإن كان لا يريد هو نفسه أن يعينه لما في ترك إعانته من الحكمة؛ لكون الإعانة قد تستلزم ما يناقض حكمته، والمنهي عنه الذي خلقه هو يبغضه ويمقته، كما يمقت ما خلقه من الأعيان الخبيثة، كالشياطين والخبائث، ولكنه خلقها لحكمة يحبها ويرضاها.
ونحن نعلم أن العبد يريد أن يفعل ما لا يحبه؛ لإفضائه إلى ما يحبه، كما يشرب المريض الدواء الكريه؛ لإفضائه إلى ما يحبه من العافية، ويفعل ما يكرهه من الأعمال لإفضائه إلى مطلوبه المحبوب له، ولا منافاة بين كون الشيء بغيضًا إليه مع كونه مخلوقًا له؛ لحكمة يحبها. وكذلك لا منافاة بين أن يحبه إذا كان ولا يفعله؛ لأن فعله قد يستلزم تفويت ما هو أحب إليه منه، أو وجود ما هو أبغض إليه من عدمه.
هامش
- ↑ [المسد: 3]
- ↑ [هود: 36]
- ↑ [يونس: 96، 97]
- ↑ [البقرة: 6]
- ↑ [الملك: 14]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [البقرة: 185]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [النساء: 26-28]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [النساء: 108]
- ↑ [البقرة: 205]
- ↑ [الأنعام: 125]