مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
[عدل]ما تقول السادة أئمة المسلمين أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، فإن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2، فإن كانت اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك، وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته، وليس كذلك، فكيف التخلص من هذا المضيق؟
وفيما ورد من الأخبار والآيات بالرضاء بقضاء الله تعالى، وفي قوله ﷺ: «جف القلم بما هو كائن»، وفي معنى قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3، فإن كان الدعاء أيضا بما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه؟.
فأجاب شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين.
أما المسألة الأولى فهي مبنية على أصلين:
أحدهما: الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركًا يفعله بقدرة وإرادة وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده؟ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده.
وكذلك تنازعوا في الأول، هل هو خطاب حقيقي؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة؟ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة.
والأصل الثاني: أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شيء أم لا؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج، وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة.
والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان: أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى لكن في هؤلاء من يقول: المعدوم ليس بشيء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا.
ومنهم من يقول: لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال: المعدوم شيء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما النزاع في الممكن.
وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا: وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4. ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدرًا مقضيًا، فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء، كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض»، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة».
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلومًا مخبرًا عنه مكتوبًا، فهو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج، بل هو عدم محض، ونفي صرف، وهذه المراتب الأربعة المشهورة للموجودات، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 5، وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع.
وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت به القدرة وخلق وكون، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 6، فالذي يقال له: كن هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم.
فإن قول السائل: إن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال.
يقال له: هذا إذا كان موجودًا في الخارج وجوده الذي هو وجوده، ولا ريب أن المعدوم ليس موجودًا، ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير، فليس وجوده في الخارج محالا، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة.
وقول السائل: إن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم؟
يقال له: أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه، بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين، بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون.
وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالا، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادرًا على حصوله، حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
هامش