مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله[عدل]

وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} 1، لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري، ولا أنه ليس بقادر عليه، ولا أنه ليس بمريد، بل يدل على أنه لا يشاؤه إلا أن يشاء الله، وهذه الآية رد على الطائفتين: المجبرة الجهمية والمعتزلة القدرية. فإنه تعالى قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} 2، فأثبت للعبد مشيئة وفعلا، ثم قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3، فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله. والأولى رد على الجبرية، وهذه رد على القدرية، الذين يقولون: قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون: إن الله يشاء ما لا يشاؤون.

وإذا قالوا: المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم، والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به إن لم يأمر الله به. قيل: سياق الآية يبين أنه ليس المراد هذا، بل المراد وما تشاؤون بعد أن أمرتم بالفعل أن تفعلوه إلا أن يشاء الله، فإنه تعالى ذكر الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} 4 وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ} نفي لمشيئتهم في المستقبل. وكذلك قوله {إلاَّ أّن يّشّاءّ اللَّه} تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل، فإن حرف «أن» تخلص الفعل المضارع للاستقبال، فالمعنى: إلا أن يشاء بعد ذلك، والأمر متقدم على ذلك، وهذا كقول الإنسان: لا أفعل هذا إلا أن يشاء الله.

وقد اتفق السلف، والفقهاء على أن من حلف فقال: لأصلين غدًا، إن شاء الله، أو لأقضين ديني غدًا إن شاء الله، ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث، ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث، لأن الله أمره بذلك، وهذا مما احتج به على القدرية، وليس لهم عنه جواب، ولهذا خرق بعضهم الإجماع القديم وقال: إنه يحنث.

وأيضا، فقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} 5 سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته، وبيان حاجة العباد إليه، ولو كان المراد لا تفعلون إلا أن يأمركم لكان كل أمر بهذه المثابة، فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها، وإن أريد أنهم لا يفعلون إلا بأمره كان هذا مدحًا لهم، لا له.


هامش

  1. [الإنسان: 30، التكوير: 29]
  2. [التكوير: 28]
  3. [التكوير: 29]
  4. [الإنسان: 29، 30]
  5. [التكوير: 29]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه