كتاب الأم/كتاب جراح العمد/الثلاثة يقتلون الرجل يصيبونه بجرح
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة. وقال عمر لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا.
[قال الشافعي]: وقد سمعت عددا من المفتين وبلغني عنهم أنهم يقولون إذا قتل الرجلان أو الثلاثة أو أكثر الرجل عمدا فلوليه قتلهم معا.
[قال الشافعي]: وقد بنيت جميع هذه المسائل على هذا القول فينبغي - عندي - لمن قال: يقتل الاثنان أو أكثر بالرجل أن يقول فإذا قطع الاثنان يد رجل معا قطعت أيديهما معا، وكذلك أكثر من الاثنين وما جاز في الاثنين جاز في المائة وأكثر وإنما تقطع أيديهما معا إذا حملا شيئا فضرباه معا ضربة واحدة أو حزاه معا حزا واحدا فأما إن قطع هذا يده من أعلاها إلى نصفها وهذا يده من أسفلها حتى أبانها فلا تقطع أيديهما ويحز من هذا بقدر ما حز من يده ومن هذا بقدر ما حز من يده إن كان هذا يستطاع.
[قال الشافعي]: وهذا هكذا في الجرح والشجة التي يستطاع فيها القصاص وغيرها لا يختلف. ولا يخالف النفس إلا في أنه يكون الجرح يتبعض والنفس لا تتبعض، فإذا لم يتبعض بأن يكونا جانيين عليه معا جرحا كما وصفت لا ينفرد أحدهما بشيء منه دون الآخر فهو كالنفس في القياس وإذا تبعض خالف النفس. وإذا ضرب رجلان أو أكثر رجلا بما يكون في مثله القود فلم يبرح مكانه حتى مات. وذلك أن يجرحوه معا بسيوف أو زجاج رماح أو نصال نبل أو بشيء صلب محدد يخرق مثله فلم يزل ضمنا من الجراح حتى مات فلأولياء الدم إن شاءوا أن يقتلوهم معا قتلوهم وإن شاءوا أن يأخذوا منهم الدية فليس عليهم معا إلا دية واحدة على كل واحد منهم حصته إن كانوا اثنين فعلى كل واحد منهما نصفها وإن كانوا ثلاثة فعلى كل واحد منهم الثلث. وهكذا إن كانوا أكثر وإن أرادوا قتل بعضهم وأخذ الدية من بعض كان ذلك لهم. وإن أرادوا أخذ الدية أخذوا منه بحساب من قتل معه كأن قتله ثلاثة فقتلوا اثنين وأرادوا أخذ الدية من واحد فلهم أن يأخذوا منه ثلثها؛ لأن ثلثه بثلثه وإن كانوا عشرة أخذوا منه عشره وإن كانوا مائة أخذوا منه جزءا من مائة جزء من ديته ولو قتله ثلاثة فمات واحد منهم كان لهم أن يقتلوا الاثنين ويأخذوا من مال الميت ثلث دية المقتول.
ولو قتل رجل رجلا عمدا وقتله معه صبي أو رجل معتوه كان لهم أن يقتلوا الرجل ويأخذوا من الصبي والمعتوه أيهما كان القاتل نصف الدية.
[قال الشافعي]: وهكذا لو أن حرا وعبدا قتلا عبدا عمدا كان على الحر نصف قيمة العبد المقتول وعلى العبد القتل. وهكذا لو قتل مسلم ونصراني نصرانيا كان على المسلم نصف دية النصراني وعلى النصراني القود وهكذا لو قتل رجل ابنه وقتله معه أجنبي كان على أبيه نصف ديته والعقوبة وعلى الأجنبي القصاص إذا كان الضرب في هذه الحالات كلها عمدا.
[قال الشافعي]: وإذا جنى اثنان على رجل عمدا وآخر خطأ أو بما يكون حكمه حكم الخطأ من أن يضربه بعصا خفيفة أو بحجر خفيف فمات فلا قود فيه لشرك الخطأ الذي لا قود فيه وفيه الدية على صاحب الخطأ في مال عاقلته وعلى صاحب العمد في أموالهما.
ولو شهد شهود أن رجلين ضربا رجلا فراغا عنه وتركاه مضطجعا من ضربتهما ثم مر به آخر فقطعه باثنين، فإن أثبتوا أنه قطعه باثنين وفيه الحياة ولم يدر لعل الضرب قد بلغ به الذبح أو نزع حشوته لم يكن على واحد منهما قصاص. وكان لأوليائه أن يقسموا على أيهما شاءوا ويلزمه ديته ويعزران معا.
[قال الشافعي]: وإن لم يثبتوا أنه كانت فيه حياة. وقالوا: لا ندري لعله كان حيا لم يكن فيه شيء ولا يغرمهما حتى يقسم أولياؤه فيأخذون ديته من الذين أقسموا عليه فإن قال أولياؤه نقسم عليهما معا قيل إن أقسمتم على جراح الأولين وقطع الآخر فذلك لكم وإن أقسمتم على أنه مات من الضربتين معا لم يكن لكم إذا قطعه الآخر باثنين أو ذبحه الآخر.
[قال الشافعي]: وإنما أبطلت القصاص أولا أن الضاربين الأولين إذا كانوا بلغوا منه ما لا حياة معه إلا بقية حياة الذكي لم يكن على الآخر عقل ولا قود. وإن كانوا لم يبلغوا ذلك منه فالقود على الآخر وعلى الأولين الجراح فجعلتها قسامة بدية؛ لأن كلا يجب ذلك عليه ولا أجعل فيها قصاصا لهذا المعنى.
ولو شهد شهود على رجل أنه ضربه بعصا في طرفها حديدة محددة ولم يثبتوا بالحديدة قتله أم بالعصا قتله فلا قود إذا كانت العصا لو انفردت مما لا قود فيه وفيه الدية بكل حال. وإن حلف أولياؤه أنه مات بالحديدة فهي حالة في ماله وإن لم يحلفوا فهي في ماله في ثلاث سنين؛ لأنهم أثبتوا القتل فأقله الخطأ ولا تغرمه العاقلة ولم تقم البينة على أنه خطأ.
وإذا قطع الرجل أصبع الرجل، ثم جاء آخر فقطع كفه أو قطع الرجل يد الرجل من مفصل الكوع، ثم قطعها آخر من المرفق ثم مات فعليهما معا القود يقطع أصبع هذا وكف قاطع الكف ويد الرجل من المرفق، ثم يقتلان، وسواء قطعا من يد واحدة أو قطعاها من يدين مفترقتين سواء وسواء كان ذلك بحضرة قطع الأول أو بعده بساعة أو أكثر ما لم تذهب الجناية الأولى بالبرء؛ لأن باقي ألمها واصل إلى الجسد كله ولو جاز أن يقال: ذهبت الجناية الأولى حين كانت الجناية الآخرة قاطعة باقي المفصل الذي يتصل به وأعظم منها جاز إذا قطع رجل يدي رجل ورجليه وشجه آخر موضحة فمات أن يقال لا يقاد من صاحب الموضحة بالنفس؛ لأن ألم الجراح الكثيرة قد عم البدن قبل الموضحة أو بعدها ومن أجاز أن يقتل اثنان بواحد لكان الألم يأتي على بعض البدن دون بعض حتى يكون رجلان لو قطع كل واحد منهما يد رجل معا فمات لم يقد منهما في النفس؛ لأن ألم كل واحدة منها في شق يده الذي قطع ولكن الألم يخلص من القليل والكثير ويخلص إلى البدن كله فيكون من قتل اثنين بواحد يحكم في كل واحد منهما في القود حكمه على قاتل النفس منفردا فإذا أخذ العقل حكم على كل من جنى عليه جناية صغيرة أو كبيرة على العدد من عقل النفس كأنهم عشرة جنوا على رجل فمات فعلى كل واحد منهم عشر الدية. فإن قال قائل: أرأيت قول الله عز وجل: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر} هل فيه دلالة على أن لا يقتل حران بحر ولا رجل بامرأة؟ قيل له: لم نعلم مخالفا في أن الرجل يقتل بالمرأة فإذا لم يختلف أحد في هذا ففيه دلالة على أن الآية خاصة. فإن قال قائل: فيم نزلت؟ قيل: أخبرنا معاذ بن موسى عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: قال مقاتل أخذت هذا التفسير من نفر حفظ منهم مجاهد والضحاك والحسن قالوا قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية، قال: كان بدء ذلك في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل وكان لأحد الحيين فضل على الآخر فأقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر وبالعبد منهم الحر فلما نزلت هذه الآية رضوا وسلموا.
[قال الشافعي]: وما أشبه ما قالوا من هذا بما قالوا؛ لأن الله عز وجل إنما ألزم كل مذنب ذنبه ولم يجعل جرم أحد على غيره فقال: {الحر بالحر} إذا كان والله أعلم قاتلا له: {والعبد بالعبد} إذا كان قاتلا له: {والأنثى بالأنثى} إذا كانت قاتلة لها لا أن يقتل بأحد ممن لم يقتله لفضل المقتول على القاتل وقد جاء عن النبي ﷺ: (أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله).
[قال الشافعي]: وما وصفت من أنى لم أعلم مخالفا في أن يقتل الرجل بالمرأة دليل على أن لو كانت هذه الآية غير خاصة كما قال من وصفت قوله من أهل التفسير لم يقتل ذكر بأنثى ولم يجعل عوام من حفظت عنه من أهل العلم لا نعلم لهم مخالفا لهذا معناها ولم يقتل الذكر بالأنثى.