الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل الفرق بين الرجاء والتمني
والفرق بين الرجاء والتمني: إن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز.
و التمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا وجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ فطوى سبحانه بساقي الرجاء إلا عن هؤلاء.
وقال المغترون: إن الذين ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه واتبعوا ما أسخطه وتجنبوا ما يرضيه أولئك يرجون رحمته، وليس هذا ببدع من غرور النفس والشيطان لهم فالرجاء لعبد قد امتلأ قلبه من الإيمان باللّه واليوم الآخر فمثل بين عينيه ما وعد اللّه تعالى من كرامته وجنته امتد القلب مائلا إلى ذلك شوقا إليه وحرصا عليه في شبيه بالماد عنقه إلى مطلوب قد صار نصب عينيه.
وعلامة الرجاء الصحيح أن الراجي يخاف قوت الجنة وذهاب حظه منها بترك ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها فمثله مثل رجل خطب امرأة كريمة في منصب وشرف إلى أهلها فلما آن وقت العقد واجتماع الأشراف والأكابر وإتيان الرجل إلى الحضور أعلم عشية ذلك اليوم ليتأهب للحضور فتراه المرأة وأكابر الناس فأخذ في التأهب والتزين والتجميل فأخذ من فضول شعره وتنظف وتطيب ولبس أجمل ثيابه وأتى إلى تلك الدار متقيا في طريقه كل وسخ ودنس وأثر يصيبه أسد تقوى حتى الغبار والدخان وما هو دون ذلك، فلما وصل إلى الباب رحب به ربها ومسكن له في صدر الدار على الفرش والوسائد ورمقته العيون وقصد بالكرامة من كل ناحية فلو أنه ذهب بعد أن أخذ هذه الزينة فجلس في المزابل وتمرغ عليها وتمعك بها وتلطخ في بدنه وثيابه عليها من عذرة وقذر ودخل ذلك في شعره وبشره وثيابه فجاء على ذلك الحال إلى تلك الدار وقصد دخولها للوعد الذي سبق لها لقام إليه البواب بالضرب والطرد والضياع عليه والإبعاد له من بابها وطريقها فرجع متحيرا خاسئا.
فالأول: حال الراجي وهذا حال المتمني، وإن شئت مثلت حال الرجلين بملك هو من أغير الناس وأعظمهم أمانة وأحسنهم معاملة لا يضيع لديه حق أحد، وهو يعامل الناس من وراء ستر لا يراه أحد وبضائعه وأمواله وتجاراته وعبيده وإماؤه ظاهر بارز في داره للمعاملين فدخل عليه رجلان فكان أحدهما يعامله بالصدق والأمانة والنصيحة لم يجرب عليه غشا ولا خيانة ولا مكرا فباعه بضائعه كلها واعتمد مع مماليكه وجواريه ما يجب أن يعتمد معهم فكان إذا دخل عليه ببضاعة تخير له أحسن البضائع وأحبها إليه وإن صنعها بيده بذل جهده في تحسينها وتنميقها وجعل ما خفي عنها أحسن مما ظهر ويستلم المئونة ممن أمره أن يستلمها منه وامتثل ما أمره به السفير بينه وبينه في مقدار ما يعمله، صفته وهيئته وشكله ووقته وسائر شئونه وكان الآخر إذا دخل دخل بأخس بضاعة يجدها لم يخلصها من الغس ولا نصح فيها ولا اعتمد في أثرها ما قاله المترجم عن الملك والسفير بينه وبين الصناع والتجار بل كان يعملها على ما يواه.
ومع ذلك فكان يخون الملك في داره إذ هو غائب عن عينه فلا يلوح طمع إلا خانه ولا حرمة للملك إلا مد بصره إليها وحرص على إفساده ولا شي ء يسخط الملك إلا ارتكبه إذا قدر عليه فمضيا على ذلك مدة ثم قيل إن الملك يبرز اليوم لمعامليه حتى يحاسبهم ويعطيهم حقوقهم فوقف الرجلان بين يديه فعامل كل واحد منها بما يستحقه.
فتأمل هذين المثلين فإن الواقع مطابق لهما فالراجي على الحقيقة لما صارت الجنة نصب عينه ورجاءه وأمله امتد إليها قلبه وسعى لها سعيها فإن الرجاء هو امتد القلب وميله. وحقق رجاءه كمال التأهب وخوف القوت والأخذ بالحذر.
وأصله من التنحي ورجاء البئر ناحيته وارجاء السماء نواحيها وامتداد القلب إلى المحبوب منقطعا عما يقطعه عنه هو تنح عن النفس الأمّارة وأسبابها وما تدعو إليه وهذا الامتداد والميل والخوف من شأن النفس المطمئنة فإن القلب إذا انفتحت بصيرته فرأى الآخرة وما أعد اللّه فيها لأهل طاعته وأهل معصيته خاف وخف مرتحلا إلى اللّه والدار الآخرة وكان قبل ذلك مطمئنا إلى النفس، والنفس أم الشهوات والدنيا فلما انكشف عنه غطاء النفس خف وارتحل عن جوارها طالبا جوار العزيز الرحيم في جنات النعيم، ومن هنا صار كل خائف راجيا وكل راج خائفا فأطلق اسم أحدهما على الآخر فإن الراجي قلبه قريب الصفة الخائف هذا الراجي قد نحى قلبه عن مجاورة النفس والشيطان مرتحلا إلى اللّه قد رفع له من الجنة علم فشمر إليه وله مادا إليه قلبه كله.
و هذا الخائف فار من جوارهما ملتجئ إلى اللّه من حبسه في سجنها في الدنيا فيحبس معهما بعد الموت ويوم القيامة فإن المرء مع قرينه في الدنيا والآخرة، فلما سمع الوعيد ارتحل من مجاورة جار السوء في الدارين فأعطى اسم الخائف. ولما سمع الوعد امتد واستطار شوقا إليه وفرحا بالظفر به فأعطى اسم الراجي وحالاه متلازمان لا ينفك عنهما فكل راج خائف من فوات ما يرجوه كما أن كل خائف راج أمنه مما يخاف، فلذلك تداول الاسمان عليه قال تعالى: ﴿مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارࣰا ١٣﴾ [نوح:13] قالوا في تفسيرها لا تخافون للّه عظمة.
و قد تقدم أن اللّه سبحانه طوى الرجاء إلا عن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا.
و قد فسر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الإيمان بأنه ذو شعب وأعمال ظاهرة وباطنة، وفسر الهجرة بأنها هجر ما نهى اللّه عنه، والجهاد بأنه جهاد النفس في ذات اللّه فقال المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه. والمقصود أن اللّه سبحانه جعل أهل الرجاء من آمن وهاجر وأخرج من سواهم من هذه الأمم.
و أما الأماني فإنها رءوس أموال المفاليس أخروها في قالب الرجاء وتلك أمانيهم وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس فأظلم من دخلها فهو يستعمل قلبه في شواتها وكلما فعل ذلك منته حسن العاقبة والنجاة وأحالته على العفو والمغفرة والفضل وإن الكريم لا يستوفي حقه ولا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة ويسمى ذلك رجاء وإنما هو وسواس وأماني باطلة تقذف بها النفس إلى القلب الجاهل فيستريح إليها قال تعالى: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيࣰّا وَلَا نَصِيرࣰا ١٢٣﴾ [النساء:123]. فإذا ترك العبد ولاية الحق ونصرته ترك اللّه ولايته ونصرته ولم يجد له من دونه وليا ولا نصيرا، وإذا ترك ولايته ونصرته تولته نفسه والشيطان فصارا وليين له ووكل إلى نفسه فصار انتصاره لها بدلا من نصرة اللّه ورسوله فاستبدل بولاية اللّه ولاية نفسه وشيطانه، وبنصرته نصرة نفسه وهواه، فلم يدع للرجاء موضعا، فإذا قالت: لك النفس أنا في مقام الرجاء فطالبها بالبرهان وقل هذه أمنية فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، فالكيس يعمل أعمال البر على الطمع والرجاء والأحمق العاجز يعطل أعمال البر ويتكل على الأماني التي يسميها رجاء. واللّه الموفق.
هامش