الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل الفرق بين التوكل والعجز
والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته اعتمادا على اللّه وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه ورضا بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها فقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أعظم المتوكلين وكان يلبس لامته ودرعه بل ظاهر يوم أحد بين درعين واختفى في النار ثلاثا فكان متوكلا في السبب لا على السبب.
و أما العجز فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما فإما أن يعطل السبب عجزا منه ويزعم أن ذلك توكل ولعمر اللّه أنه لعجز وتفريط وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما بحيث يكون قلبه مع اللّه وبدنه مع السبب فهذا توكله عجز وعجزه توكل.
و هذا الوضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطا (فأحد الطرفين) عطل الأسباب محافظة على التوكل.
و الثاني: عطل التوكل محافظة على السبب (و الوسط) عليم أن حقيقة التوكل لا يتم إلا بالقيام بالسبب فتوكل على اللّه في نفس السبب، وأما من عطل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور ومخدوع متمن كمن عطل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذور وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري، فالمتوكل نظير الرجاء. والعجز نظير المنى فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلا له قد فرض إليه كما يفرض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته ونصحه وأمانته وخبرته وحسن اختياره والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حليته ما يصلحه فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدره سبحانه ودبره واقتضته حكمته وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه وأخبره سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفاية فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره وقعد كسلان طالبا للراحة مؤثرا للبدعة يقول الرزق ويطلب صاحبه كما يطلبه أجله وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي ولو أتى هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني فيقال له نعم هذا كله حق وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك، بسعيك أم بسعي غيرك. وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه، وإذا اختفى عليك هذا كله فمن أين علمت أن بقدر لك إتيانه عفوا بلا سعي ولا كد فكم من شي ء سعيت فيه فقدر لغيرك وكم من شي ء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقا! فإذا رأيت هذا عيانا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك؟.
و أيضا فهذا الذي أوردته عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار فهل تعطلها اعتمادا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الأرض من متوكل صير نفسه للّه وملأ قلبه من الثقة به ورجاءه وحسن الظن به فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى اللّه واطمأن إليه ووثق به.
و كان هذا من أقوى حصول أسباب رزقه فلم يعطل السبب وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده، فكان اشتغال قلبه باللّه وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسببه يمنعه من ذلك أو من كماله فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض عن أحدهما إلى الآخر ولا ريب أن هذا أكمل حالا ممن امتلأ قلبه بالسبب واشتغل به عن ربه وأكمل منهما من جمع الأمرين وهي حال الرسل والصحابة، فقد كان زكريا نجارا.
و قد أمر اللّه نوحا أن يصنع السفينة ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتمادا على التوكل بل كانوا أقوم الناس بالأمرين ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين وألسنتهم وقالوا في ذلك بحقيقة التوكل وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات اللّه وسلامه عليه وآله.
هامش