الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل الفرق بين الثقة والغرة
والفرق بين الثقة والغرة: إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها فكلما قويت تلك الأمارات قويت واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة واللفظة كأنها واللّه أعلم من الوثاق وهو الرباط فالقلب قد ارتبط بمن وثق به توكلا عليه وحسن ظن به فصار في وثاق محبته ومعاملته والاستناد إليه والاعتماد عليه فهو في وثاقه بقلبه وروحه وبدنه فإذا سار القلب إلى اللّه وانقطع إليه تقيد بحبه وصار في وثاق العبودية فلم يبق له مفزع في النوائب ولا ملجأ غيره و يصير عدته وشدته وذخيرته في نوائبه وملجأه في نوازله ومستعانه في حوائجه وضروراته.
و أما الغرة: فهي حال المغتر الذي غرته نفس وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني والغرور ثقتك بمن لا يوثق به وسكونك إلى من لا يسكن رجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير كحال المغتر بالسراب قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةࣲ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَاۤءً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـࣰٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٣٩﴾ [النور:39]، وقال تعالى في وصف المغترين: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَـٰلًا ١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ١٠٤﴾ [الكهف:103–104] وهؤلاء إذا انكشف الغطاء وثبتت حقائق الأمور علموا أنهم لم يكونوا على شي ء:
﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر:47] وفي أثر معروف إذا رأيت اللّه سبحانه يزيدك من نعمه وأنت مقيم على معصيته فاحذره فإنما هو استدراج يستدرجك به.
و شاهد هذا القرآن في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُواْ بِمَاۤ أُوتُوۤاْ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤﴾ [الأنعام:44] وهذا من أعظم الغرة أن تراه يتابع عليك نعمة وأنت مقيم على ما يكره فالشيطان موكل بالغرور، وطبع النفس الأمّارة الاغترار فإذا اجتمع الرأي والبغي والرأي المحتاج والشيطان الغرور والنفس المغترة لم يقع هناك خلاف، فالشياطين غروا المغترين باللّه وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط اللّه ويغضبه في عفوه وتجاوزه وحدثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم ثم دافعوهم بالتسويف حتى هجم الأجل فأخذوا على أسوأ أحوالهم وقال تعالى: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [الحديد:14] وقال تعالى: ﴿يَـٰۤأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ٥﴾ [فاطر:5] وأعظم الناس غرورا بربه من إذا مسه اللّه برحمة منه وفضل قالَ هذا رَبِّي أي أنا أهله وجدير به ومستحق له ثم قال: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ [الكهف:36] فظن أنه أهل لما أولاه من النعم مع كفره باللّه ثم زاد في غروره فقال: ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ﴾ [فصلت:50] يعني الجنة والكرامة فكذا تكون الغرة باللّه فالمغتر بالشيطان مغتر بوعوده وأمانيه وقد ساعد اغتراره بدنياه ونفسه فلا يزال كذلك حتى يتردى في آبار الهلاك.
هامش