الروح/المسألة الخامسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: المسألة الخامسة (و هي: أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شي ء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى، وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته أم كيف يكون حالها؟)


هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص، فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه، وكذلك من يقول: هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها، فلا تميز لها بعد الموت، بل لا وجود لها على أصولهم، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن، كما تبطل سائر صفات الحي، ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل العينة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنّة والآثار والاعتبار والعقل، والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرنا في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه.
و قد وصفها اللّه سبحانه وتعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93] وقال تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ۝٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةࣰ مَّرۡضِيَّةࣰ ۝٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ۝٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ۝٣٠ [الفجر:27–30]. وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد، وقال تعالى: ﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ۝٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ۝٨ [الشمس:7–8]. فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿ٱلَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ۝٧ [الانفطار:7] فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له.
و من هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن، ولهذا يقال عند المفارقة: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة [التي] 1 كانت في الجسد الخبيث.
و قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى [الزمر:42] فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت، وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض 2.
و الأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد.
و أخيرا أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض، وأنها تفتح لها أبواب السماء، فتصعد من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، أو ديوان أهل سجين، ثم ترد إلى الأرض، وأن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن وفي قبرها للسؤال.
و قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يردها اللّه إلى جسده 3، وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ 4 إلى يوم القيامة.
و قد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة 5، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار، وإلا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعلى بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى.
(و صح) عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بصنم اللام أي تأكل العلقة.
و قال ابن عباس: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجوف طير خضر ترد أنها الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلموا عن الحرب، فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغكم عنكم فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ۝١٦٩ [آل عمران:169] الآيات، رواه الإمام أحمد، وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.
و إذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه.
يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميزون في علمنا أظهر تميز، وليس ذلك التمييز راجعا إلى مجرد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر، بل التمييز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها، وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا، وبين روحيهما أعظم التباين والتمييز، وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما غاية الظهور.
و أخبرك بأمر: إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا، قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقلّ أن تخطى ء ذلك.
(و يحكى) عن الشافعي 6 رحمه اللّه في ذلك عجائب.
و قلّ أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد.
و إذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.



هامش

  1. زيادة على النص المطبوع.
  2. انظر مسند الإمام أحمد (4/ 287 و288).
  3. أخرج ابن ماجة في كتاب الجنائز رقم (1449) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بن البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت فلانا فأقرأ عليه مني السلام، قال: غفر اللّه لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، قالت: يا أبا عبد الرحمن أ ما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق بشجر الجنة» قال: بلى، قالت: فهو ذاك.
  4. البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، وهو أيضا ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ.
  5. قال تعالى: ﴿ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِيࣰّاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ۝٤٦ [غافر:46]
  6. الإمام المعروف، توفي بمصر سنة 204 هـ.


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون