مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا[عدل]

وأما قول القائل: لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصًا. وقول الآخر: لو قدر وعَذَّب لكان ظلمًا، والظلم نقص.

فيقال: أما المقالة الأولى فظاهرة، فإنه إذا قدر أنه يكون في ملكه ما لا يريده وما لا يقدر عليه، وما لا يخلقه ولا يحدثه، لكان نقصًا من وجوه:

أحدها: أن انفراد شيء من الأشياء عنه بالأحداث نقص لو قدر أنه في غير ملكه فكيف في ملكه؟ فإنا نعلم أنا إذا فرضنا اثنين: أحدهما: يحتاج إليه كل شيء، ولا يحتاج إلى شيء، والآخر: يحتاج إليه بعض الأشياء، ويستغنى عنه بعضها، كان الأول أكمل، فنفس خروج شيء عن قدرته وخلقه نقص، وهذه دلائل الوحدانية؛ فإن الاشتراك نقص بكل من المشتركين، وليس الكمال المطلق إلا في الوحدانية.

فإنا نعلم أن من قدر بنفسه كان أكمل ممن يحتاج إلى معين، ومن فعل الجميع بنفسه فهو أكمل ممن له مشارك ومعاون على فعل البعض، ومن افتقر إليه كل شيء، فهو أكمل ممن استغنى عنه بعض الأشياء.

ومنها: أن يقال: كونه خالقًا لكل شيء وقادرًا على كل شيء، أكمل من كونه خالقًا للبعض وقادرًا على البعض.

والقدرية لا يجعلونه خالقًا لكل شيء، ولا قادرًا على كل شيء.

والمتفلسفة القائلون: بأنه علة غائبة شر منهم، فإنهم لا يجعلونه خالقًا لشيء من حوادث العالم لا لحركات الأفلاك ولا غيرها من المتحركات ولا خالقًا لما يحدث بسبب ذلك، ولا قادرًا على شيء من ذلك، ولا عالمًا بتفاصيل ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلمًا} 1، وهؤلاء ينظرون في العالم ولا يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ولا أن الله قد أحاط بكل شيء علما.

ومنها: أنا إذا قدرنا مالكين؛ أحدهما: يريد شيئًا فلا يكون ويكون مالا يريد، والآخر: لا يريد شيئًا إلا كان ولا يكون إلا ما يريد، علمنا بالضرورة أن هذا أكمل.

وفي الجملة، قول المثبتة للقدرة يتضمن: أنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، فيقتضي كمال خلقه وقدرته ومشيئته، ونفاة القدر يسلبونه هذه الكمالات.

وأما قوله: إن التعذيب على المقدر ظلم منه. فهذه دعوى مجردة، ليس معهم فيها إلا قياس الرب على أنفسهم، ولا يقول عاقل: إن كل ما كان نقصًا من أي موجود كان، لزم أن يكون نقصًا من الله، بل ولا يقبح هذا من الإنسان مطلقًا، بل إذا كان له مصلحة في تعذيب بعض الحيوان، وأن يفعل به ما فيه تعذيب له حسن ذلك منه؛ كالذي يصنع القَزَّ، فإنه هو الذي يسعى في أن دود القز ينسجه، ثم يسعى في أن يلقي في الشمس ليحصل له المقصود من القز، وهو هنا له سعي في حركة الدود التي كانت سبب تعذيبه.

وكذلك الذي يسعى في أن يتوالد له ماشية، وتبيض له دجاج، ثم يذبح ذلك لينتفع به، فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسببًا أفضى إلى عذابه؛ لمصلحة له في ذلك.

ففي الجملة، الإنسان يحسن منه إيلام الحيوان لمصلحة راجحة في ذلك، فليس جنس هذا مذمومًا ولا قبيحًا ولا ظلمًا، وإن كان من ذلك ما هو ظلم.

وحينئذ، فالظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه، والله له كل شيء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره، أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته، فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا، امتنع الظلم منه.

وإما أن يقال: هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه، إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته، فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه.

وعلى هذا، فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا، وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه.

وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها.

ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب، والطب، والنحو، ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب، والطب والنحو، لم يمكنه أن يقدح فيما قالوا، لعدم علمه بتوجيهه.

والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب، والطب، والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفًا للقول بلا علم من العامي المحض، إذا قدح في الحساب، والطب، والنحو بغير علم بشيء من ذلك.

وهذا يتبين بالأصل الذي ذكرناه في الكمال، وهو قولنا: إن الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود يجب اتصافه به، وتنزيهه عما يناقضه، فيقال: خلق بعض الحيوان وفعله الذي يكون سببًا لعذابه، هل هو نقص مطلقًا أم يختلف؟

وأيضا، فإذا كانت في خلق ذلك حكمة عظيمة لا تحصل إلا بذلك، فأيما أكمل تحصيل ذلك بتلك الحكمة العظيمة أو تفويتها؟ وأيضا، فهل يمكن حصول الحكمة المطلوبة بدون حصول هذا؟

فهذه أمور إذا تدبرها الإنسان، علم أنه لا يمكنه أن يقول: خلق فعل الحيوان الذي يكون سببًا لتعذيبه نقص مطلقًا.

والمثبتة للقدر قد تجيب بجواب آخر، لكن ينازعهم الجمهور فيه. فيقولون: كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صفة كمال، بخلاف الذي يكون مأمورًا منهيًا، الذي يؤمر بشيء وينهى عن شيء. ويقولون: إنما قبح من غيره أن يفعل ما شاء لما يلحقه من الضرر، وهو سبحانه لا يجوز أن يلحقه ضرر.

والجمهور يقولون: إذا قدرنا من يفعل ما يريد بلا حكمة محبوبة تعود إليه، ولا رحمة وإحسان يعود إلى غيره، كان الذي يفعل لحكمة ورحمة أكمل ممن يفعل لا لحكمة ولا لرحمة.

ويقولون: إذا قدرنا مريدًا لا يميز بين مراده ومراد غيره، ومريدًا يميز بينهما، فيريد ما يصلح أن يراد وينبغي أن يراد، دون ما هو بالضد، كان هذا الثاني أكمل.

ويقولون: المأمور المنهي الذي فوقه آمر ناهٍ هو ناقص بالنسبة إلى من ليس فوقه آمر ناه، لكن إذا كان هو الآمر لنفسه بما ينبغي أن يفعل، والمحرم عليها ما لا ينبغي أن يفعل، وآخر يفعل ما يريده بدون أمر ونهي من نفسه، فهذا الملتزم لأمره ونهيه الواقعين على وجه الحكمة أكمل من ذلك، وقد قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2، وقال: «يا عبادي إني حَرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّمًا فلا تظالموا».

وقالوا أيضا: إذا قيل: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على وجه بيان قدرته، وأنه لا مانع له، ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده، ولا أن يجعله مريدًا، كان هذا أكمل ممن له مانع يمنعه مراده، ومعين لا يكون مريدًا أو فاعلا لما يريد إلا به.

وأما إذا قيل: يفعل ما يريد باعتبار أنه لا يفعل على وجه مقتضى العلم والحكمة؛ بل هو متسفه فيما يفعله وآخر يفعل ما يريد لكنَّ إرادته مقرونة بالعلم والحكمة؛ كان هذا الثاني أكمل.

وجماع الأمر في ذلك: أن كمال القدرة صفة كمال، وكون الإرادة نافذة لا تحتاج إلى معاون، ولا يعارضها مانع، وصف كمال.

وأما كون الإرادة لا تميز بين مراد ومراد، بل جميع الأجناس عندها سواء، فهذا ليس بوصف كمال، بل الإرادة المميزة بين مراد ومراد كما يقتضيه العلم والحكمة هي الموصوفة بالكمال، فمن نَقَصَه في قدرته وخلقه ومشيئته فلم يقدره قدره، ومن نقصه من حكمته ورحمته فلم يقدره حق قدره، والكمال الذي يستحقه إثبات هذا وهذا.


هامش

  1. [الطلاق: 12]
  2. [الأنعام: 54]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار