مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه
فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه
[عدل]وأما قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه، ولا نطلع عليه؟ إلى آخره.
فيقال له: هذه مسألة أخرى كبيرة، وهي مسألة محبة المؤمن ربه، فإن الكتاب والسنة تنطق بذلك، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله}1، وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}2، وقوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}3، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية 4.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقي في النار»، وأمثال ذلك من النصوص.
وهذه المحبة على حقيقتها عند سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، وأول من أنكر حقيقتها شيخ الجهمية الجعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس، ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ! ثم نزل فذبحه.
فإن هؤلاء أنكروا حقيقة الخلة؛ لأن الخلة كالمحبة، وأنكروا حقيقة التكليم وجعلوا التكليم ما يخلقه في بعض الأجسام، أو هو من جنس الإلهام، حتى ادعى طوائف منهم أن أحدنا قد يحصل له التكليم كما حصل لموسى عليه السلام بل سمع عين ما سمعه موسى، والله تعالى قد بين اختصاص موسى بذلك عن سائر الأنبياء، فكيف عن سائر المؤمنين والأولياء، كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} إلى قوله: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا}5؟ ففرق بين الإيحاء والتكليم، كما فرق بين الإيحاء والتكليم من وراء حجاب في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} 6، وكما بين هذه الخاصية في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}7.
ثم هؤلاء الذين أنكروا حقيقة المحبة، لم يمكنهم إنكار لفظها؛ لأنه جاء في الكتاب والسنة، ففسروا محبته بعبادته وطاعته، وامتثال أمره، أو محبة أوليائه، ونحو ذلك مما يضاف إليه، ولو علموا أن محبوب الغير لا يكون محبوبًا إلا إذا كان ذلك الغير محبوبًا فيكون هو المحبوب بالذات والوسائل يحبون بالعرض. ولو تدبروا قولهم لعلموا أنه مستحيل أن تحب عبادته أو أولياؤه إذا لم يكن هو محبوبًا، فإذا قدروا أنه هو شيء ليس محبوبًا لذاته، كانت محبة العمل الذي يحصل الأكل والشرب إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب والنكاح، وكان ذلك من جنس محبة سائر المشتهيات؛ فإذا تكون محبة الله ورسوله إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب، إذا كان الله لا يحب لنفسه على رأي هؤلاء.
وهذه المسألة أصل عبادة الله، كما أن المسألة الأولى أصل الإقرار بالله، فتلك فيها ذهاب النفس والمال، كما قال تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} الآية 8.
ولهذا نعت المحبين المحبوبين بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} 9، بل أصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإنكار الحب والبغض يتضمن إنكار ولاية الله وعداوته، كما أنكر بعض الفقهاء قوله: «إنه لا يعزّ من عاديت»، وقوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} 10 وهذا باب طويل. وقد كتبت في هذين الأصلين عددًا يبلغ أكثر من الأسفار، وكلام الأولين والآخرين من أهل العلم والإيمان موجود في هذا.
فقول القائل: كيف نتصور عبادة من لا نعرفه، إذ الإيمان بما لا نعرفه، أو الطاعة لما لا نعرفه، أو التسبيح والتحميد بما لا نعرفه ونحو ذلك من العبادات، فهذه الأمور لا يمكن أن تتعلق بمجهول من كل وجه، إذ ذلك ممتنع لا يجب أن تكون معرفته للمعبود المحبوب كمعرفته بنفسه، بل ليس لنا في الوجود من نحبه أو نبغضه، ونحن نعرفه كمعرفة الله به، والمعرفة قد تكون من جهة الاستدلال والنظر.
ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان، والنبي ﷺ أعلمنا بالله. وقد قال: «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها، المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه، وهي مسألة كبيرة.
والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها: أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل، كما قال النبي ﷺ: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه، وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع، وبعضه لفظي، مع أن الذي عليه أئمة أهل السنة والحديث وهو مذهب مالك، والشافعي، وغيرهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وأئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم مع جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب كما تقوله الخوارج، ولا يسلب جميع الإيمان كما تقوله المعتزلة، لكن بعض الناس قال: إن إيمان الخلق مستوٍ، فلا يتفاضل إيمان أبي بكر وعمر وإيمان الفساق، بناء على أن التصديق بالقلب واللسان، أو بالقلب، وذلك لا يتفاضل.
وأما عامة السلف والأئمة، فعندهم أن إيمان العباد لا يتساوى، بل يتفاضل، وإيمان السابقين الأولين أكمل من إيمان أهل الكبائر المجرمين، ثم النزاع مبني على الأصلين:
أحدهما: العمل، هل يدخل في مطلق الإيمان؟ فإن العمل يتفاضل بلا نزاع، فمن أدخله في مطلق الإيمان قال: يتفاضل، ومن لم يدخله في مطلق الإيمان احتاج إلى الأصل الثاني وهو: أن ما في القلب من الإيمان هل يتفاضل؟ فظن من نفي التفاضل أن ليس في القلب من محبة الله، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه وأمثال ذلك مما قد يخرجه هؤلاء عن محض التصديق ما هو متفاضل بلا ريب، ثم نفس التصديق أيضا متفاضل من جهات:
منها: أن التصديق بما جاء به الرسول ﷺ قد يكون مجملا، وقد يكون مفصلا، والمفصل من المجمل، فليس تصديق من عرف القرآن ومعانيه، والحديث ومعانيه، وصدق بذلك مفصلا، كمن صدق أن محمدا رسول الله ﷺ، وأكثر ما جاء به لا يعرفه أو لا يفهمه.
ومنها: أن التصديق المستقر المذكور أتم من العلم الذي يطلب حصوله مع الغفلة عنه.
ومنها: أن التصديق نفسه يتفاضل كنهه، فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ أعلى الدرجات، درجات الإيقان، كتصديق زعزعته الشبهات، وصدفته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشبه المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد.
ولهذا كان المشائخ أهل المعرفة والتحقيق، السالكون إلى الله أقصد طريق متفقين على الزيادة والنقصان في الإيمان والتصديق، كما هو مذهب أهل السنة والحديث في القديم والحديث، وهذه مسائل كبار، لا يمكن فيها إلا الإطناب بمثل هذا الجواب.
هامش
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [النساء: 163، 164]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [التوبة: 111]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [الممتحنة: 1]