مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث
فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث
[عدل]وأما قول القائل: لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث، والحادث إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالا لم يجز وصفه به.
فيقال أولا: هذا معارض بنظيره من الحوادث التي يفعلها، فإن كليهما حادث بقدرته ومشيئته، وإنما يقترنان في المحل. وهذا التقسيم وارد على الجهتين.
وإن قيل في الفرق: المفعول لا يتصف به، بخلاف الفعل القائم به، قيل في الجواب: بل هم يصفونه بالصفات الفعلية، ويقسمون الصفات إلى نفسية وفعلية، فيصفونه بكونه خالقًا ورازقًا بعد أن لم يكن كذلك، وهذا التقسيم وارد عليهم.
وقد أورده عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، فزعموا أن صفات الأفعال ليست صفة كمال ولا نقص.
فيقال لهم: كما قالوا لهؤلاء في الأفعال التي تقوم به، إنها ليست كمالا ولا نقصًا.
فإن قيل: لابد أن يتصف إما بنقص أو بكمال. قيل: لابد أن يتصف من الصفات الفعلية إما بنقص وإما بكمال، فإن جاز ادعاء خلو أحدهما عن القسمين، أمكن الدعوى في الآخر مثله، وإلا فالجواب مشترك.
وأما المتفلسفة فيقال لهم: القديم لا تحله الحوادث، ولا يزال محلا للحوادث عندكم، فليس القدم مانعًا من ذلك عندكم، بل عندكم هذا هو الكمال الممكن الذي لا يمكن غيره، وإنما نفوه عن واجب الوجود؛ لظنهم عدم اتصافه به.
وقد تقدم التنبيه على إبطال قولهم في ذلك، لاسيما وما قامت به الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده عن علة تامة، أزلية موجبة لمعلولها؛ فإن العلة التامة الموجبة يمتنع أن يتأخر عنها معلولها، أو شيء من معلولها، ومتى تأخر عنها شيء من معلولها كانت علة له بالقوة لا بالفعل، واحتاج مصيرها علة بالفعل إلى سبب آخر؛ فإن كان المخرج لها من القوة إلى الفعل هو نفسه، صار فيه ما هو بالقوة وهو المخرج له إلى الفعل، وذلك يستلزم أن يكون قابلا أو فاعلا، وهم يمنعون ذلك لامتناع الصفات التي يسمونها التركيب.
وإن كان المخرج له غيره كان ذلك ممتنعًا بالضرورة والاتفاق؛ لأن ذلك ينافى وجوب الوجود؛ ولأنه يتضمن الدور المعي والتسلسل في المؤثرات، وإن كان هو الذي صار فاعلا للمعين بعد أن لم يكن، امتنع أن يكون علة تامة أزلية، فقدم شيء من العالم يستلزم كونه علة تامة في الأزل، وذلك يستلزم ألاَّ يحدث عنه شيء بواسطة وبغير واسطة، وهذا مخالف للمشهود.
ويقال ثانيا في إبطال قول من جعل حدوث الحوادث ممتنعًا: هذا مبني علي تجدد هذه الأمور بتجدد الإضافات، والأحوال والأعدام؛ فإن الناس متفقون على تجدد هذه الأمور. وفرق الآمدي بينهما من جهة اللفظ، فقال: هذه حوادث وهذه متجددات، والفروق اللفظية لا تؤثر في الحقائق العلمية.
فيقال: تجدد هذه المتجددات إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن أوجب له نقصًا لم يجز وصفه به.
ويقال ثالثا: الكمال الذي يجب اتصافه به هو الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الذي يتصف به موجود، والحوادث المتعلقة بقدرته ومشيئته يمتنع وجودها جميعًا في الأزل فلا يكون انتفاؤها في الأزل نقصًا؛ لأن انتفاء الممتنع ليس بنقص.
ويقال رابعًا: إذا قدر ذات تفعل شيئًا بعد شيء، وهي قادرة على الفعل بنفسها، وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئًا، بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك، كانت الأولى أكمل من الثانية. فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة، وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال.
ويقال خامسًا: لا نُسَلِّم أن عدم هذه مطلقًا نقص ولا كمال، ولا وجودها مطلقًا نقص ولا كمال، بل وجودها في الوقت الذي اقتضته مشيئته وقدرته وحكمته هو الكمال، ووجودها بدون ذلك نقص، وعدمها مع اقتضاء الحكمة عدمها كمال، ووجودها حيث اقتضت الحكمة وجودها هو الكمال.
وإذا كان الشيء الواحد يكون وجوده تارة كمالا وتارة نقصًا، وكذلك عدمه، بطل التقسيم المطلق، وهذا كما أن الشيء يكون رحمة بالخلق إذا احتاجوا إليه كالمطر، ويكون عذابًا إذا ضرهم، فيكون إنزاله لحاجتهم رحمة وإحسانًا، والمحسن الرحيم متصف بالكمال، ولا يكون عدم إنزاله حيث يضرهم، نقصًا، بل هو أيضا رحمة وإحسان، فهو محسن بالوجود حين كان رحمة، وبالعدم حين كان العدم رحمة.
هامش