مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم
فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم
[عدل]وما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم، إنما يدل على مذهب السلف والأئمة. أما الفلاسفة، فحجتهم إنما تدل على أنه لم يزل فاعلا، كما أن حجة الأشعرية إنما تدل على أنه لم يزل متكلمًا، وكل من الفريقين احتج على قدم العين بأدلة لا تقتضي ذلك.
وأما المتكلمون، فعمدتهم أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، وكل من هاتين القضيتين هي صحيحة باعتبار، وتدل على الحق، فما لم يسبق الحوادث المحدودة التي لها أول فهو حادث، وهذا معلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء. فكل ما علم أنه كان بعد حادث له ابتداء، أو مع حادث له ابتداء، فهو أيضا حادث له ابتداء بالضرورة.
وكذلك ما لم يخل من هذه الحوادث.
وأيضا، فما لم يخل من الحوادث مع حاجته إليها فهو حادث، وما لم يخل من حوادث يحدثها فيه غيره فهو حادث، بل ما احتاج إلى الحوادث مطلقًا فهو حادث، وما قامت به حوادث من غيره فهو حادث، وما كان محتاجًا إلى غيره فهو حادث، وما قامت به الحوادث فهو حادث.
وهذا يبطل قول المتفلسفة القائلين: بقدم الفلك كأرسطو وأتباعه؛ فإن أرسطو يقول: إنه محتاج إلى العلة الأولى للتشبه بها، وبرقلس وابن سينا ونحوهما يقولون: إنه معلول له أي موجب له والأول علة فاعلة له، فالجميع يقولون: إنه محتاج إلى غيره مع قيام الحوادث به، وإنه لم يخل منها، ويقولون: هو قديم، وهذا قول باطل.
ويقول ابن سينا: إنه ممكن يقبل الوجود والعدم مع قيام الحوادث به، وهو قديم أزلي. وهذا باطل، فإن كونه محتاجًا إلى غيره يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه، فإن واجب الوجود بنفسه لا يكون محتاجًا إلى غيره وإن لم يكن واجبًا بنفسه كان ممكنًا يقبل الوجود والعدم، وحينئذ فيكون محدثًا من وجوه:
منها: أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثًا، وأما القديم الذي يمتنع عدمه فلا يقبل الوجود والعدم.
ومنها: أنه إذا كان مع حاجته تحله الحوادث من غيره، دل على أن غيره متصرف فيه قاهر له، تحدث فيه الحوادث ولا يمكنه دفعها عن نفسه، وما كان مقهورًا مع غيره لم يكن موجودًا بنفسه، ولا مستغنيًا بنفسه، ولا عزيزًا ولا مستقلا بنفسه، وما كان كذلك لم يكن إلا مصنوعًا مربوبًا فيكون محدثًا.
وأيضا، فإذا لم يخل من الحوادث التي يحدثها فيه غيره ولم يسبقها، بل كانت لازمة له، دل على أنه في جميع أوقاته مقهورًا مع الغير متصرفًا له، يدل على أنه مفتقر إليه دائمًا، وهذا يبطل قول المتكلمين الذين يقولون: إنما يفتقر إليه حال حدوثه فقط، كما يبطل قول المتفلسفة الذين يقولون: يفتقر إليه في دوامه مع قدمه وعدم حدوثه.
والتحقيق: أنه محدث يفتقر إليه حال الحدوث وحال البقاء. وكونه محلا للحوادث من غيره، أو محلا للحوادث مع حاجته، يدل على أنه محدث. وأما كونه محلا لحوادث يحدثها هو فهذا لا يستلزم لا حاجته ولا حدوثه؛ ولهذا كان الصحابة يذكرون أن حدوث الحوادث في العالم يدل على أنه مربوب، كما قد ذكرنا هذا في موضع آخر، والمربوب محدث، وكل ما سوى الله تحدث فيه الحوادث من غيره وهو محتاج إلى غيره، فكل فلك فإنه يحركه غيره فتحدث فيه الحركة من غيره، فالفلك المحيط يحركها كلها، وهو متحرك بخلاف حركته فتحدث فيه مناسبة حادثة بغير اختياره وهي مستقلة بحركتها لا تحتاج فيها إليه، فامتنع أن يكون ربا لها، والشمس والقمر والكواكب يحركها غيرها فكلها مسخرات بأمره.
هامش