مجموع الفتاوى/المجلد السادس/سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه[عدل]

سئل رحمه الله تعالى:

ما هو لقاء الله سبحانه الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1، وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} 2، وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين، وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ}3، واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين، كقوله في دعائه: «لقاؤك حق»، وقوله: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» الحديث؟

وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره: جزاء ربهم أو نحوه، بكونه مما لا يصح أن يضاف إلى الله تعالى حقيقة، فيستحيل ظاهره ويكون المراد منه غير ظاهره، ويصار فيه إلى تأويل معين؟ أم هو مستغن عن ذلك لجوازه في نفسه؟ وكيف يتصور منا محبة من لا نعرفه، ولا نطلع عليه؟ أم كيف يتأتى شوقه وحنين القلوب إليه، وإيثاره على ما سواه، مما هو عندنا معروف ولقلوبنا مألوف؟ ولنا به منفعة عاجلة، ولذة حاصلة. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كراهية الموت، وكلنا نكره الموت. فرد قولها بما تضمنه الحديث: «من رؤية المؤمن ما له عند الله من النعيم، فأحب الله لقاءه» الحديث.

وقد يعترض على هذا سؤال، وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه، لا لمجرد لقاء الله تعالى فكيف يجازي عليه بحب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة، وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصًا؟

بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي، بالجواب الصحيح الكافي، طلبًا للأجر الوافي إن شاء الله تعالى؟

فأجاب رضي الله عنه وأرضاه:

الحمد لله، أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير، وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية، كالمعتزلة وغيرهم.

وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}4: ولايرائي، أوقال: ولا يخبر به أحدًا، وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين:

أحدهما: السير إلى الملك، والثاني: معاينته، كما قال: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}5، فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبهما.

وأما المعاينة من غير مسير إليه كمعاينة الشمس والقمر فلا يسمى لقاء. وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه.

ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}6، و{إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}7، وقال: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} الآية 8، وقال: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} 9، وقال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}10، وقال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}11.

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه لقى النبي في طريق المدينة وهو جُنُب، فانفتل فذهب فاغتسل، ففقده النبي ، فلما جاء قال: «أين كنت؟» قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله : «سبحان الله ! إن المؤمن لا ينجس» وفي لفظ: لقيت رسول الله ، وهو في مسلم عن حذيفة أيضا أن رسول الله لقيه وهو جنب، فذكر معناه.

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال» الحديث.

وفي حديث عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله : «القتلى ثلاثة: رجل مؤمن جاهد بماله ونفسه في سبيل الله، حتى إذا لقى عدوًا قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت ظل عرشه، لا يفضله إلا النبيون بدرجة النبوة، ورجل قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقى العدو قاتل حتى قتل، فمصمصة تحت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء للخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقى العدو قاتل في سبيل الله حتى قتل، فإن ذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق» رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه، ومثل هذا كثير في كلام العرب كقول الشاعر:

متى ما تلقى فرد من ** ترجو وأبو السنل

ويستعمل اللقاء في لقاء العدو، ولقاء الولي، ولقاء المحبوب، ولقاء المكروه، وقد يستعمل فيما يتضمن مباشرة الملاقي ومماسته مع اللذه والألم، كما قال: «إذا التقا الختانان وجب الغسل»، وفي الحديث الصحيح: «إذا قعد بين شُعَبِها الأربع والتزق الختانان فقد وجب الغسل».

ومن نحو هذا قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}12 وقوله: {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا }13، وقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} 14، ويقال: فلان لقي خيرًا ولقى شرًا، وقد قال النبي : «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»«1».

وقد يقال: إن اللقاء في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}15 ؛ لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور، وقد قيل: إن الموت نفسه يشهد ويرى ظاهرًا. وقيل: المرئي أسبابه.

وقد جاء في الكتاب والسنة ألفاظ من نحو "لقاء الله"، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}16، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا}17، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 18، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}19، وقوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}20، وقوله: {كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}21، وقوله: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 22، وقوله: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} 23، وقوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}24، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}25.

لكن يلزم هؤلاء مسألة تكلم الناس فيها، وهي أن القرآن قد أخبر أنه يلقاه الكفار ويلقاه المؤمنون، كما قال: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا }26.

وقد تنازع الناس في الكفار: هل يرون ربهم مرة ثم يحتجب عنهم، أم لا يرونه بحال، تمسكًا بظاهر قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}27، ولأن الرؤية أعظم الكرامة والنعيم، والكفار لا حظ لهم في ذلك.

وقالت طوائف من أهل الحديث والتصوف: بل يرونه ثم يحتجب، كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي في الصحيح وغيره، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مع موافقة ظاهر القرآن، قالوا: وقوله: {لَّمَحْجُوبُون} يشعر بأنهم عاينوا ثم حجبوا، ودليل ذلك قوله: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فعلم أن الحجب كان يومئذ. فيشعر بأنه يختص بذلك اليوم، وذلك إنما هو في الحجب بعد الرؤية، فأما المنع الدائم من الرؤية فلا يزال في الدنيا والآخرة، قالوا: ورؤية الكفار ليست كرامة ولا نعيمًا؛ إذ اللقاء ينقسم إلى لقاء على وجه الإكرام، ولقاء على وجه العذاب، فهكذا الرؤية التي يتضمنها اللقاء.

ومما احتجوا به الحديث الصحيح حديث سفيان بن عيينة: حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟» وقد روى مسلم وأبو داود وأحمد في المسند وابن خزيمة في التوحيد وغيره قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تُضَارُّون في رؤية الشمس ليست في سَحَابة؟» قالوا: لا. قال: «والذي نفسي بيده، لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما»، قال: «فيلقى العبد فيقول: أي فل، ألم أكرمك وأسَوِّدْك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب» قال: «فيقول: فظننت أنك ملاقي. فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم قال: يلقي الثاني فيقول له: مثل ذلك، فيقول: أي رب، آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثنى بخير ما استطاع. فيقول: هاهنا إذا». قال: «ثم يقال: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد على؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، فذلك المنافق ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط الله عليه»، وتمام الحديث قال: «ثم ينادي مناد: ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم، وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا، فيقول: ما هؤلاء؟ فنقول: من عباد الله المؤمنين، آمنا بربنا ولم نشرك به شيئًا، وهو ربنا تبارك وتعالى وهو يأتينا وهو يثبتنا، وهو ذا مقامنا حتى يأتينا ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقول: انطلقوا، فننطلق حتى نأتي الجسر، وعليه كَلاليب من نار تخطف، عند ذلك حلت الشفاعة لي، اللهم سَلِّم، اللهم سَلِّم، فإذا جاوزوا الجسر، فكل من أنفق زوجًا من المال في سبيل الله مما يملك، فتكلمه خزنة الجنة تقول: يا عبد الله، يا مسلم هذا خير»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، إن هذا عبد لا تَوَى عليه، يدع بابًا ويلج من آخر؟ فضرب كتفه وقال: «إني أرجو أن تكون منهم». قال سفيان ابن عيينة: حفظته أنا وروح بن القاسم، وردده علينا مرتين أو ثلاثًا.

وسئل سفيان عن قوله: «ترأس وتربع» فقال: كان الرجل إذا كان رأس القوم كان له الرباع وهو الربع. وقال النبي لعدي بن حاتم، حيث قال: يا رسول الله، إني على دين قال: «أنا أعلم بدينك منك، إنك مستحل الرباع ولا يحل لك».

وهذا الحديث معناه في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة، يصدق بعضها بعضًا، وفيه أنه سئل عن الرؤية فأجاب بثبوتها، ثم أتبع ذلك بتفسيره وذكر أنه يلقاه العبد، والمنافق، وأنه يخاطبهم.

وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين، بعد ما تجلى لهم أول مرة، ويسجد المؤمنون دون المنافقين. وقد بسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.

وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فيمتنع على أصلهم لقاء الله؛ لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة، وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي .

وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية، قد بينا فسادها مبسوطا، وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية.

وهذه المسألة من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها، وصنفوا فيها مصنفات مشهورة.

والثاني: أن عندهم لا يتصور الكَدْح إليه، ولا العَرْض عليه، ولا الوقوف عليه، ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده، ولا أن يشار إليه، ولا أن يرجع إليه، ولا يؤوب إليه، إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة وبينهما فضل يقتضى تقربًا إليه ودنوًا منه، وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا، وهذا كله محال عندهم، فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق كما اتفق السلف والأئمة، وصرحوا بأنه مباين للخلق، ليس داخلا في المخلوقات، ولا المخلوقات داخلة فيه بل تارة يجعلونه حالا بذاته في كل مكان، وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات، وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة، مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين:

إما أن يصفوه بما يقتضى عدمه وتعطيله، فينكرونه، وإن كانوا يقرون به، فيجمعون في قولهم بين الإقرار والإنكار، والنفي والإثبات. وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين، ويقول: إن هذا غاية التحقيق والعرفان.

وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منها، أو صفة لها، وذلك أيضا يقتضي قولهم بعدم الخالق، وتعطيل الصانع وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه، ثم يجدون في المخلوقات مباينًا في ربوبية المخلوق، فيقولون بالجمع بين النقيضين، كما تقدم.

وقد يقولون بعبادة الأصنام، وأن عباد الأصنام على حق، وعباد العجل على حق وأنه ما عبد غير الله قط، إذ لا غير عندهم، بل الوجود واحد، ويقولون بامتناع الدعوة إليه، وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه، وهم يقولون: ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية، بل هو عين المدعو، فكيف يدعو إلى نفسه؟

وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جدًا.

وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون اللقاء على أن المراد به لقاء جزاء ربهم، ويقولون: إن الجزاء قد يرى، كما في قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}28، فإن ضمير المفعول في {رَأَوْهُ} عائد إلى الوعد، والمراد به الموعود، أي: فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا.

ومن قال: إن الضمير عائد هنا إلى الله، فقوله ضعيف، وفساد قول الذين يجعلون المراد لقاء الجزاء دون لقاء الله معلوم بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسنة، يظهر فساده من وجوه:

أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.

الثاني: أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن، فلابد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك، كما قيل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}29 ولو قال قائل: رأيت زيدًا، أو لقيته مطلقًا، وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع، ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة، مطلقًا غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره.

الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليسًا وتلبيسًا، يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس، وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم، وأخبر أن عليه بيانه، ولا يجوز أن يقال: ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها؛ لوجهين:

أحدهما: أن يقال: ليس في العقل ما ينافى ذلك، بل الضرورة العقلية، والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن، كما قال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}30، وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن، فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، دون من يقلد فيها بغير نظر تام.

الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلا عقليًا ينافى مدلول القرآن لكان خفيًا دقيقًا، ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها، ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء، إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب.

ومعلوم أن المخاطب الذي أخبر أنه بين للناس، وأن كلامه بلاغ مبين، وهدى للناس إذا أراد بكلامه ما لا يدل عليه ولا يفهم منه إلا مثل هذه القرينة، لم يكن قد بين وهدى، بل قد كان لبس وأضل، وهذا مما اتفق المسلمون على وجوب تنزيه الله ورسوله، بل وعامة الصحابة والأئمة من ذلك.

الرابع: أن قول النبي في الحديث المتفق عليه: «اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وإليك حاكمت، وبك خاصمت، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت»، وفي لفظ: «أعوذ بك أن تضلني، أنت الحي الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون». ففي الحديث فرق بين لقائه وبين الجنة والنار، والجنة والنار تتضمن جزاء المطيعين والعصاة، فعلم أن لقاءه ليس هو لقاء الجنة والنار.

الخامس: أن النبي ذكر في غير حديث ما يبين لقاء العبد ربه، كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي أنه قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئًا قَدَّمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئًا قدمه، فتستقبله النار، فمن استطاع أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة»، إلى أمثال ذلك من الأحاديث.

السادس: أنه لو أريد بلقاء الله بعض المخلوقات إما جزاء وإما غير جزاء لكان ذلك واقعًا في الدنيا والآخرة، فكان العبد لا يزال ملاقيًا لربه، ولما علم المسلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن لقاء الله لا يكون إلا بعد الموت، علم بطلان أن اللقاء لقاء بعض المخلوقات، ومعلوم أن الله قد جازى خلقًا على أعمالهم في الدنيا بخير وشر، كما جازي قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وكما جازى الأنبياء وأتباعهم، ولم يقل مسلم: إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله، ولو قال قائل: إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلا، أو النار، لقيل له: ليس في لفظ هذا لقاء مخصوص، ولا دليل عليه، وليس هو بأولى من أن يقال: لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته، أو بعض الشياطين، وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل ذلك.

الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازًا، ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا، بل حيث ذكر هذا اللفظ، فإنما يراد به لقاء المذكور؛ إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به، فلا يدل عليه.

الوجه الثامن: أن قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} 31، فلو كان اللقاء هو لقاء جزائه، لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم، وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده؛ إذ الإعداد مقصوده الوصول، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود؟ هذا نزاع بَيِّن العيِّ الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين، لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف، لا في حصول شيء من النعيم المخلوق.

الوجه التاسع: أن قول النبي في الحديث الصحيح: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه»، أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد، وهذا يمتنع حمله على الجزاء؛ لأن الله لا يكره جزاء أحد، ولأن الجزاء لا يلقاه الله، ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقي العبد، فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقائه سائر المخلوقات، فهذا تعطيل النص، وإما أن يقال: بل هو لاق لبعضها، فيتناقض قول الجهمي ويبطل.

ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى، يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلا عن أكثرها.


هامش

  1. [البقرة: 46]
  2. [البقرة: 223]
  3. [العنكبوت: 5]
  4. [الكهف: 110]
  5. [الانشقاق: 6]
  6. [الأنفال: 45]
  7. [الأنفال: 15]
  8. [البقرة: 14]
  9. [البقرة: 76]
  10. [الأنفال: 44]
  11. [آل عمران: 13]
  12. [الجمعة: 8]
  13. [الإنسان: 11]
  14. [الفرقان: 75]
  15. [آل عمران: 143]
  16. [الأنعام: 94]
  17. [الأنعام: 30]
  18. [الكهف: 48]
  19. [الفجر: 14]
  20. [النور: 39]
  21. [القيامة: 11، 12]
  22. [العلق: 8]
  23. [البقرة: 156]
  24. [غافر: 3]
  25. [الغاشية: 25، 26]
  26. [الانشقاق: 612]
  27. [المطففين: 15]
  28. [الملك: 2527]
  29. [يوسف: 82]
  30. [سبأ: 6]
  31. [الأحزاب: 43، 44]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار