مجموع الفتاوى/المجلد السادس/سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
مجموع فتاوى ابن تيمية المؤلف ابن تيمية
سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات


سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات[عدل]

سُئل: عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات صفات الله تعالى وإنما الذين انتسبوا إليه من أتباعه في المذهب ظنوا أنه كان من أهل الإثبات المنافي للتعطيل، جهلا منهم بما جرى له، فإنه اتفق له أمر عجيب.

وهو أن ناسا من الزنادقة قد علموا زهد أحمد وورعه وتقواه، وأن الناس يتبعونه فيما يذهب إليه، فجمعوا له كلامًا في الإثبات، وعزوه إلى تفاسير وكتب أحاديث، وأضافوا أيضا إلى الصحابة والأئمة وغيرهم، حتى إليه هو شيئًا كثيرًا من ذلك على لسانه وجعلوا ذلك في صندوق مقفل، وطلبوا من الإمام أحمد أن يستودع ذلك الصندوق منهم، وأظهروا أنهم على سفر ونحو ذلك، وأنهم غرضهم الرجوع إليه ليأخذوا تلك الوديعة، وهم يعلمون أنه لا يتعرض لما في الصندوق، فلم يزل عنده ذلك إلى أن توفاه الله، فدخل أتباعه، والذين أخذوا عنه العلم، فوجدوا ذلك الصندوق وفتحوه، فوجودا فيه تلك الأحاديث الموضوعة والتفاسير والنقول الدالة على الإثبات. فقالوا: لو لم يكن الإمام أحمد يعتقد ما في هذه الكتب، لما أودعها هذا الصندوق واحترز عليها، فقرؤوا تلك الكتب، وأشهروها في جملة ما أشهروا من تصانيفه وعلومه وجهلوا مقصود أولئك الزنادقة، الذين قصدوا فساد هذه الأمة الإسلامية، كما حصل مقصود بولص بإفساد الملة النصرانية، بالرسائل التي وضعها لهم.

فأجاب:

من قال تلك الحكاية المفتراة عن أحمد بن حنبل، وأنه أودع عنده صناديق فيها كتب لم يعرف ما فيها حتى مات، وأخذها أصحابه فاعتقدوا ما فيها، فهذا يدل على غاية جهل هذا المتكلم، فإن أحمد لم يأخذ عنه المسلمون كلمة واحدة من صفات الله تعالى قالها هو، بل الأحاديث التي يرويها أهل العلم في صفات الله تعالى كانت موجودة عند الأمة قبل أن يولد الإمام أحمد، وقد رواها أهل العلم غير الإمام أحمد، فلا يحتاج الناس فيها إلى رواية أحمد، بل هي معروفة ثابتة عن النبي ولو لم يخلق أحمد.

وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة؛ لما ظهرت محن الجهمية الذين ينفون صفات الله تعالي ويقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، وأن القرآن ليس هو كلام الله، بل هو مخلوق من المخلوقات، وأنه تعالى ليس فوق السموات، وأن محمدا لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر، فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم رغبة ومن الناس من أجابهم رهبة ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم.

وصار من لم يجبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وإن كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته؛ وربما قتلوه أو حبسوه.

والمحنة مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم، والواثق، ثم رفعها المتوكل، فثبت الله الإمام أحمد، فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله تعالى وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه، فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 1.

فمن أعطى الصبر واليقين، جعله الله إمامًا في الدين. وما تكلم به من السنة فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي . فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد بن عبد الله، وما قاله الإمام أحمد هو قول الأئمة قبله، كمالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وقول التابعين قبل هؤلاء، وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي ، وأحاديث السنة معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام.

والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة، متواتر بإثبات صفات الله تعالى وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي . فأما أن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين، بقوله، أو بقول غيره من العلماء، فهذا لا يقوله إلا جاهل.

وأحمد بن حنبل نهى عن تقليده وتقليد غيره من العلماء في الفروع، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. وقال: لا تقلدني، ولا مالكًا، ولا الثوري، ولا الشافعي، وقد جرى في ذلك على سنن غيره من الأئمة، فكلهم نهوا عن تقليدهم، كما نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فكيف يقلد أحمد وغيره في أصول الدين؟

وأصحاب أحمد، مثل أبي داود السِّجِسْتاني، وإبراهيم الحربي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وبَقِيّ بن مَخْلد، وأبي بكر الأثرم، وابنيه صالح وعبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن مسلم ابن وارة، وغير هؤلاء الذين هم من أكابر أهل العلم والفقه والدين، لا يقبلون كلام أحمد ولا غيره إلا بحجة يبينها لهم، وقد سمعوا العلم كما سمعه هو، وشاركوه في كثير من شيوخه، ومن لم يلحقوه أخذوا عن أصحابه الذين هم نظراؤه، وهذه الأمور يعرفها من يعرف أحوال الإسلام وعلمائه.


هامش

  1. [السجدة: 24]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار