مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة
فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة
[عدل]وقد سلك طائفة من أئمة النظار أهل المعرفة بالكلام والفلسفة أن يجمعوا بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، ورأوا أن هذا غاية المعرفة، وسموا الجواب الذي أجابوا به الفلاسفة عن حججهم: الجواب الباهر، فوافقوا كل واحدة من الطائفتين فأخطؤوا وتناقضوا لما جمعوا بين خطأ الطائفتين، فكان قولهم ينقض بعضه بعضًا؛ إذ كان خطأ الطائفتين متناقضًا غاية التناقض.
وأما ما أصابت فيه كل واحدة من الطائفتين، فلو جمعوا بينهما لكان ذلك موافقًا للأدلة السمعية التي أخبرت بها الرسل وللأدلة العقلية، كالأدلة التي دلت عليها الرسل، لكن هؤلاء خرجوا عن موجب الأدلة السمعية والعقلية مع ظنهم نهاية التحقيق، ولهم بذلك أسوة بكل واحدة من الطائفتين، فإنها مخالفة لموجب الأدلة السمعية والعقلية، وإنما الحق هو ما تصادقت عليه الأدلة السمعية والعقلية، وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، متلقين له عن الرسول ﷺ من جهة خبره، ومن جهة تعليمه وبيانه للأدلة العقلية.
مع أن هؤلاء يزعمون أن الرسل لم يبينوا هذه المسألة، كما ذكر ذلك الرازي في أول 1، فزعموا أنهم لم يثبتوا بها خبرًا، فضلا عن بيان الأدلة العقلية المصدقة لخبرهم.
وقد تكلمنا على فساد ما ذكره في ذلك في غير هذا الموضع، والمقصود هنا: التنبيه على طريقة هؤلاء الذين سلكوا مسلك الجمع بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، وزعموا أنهم أصحاب الجواب الباهر. وهذه الطريقة قد ذكرها الرازي في كتبه ورجحها، وأخذها عنه الأرموي، وذكرها في كتاب الأربعين وأخذها عنه القشيري المصري، وهذا القول يشبه مذهب الحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة، الذي نصره محمد بن زكريا الرازي وصنف فيه.
والرازي يقوى هذا المذهب في مجمله وغيره، وإن كان مذهبًا متناقضًا، كما بين فساده محمد بن زكريًا البَلْخِي، وأبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيرهما، لكن بين مذهب الحرنانيين وبين مذهب هؤلاء فرق، كما سنبينه إن شاء الله.
قال هؤلاء: المتكلمون إنما أقاموا الأدلة على حدوث الأجسام، فإنها هي التي بينوا أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث دائمة لا ابتداء لها. قالوا: ولم يذكر المتكلمون دليلا على نفي موجود سوى الأجسام وسوى الصانع، والفلاسفة أثبتوا موجودات غير ذلك وهي العقول والنفوس. قالوا: والمتكلمون لم يقيموا دليلا على انتفائها ودليلهم على الحدوث لم يشملها.
قالوا: والفلاسفة لم يقيموا دليلا على قدم الأجسام، بل أقاموا الأدلة على أن الرب لم يزل فاعلا، ولم تزل الحركة والزمان موجودين، وعمدتهم: أن الأول مستجمع لجميع شروط الفاعلية في الأزل، فيجب اقتران الفعل به.
وقالوا: إنه يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث، ويمتنع أن الرب لم يزل معطلا عن الفعل، ثم وجد الفعل بلا سبب حادث، ويمتنع أن يصير قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، ويمتنع أن يصير الفعل ممكنًا بعد أن كان ممتنعًا بلا سبب حادث، فينتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.
وقالوا: كل ما لابد منه في كون الفاعل فاعلا، إن وجد في الأزل لزم وجود الفعل، فإنه إن لم يوجد بقى متوقفًا على شرط آخر، ونحن قلنا: كل ما لابد منه في كون الفاعل فاعلا قد وجد في الأزل، وإن قيل: قد وجد كل ما لا بد منه من كون الفاعل فاعلا، ومع هذا لم يوجد الفعل، ثم وجد بعد ذلك بلا سبب لزم ترجيح وجود الممكن على عدمه بغير مرجح تام، فإن المرجح التام يجب أن يقترن به الرجحان، وإن لم يقترن به الرجحان، فإن كان الفعل ممكن الوجود والعدم، والممكن يفتقر إلى المرجح، فما دام ممكن الوجود والعدم فلابد له من مرجح، وإذا حصل المرجح التام وجب وجوده ولم يبق حينئذ ممكن الوجود والعدم.
قال هؤلاء: فهذا عمدة هؤلاء الفلاسفة. وأصله أن الحادث لابد له من سبب حادث، وحدوث حادث بدون سبب حادث ممتنع في بداية العقول.
ولهذا لما أجابهم المتكلمون عن هذا بأجوبة متعددة كانت كلها فاسدة مثل قول بعضهم: المرجح هو العلم، وقول بعضهم هو الإرادة، وقول بعضهم: المرجح مجرد كونه قادرًا، وقول بعضهم: المرجح إمكان الفعل بعد امتناعه؛ لامتناعه في الأزل، ونحو ذلك. فقالوا هذه الأجوبة باطلة لوجهين:
أحدهما: أن جميع ما ذكر إن كان موجودًا في الأزل فقد دخل في القسم الأول، وإن لم يكن موجودًا في الأزل فقد دخل في القسم الثاني، وقد قلنا: إن جميع الأمور المعتبرة في التأثير إن كانت أزلية لزم كون الأثر أزليًا، وإن كان بعضها غير أزلي ثم حدث بعد ذلك، لزم رجحان وجود الممكن على عدمه بلا مرجح، وحدثت الحوادث بلا محدث، فإنه لو أحدث تمام المؤثر به ولم يكن المؤثر تامًا في الأزل، حدث ذلك بلا سبب.
والوجه الثاني: أن نسبة القدرة والإرادة والعلم ونفس الأزل إلى وقت حدوث العالم، كنسبته إلى ما قبل ذلك وما بعد ذلك، فيمتنع أن تكون هذه هي الموجبة لوجوده في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده.
قال الرازي في كتابه الكبير: والجواب الباهر أن نقول: كانت النفس أزلية، وهي متحركة دائمًا؛ ثم حصل من تلك الحركات المتعاقبة صفة مخصوصة كانت هي سبب حدوث الأجسام، فبهذا ثبت السبب الحادث الموجب لاختصاص ذلك الوقت بحدوث الأجسام فيه، وعلى هذا فالأجسام حادثة وهو موجب أدلة المتكلمة، والفاعل لم يزل فاعلا لقدم النفس المعلولة له، وهو موجب أدلة الفلاسفة. وقد يقولون: مقدار حركتها هو الزمان، فقلنا بموجب قدم نوع الحركة والزمان مع حدوث الأجسام.
فهذا قول هؤلاء المتبعين للطائفتين.
وقد قلنا: إنهم اتبعوا كل طائفة فيما أخطأت فيه، وأما تناقضهم؛ فلأن المتكلمين إنما اعتمدوا في حدوث الأجسام على امتناع حوادث لا أول لها، هذا عمدتهم، وإلا فمتى جاز وجود حوادث لا بداية لها أمكن أن يكون قبل كل حادث حادث، فلا يلزم حدوث ما تقوم به الحوادث المتعاقبة، فإن كان هذا الأصل الذي بنى عليه المتكلمون أصلا صحيحًا ثابتًا، امتنع وجود حركات غير متناهية للنفس وغير النفس، وحينئذ فمن قال بموجب هذا الأصل مع قوله بوجود حوادث لا أول لها في النفس أو غيرها، فقد تناقض. وحقيقة قوله: يمتنع وجود حوادث لا أول لها، ويجب وجود حوادث لا أول لها.
وإن كان هذا الأصل باطلا بطلت أدلتهم على حدوث الأجسام، ولزم جواز وجود حوادث لا أول لها، وحينئذ فيجوز قدم نوعها، فالقول بوجوب حدوثها كلها وإن سبب الحدوث هو حال للنفس تناقض.
وأيضا، فإن النفس عند الفلاسفة يمتنع وجودها بدون الجسم، ويمتنع وجود الحركة فيها إلا مع الجسم، وإنما تكون نفسًا إذا كانت مقارنة للجسم كنفس الإنسان مع بدنه. فنفس الفلك إذا فارقت المادة وهي الهيولي وهي الجسم مثل مفارقة نفس الإنسان لبدنه بالموت، فقد صارت عندهم عقلا لا يقبل الحركة.
فما ذكره من تقدير نفس خالية عن الجسم دائمة الحركة لا يقولون به، ولا دليل عليه، فيبقى تقديره تقديرًا لم يقل به المنازع ولا قام عليه دليل، ولكن هذا يشبه مذهب الحرنانيين وليس به.
فإن أولئك يقولون: القدماء خمسة: الرب، والنفس، والمادة، والدهر، والفضاء. ولكن لا يقولون: إن النفس ما زالت متحركة، بل يقولون: إنه حدث لها التفات إلى الهيولي وهي المادة، فأحبتها وعشقتها، ولم يكن الأولى تخليصها منها إلا بأن تذوق وبال هذا التعلق، فصنع العالم، وجعل النفس حاصلة مع الأجسام لتذوق حرارة هذا الاجتماع ووباله، فتشتاق إلى التخلص منه.
ولهذا يقول محمد بن زكريا الرازي: إن هذا العالم ليس فيه لذة أصلا! بل النفس لا تزال معذبة حتى تتخلص وراحتها في الخلاص، وكان حاضرًا بمجلس بعض الأكابر، فمثل ذلك بما يخرج من دبر الإنسان بغير اختياره من الصوت، وجعل ذلك حاصلا من ذلك الكبير! فقال له الكعبي 2: دخلت في أمور عظيمة ولم تتخلص، وأنت إنما فررت من حدوث حادث بلا سبب، فيقال لك: فما الموجب لكونها التفتت في ذلك الوقت المعين إلى الهيولي دون ما قبل ذلك الوقت وما بعده؟ فهذا حادث بلا سبب.
وهذا المذهب اشتمل على أنواع من الفساد: منها إثبات قديم غير الأول بلا حجة، ومنها إثبات نفس مجردة عن الجسم، وأن لها حركة بدون الجسم، وهذا خلاف مذهب أرسطو وأتباعه، لكن هؤلاء يقولون: نحن نلتزم أن النفس مع تجردها عن الجسم لها حركة، وهذا هو الصحيح، لكن يقال: أثبتم قدمها وأنها لم تزل غير متحركة ثم تحركت بلا سبب، وهذا فاسد. وأنتم لم تقيموا دليلا على قدمها، بل ولا على وجودها وأنها ليست بجسم.
وكذلك يقال لمن أثبت العقول والنفوس من المتفلسفة وأنها ليست مشارًا إليها: أدلتكم على ذلك ضعيفة كلها، بل باطلة؛ ولهذا صار الطوسي الذي هو أفضل متأخريهم إلى أنه لا دليل على إثباتها.
وأما المتكلمون، فإنهم يقولون: نحن نعلم بالاضطرار أن الممكن لابد أن يكون مشارًا إليه بأنه هنا أو هناك، فإثبات ما لا يشار إليه معلوم الفساد بالضرورة، وقد ذكروا هذا في كتبهم. وقول الرازي: إنهم لم يقيموا دليلا على انحصار الممكن في الجسم والعرض ليس كما قال، بل قالوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الممكن لابد أن يكون مشارًا إليه، يتميز منه جانب عن جانب.
ثم كثير منهم من هؤلاء ذكر هذا مطلقًا في القديم والحادث، وأصوات قديمة أزلية.
ثم من هؤلاء من قال: وهي مع ذلك صفة واحدة، ومنهم من قال: بل هي متعددة، ومن هؤلاء من قال: إن تلك الأصوات الأزلية هي الأصوات المسموعة من القراء، أو يسمع من القراء صوتان: الصوت القديم، وصوت محدث.
والصوت القديم، قال بعضهم: إنه حل في المحدث، وقال بعضهم: ظهر فيه ولم يحل، وقال بعضهم: هو فيه، ولا نقول: ظهر ولا حل. والقائلون بهذا طائفة من أهل الحديث والفقه، والتصوف، من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وهؤلاء حلولية في الصفات دون الذات، وقد وافقهم طائفة أخرى من السالمية والصوفية.
وأولئك يقولون بحلول الذات أيضا في كل شيء، وأنه يتجلى لكل شيء بصورته، وقولهم من جنس قول القائلين بأنه بذاته في كل مكان، والقائلين بوحدة الوجود. لكن هم يقولون مع ذلك: إنه على العرش، وإنه يحل في قلوب العارفين بذاته، وإنه في كل شيء، كما ذكر ذلك أبو طالب المكي ونحوه.
وأما الأشعرية، فعكس هؤلاء، وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي، وآية الدين، والتوراة، والإنجيل واحد وهذا معلوم الفساد بالضرورة. وكذلك الكلمات هي عندهم شيء واحد، فحقيقة قولهم: إنه لا رب ولا قرآن ولا إيمان، فقولهم يستلزم التعطيل.
والسالمية حلولية في الذات والصفات، والقائلون بأن الحروف والأصوات القديمة حلت في الناس، حلولية في الصفات دون الذات.
ومن هؤلاء من يقول: أيضا: إن صفة العبد التي هي إيمانه قديم، ومن هؤلاء من عدَّى ذلك إلى أقواله دون أفعاله، ومنهم من قال: بل وأفعاله المأمور بها قديمة دون المنهي عنها، ومنهم من توقف في المنهى عنها، ومنهم من قال: بل جميع أفعال العباد قديمة؛ الخير والشر؛ لأن ذلك شرع، وقدر، والشرع والقدر قديم، ولم يفرق بين شرع الرب ومشروعه، وبين قدره ومقدوره، وهؤلاء يقولون: أفعال العباد قديمة، ليست هي الحركات بل هي ما تنتجه الحركات، كالذي يأتي يوم القيامة وهو ثواب أعمالهم.
وقد صرح الأئمة أحمد بن حنبل وغيره بأن ذلك كله مخلوق، فهؤلاء أسرفوا في القول بقدم الأفعال لطرد قولهم في الإيمان.
وطائفة أخرى قالوا: إذا كانت هذه الحروف التي هي أصوات مسموعة من العبد قديمة، فكل الحروف المسموعة قديمة، فقالوا: كلام الآدميين كله قديم إلا التأليف، ومنهم من قال: والأصوات كلها قديمة حتى أصوات البهائم، وحتى ما يخرج من بني آدم. وقالوا أيضا: حركات اللسان بالقرآن قديمة وحركة البنان بكتابة القرآن قديمة.
ومن هؤلاء من قال: المداد مخلوق، ولكن شكل الحروف قديم، ومنهم من توقف في المداد وقال: نسكت عنه وإن كان مخلوقًا، لكن لا يقال: إنه مخلوق، ومنهم من قال: بل المداد قديم.
ومن هؤلاء وغيرهم من قال: بأن أرواح العباد قديمة، فصاروا يقولون: روح العبد محدثة وكلامه قديم، وصفاته القائمة به من إيمانه قديم، وإخوانهم يصرحون بأن أفعاله قديمة، وهذا أعظم مما يوصف به الرب؛ فإنه سبحانه قديم أزلي. وأما أفعاله فحادثة شيئًا بعد شيء، وكذلك كلامه لم يزل متكلمًا بمشيئته شيئًا بعد شيء.
وهؤلاء يقولون بقدم روح العبد وبقدم النور نور الشمس، والقمر، ونور السراج، وكل نور فهؤلاء قولهم بقدم أرواح العباد، والأنوار، ضاهوا فيه قول المجوس، والفلاسفة الصابئين الذين يشبهون المجوس، فإن من الصابئين من يشبه المجوس. كذلك قال الحسن البصري وغيره، قالوا عن الصابئين: إنهم مثل المجوس، وهؤلاء صنف من الصابئين المشركين ليسوا في الصابئين الممدوحين في القرآن.
والمقصود أن قول هؤلاء بقدم أرواح العباد، ونفوسهم التي تفارق أبدانهم، من جنس قول الذين قالوا بقدم النفس، كما تقدم، لكن هؤلاء يجعلونها من الله؛ إذ كان لا قديم عندهم إلا الله وصفاته، وقولهم بقدم النور من جنس قول المجوس، لكن النور أيضا عندهم من صفات الله.
وهذه الأقوال بقدم روح العبد، أو أقواله، أو أفعاله، أو أصواته، أو قدم نور الشمس والقمر، ونحو ذلك. كلها فروع على ذلك الأصل، فإن السلف قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق. وظن طائفة أن مقصودهم أنه قديم لم يزل، والقرآن حروف وأصوات فيكون قديمًا، وهذا المسموع هو القرآن وليس إلا أصوات العباد بالقرآن فتكون قديمة، ثم احتاجوا عند البحث إلى طرد أقوالهم.
وكذلك في الإيمان، لم يقل قط أحد من السلف لا أحمد بن حنبل ولا غيره: أن شيئًا من صفات العباد غير مخلوق ولا قديم، ولا قالوا عن القرآن قديم، لكن أنكروا على من أطلق القول على لفظ القرآن أو الإيمان بأنه مخلوق، فجاء هؤلاء ففهموا من كونه غير مخلوق أنه قديم، وظنوا أنه إذا أنكر على من أطلق القول بأنه مخلوق يجيز أن يقال: إنه غير مخلوق وإنه قديم، فقالوا: لفظ العبد وصوته قديم، وإيمانه قديم، ثم طردوا أقوالهم إلى ما ذكرناه، وهذه الأمور قد بسط القول فيها في مواضع في عدة مسائل، سأل عنها السائلون وأجيبوا في ذلك بأجوبة مبسوطة ليس هذا موضعها، إذ المقصود التنبيه على ما يحدث عن الأصل المبتدع.
وأصل هذا كله حجة الجهمية على حدوث الأجسام: بأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فما يقوم به الكلام باختياره أو بمشيئته، ولم يزل كذلك ويجب أن يكون حادثًا، فلزمهم نفي كلام الرب وفعله، بل وتعطيل ذاته. ثم آل الأمر إلى جعل المخلوق قديمًا، وتعطيل صفات الرب القديمة، بل وذاته، والله أعلم.
وأصحاب هذا الأصل، القائلون بالجوهر الفرد، يقولون: إن نفس الأعيان التي في بدن الإنسان وغيره هي متقدمة الوجود، لا يعلم حدوثها إلا بالدليل، وهو الدليل على حدوث الأجسام وأنها لم تخل من الأعراض، ويقولون: المعلوم بالمشاهدة حدوث التأليف فقط، كما يقوله أولئك في كلام العبد، وأن المحدث هو تأليف فقط.
والقائلون بوحدة الوجود يقولون: نفس وجود العبد هو نفس وجود الرب، وكل هذه الأقوال قد باشرت أصحابها وهم من أعيان الناس وجرى بيني وبينهم في ذلك ما يطول وصفه، وهدى الله ما شاء الله من الخلق، فانظر كيف اضطرب الناس في أنفسهم التي قيل لهم: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 3.
والمتفلسفة يقولون: مادة بدن الإنسان وسائر المواد قديمة أزلية، وهذه الأقوال فيها مضاهاة لقول فرعون من بعض الوجوه، وأصحاب الوحدة يصرحون بتعظيم فرعون، وأنه صدق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 4، ففي تثنية الله لقصة فرعون في القرآن عبرة؛ فإن الناس محتاجون إلى الاعتبار بها، كما قال: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} 5.
هامش
- ↑ [المطالب العالية]
- ↑ [هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي، المعروف بالكعبي، شيخ المعتزلة، كان من نظراء أبي علي الجبائي، وكان يكتب الإنشاء لبعض الأمراء، له من الكتب المقالات والجدل وغيرهما، وتوفى في سنة 903ه وقيل: 923ه]
- ↑ [الذاريات21]
- ↑ [النازعات: 24]
- ↑ [الزخرف: 56]