مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/وسئل: عن كتاب فصوص الحكم
وسئل: عن كتاب فصوص الحكم
[عدل]ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين: في كتاب بين أظهر الناس، زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي ﷺ، في منام زعم أنه رآه، وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله، من كتبه المنزلة، وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة، فمما قال فيه: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانًا؛ لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر.
وقال في موضع آخر: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. وقال في قوم نوح عليه السلام: إنهم لو تركوا عبادتهم لوَدٍّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعوق، ونَسْر، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء. ثم قال: فإن للحق في كل معبود وجهًا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة.
ثم قال في قوم هود عليه السلام بأنهم حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب، من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ، من جهة المنة، فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم، التي كانوا عليها، وكانوا على صراط الرب المستقيم.
ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد، في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد، فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا؟ أو يرضي به منه أم لا؟ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلًا بالغًا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا؟ أفتونا بالوضوح والبيان، كما أخذ الميثاق للتبيان، فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال، وبالله المستعان وعليه الاتكال، أن يعجل بالملحدين النكال، لصلاح الحال، وحسم مادة الضلال.
فأجاب:
الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة، المنكورة كل كلمة منها هي من الكفر، الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل، من المسلمين، واليهود والنصارى، فضلا عن كونه كفرًا في شريعة الإسلام.
فإن قول القائل: إن آدم للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، الذي يكون به النظر يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس وبعض منه، وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه، وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم، وهو معروف من أقوالهم.
الكلمة الثانية: توافق ذلك، وهو قوله: إن الحق المنزه، هو الخلق المشبه.
ولهذا قال في تمام ذلك: فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة {فّانظٍرً مّاذّا تّرّى}، {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 1، والولد عين أبيه، فما رأى يذبحسوى نفسه، ففديناه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش، من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة، لا بحكم ولد من هو عين الوالد، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 2، فما نكح سوى نفسه.
وقال في موضع: وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته.
وقال: ومن أسمائه الحسنى العلى، على من ! وما ثم إلا هو؟ وعن ماذا ! وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها، وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات.
إلى أن قال: فالعلى لنفسه هو الذي يكون له الكمال، الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفًا وعقلًا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟ وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم، ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق؟ فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما هي صفات المحدثات حق للحق، وأمثال هذا الكلام.
فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي، والتلمساني، وابن سبعين، والششتري، وابن الفارض وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه: أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن، وقبيح، ومدح، وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق، ولا سواه.
ومن كلماتهم: ليس إلا الله. فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير، ولهذا جعلوا قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} 3 بمعنى: قدر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عَبَدَ الله.
ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب عُبَّاد العجل مصيبين، وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل. وقال: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبدوا إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتباعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء.
ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين، المحققين، وأنه كان مصيبًا في دعواه الربوبية. كما قال في هذا الكتاب: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسي لذلك، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 4 أي: وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم.
ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله، لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} 5، فالدولة لك، فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وأنه كان عين الحق.
ويكفيك معرفة بكفرهم: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا، بريا من الذنوب كما قال: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان، الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرًا مطهرًا، ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.
وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين، واليهود، والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بالله، بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون، ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره، وطغيانه وعلوه، أعظم مما ذكر عن فرعون.
وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب، فإن لفظ آل فرعون كلفظ آل إبراهيم، وآل لوط، وآل داود، وآل أبي أوفى، يدخل فيها المضاف باتفاق الناس، فإذا جاؤوا إلى أعظم عدو لله من الإنس، أو من هو من أعظم أعدائه فجعلوه مصيبا، محقًا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
هامش
[عدل]