مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/فصل: زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل: زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا[عدل]

وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا، وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه، بل فيه ما ينفيه، كقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 1، قالوا: فإنما أدخل آله دونه. وقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} 2، قالوا: إنما أوردهم ولم يدخلها، قالوا: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه.

وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة، بل ولا من اليهود، ولا من النصارى، بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون.

فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله، ويدعى لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون.

ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع، فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع:

أحدها: قوله تعالى في القصص: { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} إلى قوله: { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} 3.

فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قومًا فاسقين، وأخبر أنهم: قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى} 4، وأخبر أن فرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 5، وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى، وأنه يظنه كاذبا، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده، وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.

فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى، الظالمين الداعين إلى النار، الملعونين في الدنيا بعد غرقهم، المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور، وهذا إخبارعن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 6، وهذا إخبار عن فرعون وقومه، أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ، وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ.

وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون، فظنوا أن فرعون خارج منهم، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة، يتبين ذلك بوجوه:

أحدها: أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص، مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} ثم قال: {فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ} يعني لوطا: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} 7، وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عليهمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} 8 ثم قال بعد ذلك: {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} 9.

ومعلوم أن لوطا داخل في آل لوط في هذه المواضع، وكذلك فرعون داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي : (قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلىت على آل إبراهيم)، وكذلك قوله: (كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد).

وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان القوم إذا أتوا رسول الله بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وأبو أوفى هو صاحب الصدقة.

ونظير هذا الاسم أهل البيت، فإن الرجل يدخل في أهل بيته، كقول الملائكة، {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عليكم أَهْلَ الْبَيْتِ} 10، وقول النبي : (سلمان منا أهل البيت)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 11، وذلك لأن آل الرجل من يؤول إليه، ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله، وهو ممن يأهل أهل بيته.

فقد تبين أن الآية، التي ظنوا أنها حجة لهم، هي حجة عليهم، في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ، وفي يوم القيامة، ويبين ذلك: أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إلى قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} إلى قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} إلى قوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} إلى قوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} 12.

فأخبر عقب قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} عن محاجتهم في النار، وقول الضعفاء للذين استكبروا، وقول المستكبرين للضعفاء: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون، فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه.

الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى: {فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} إلى قوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} 13، فأخبر أنه يقدم قومه ولم يقل: يسوقهم، وأنه أوردهم النار. ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرىن النار، كان هو أول من يردها، وإلا لم يكن قادما، بل كان سائقا، يوضح ذلك أنه قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} 14، فعلم أنه وهم يردون النار، وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة.

وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أولىاء بَعْضٍ} 15، وأيضا: فقد قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ} 16، يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس؟

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 17، فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل، أنهم آمنوا عند رؤية البأس، وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده.

وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 18، فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي: الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعًا أو مقبولا فمن قال: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن، وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده.

يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا، لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره، فإذا لم يكن كافرًا لم يستحق عذابًا.

وقوله بعد هذا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} 19 يوجب أن يعتبر من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه، وأيضا فإن النبي لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال: (هذا فرعون هذه الأمة)، فضرب النبي المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى.

فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر، فكيف يكون قد مات مؤمنا؟ ومعلوم أن من مات مؤمنا: لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم، عن عوف بن مالك، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي في تارك الصلاة: (يأتي مع قارون، وفرعون وهامان، وأبي بن خلف).


هامش[عدل]

  1. [غافر: 46]
  2. [هود: 98]
  3. [القصص: 32: 42]
  4. [القصص: 36]
  5. [القصص: 38]
  6. [غافر: 45، 46]
  7. [الحجر: 58، 62]
  8. [القمر: 34]
  9. [القمر: 41، 42]
  10. [هود: 73]
  11. [الأحزاب: 33]
  12. [غافر: 32: 48]
  13. [هود: 97: 99]
  14. [هود: 99]
  15. [الأنفال: 73]
  16. [يونس: 98]
  17. [غافر: 82: 85]
  18. [يونس: 91]
  19. [يونس: 92]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني
توحيد الربوبية | قاعدة أولية: أصل العلم الإلهي ومبدأه عند الرسول والذين آمنوا | في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل ببيان أصل العلم والإيمان | قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | ثم يقال هذا أيضا يقتضي | أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي | الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله | إن المنحرفين المشابهين للصابئة | تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد | حقيقة مذهب الاتحادية | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | الذي يدعي النبوة ويبيح الفاحشة اللوطية ويحرم النكاح فإنه من الكافرين وأخبث المرتدين | وسئل: عن كتاب فصوص الحكم | السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان | حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم | تصور مذهبهم كاف في فساده | حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله | بنوا أصلهم على ثلاث مقالات | في قولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه | فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي | أما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود | هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء | مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاث مواد | هذا أكفر من قول النصارى من وجوه | الوجه الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | ما حكي أن العالم بمجموعه حدقة عين الله هو عين الكفر وذلك من وجوه | في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه | حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي | اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك | في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه | أحدها | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الأصول التي يعتمدها الاتحادية | زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا | سئل عن أعمال تشتمل على الحلول والاتحاد | أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه | سئل عن كتاب فصوص الحكم | أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله | فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين | أن المؤمن لا بد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له | ما يشبه الاتحاد | جاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا | فهذان المعنيان صحيحان ثابتان | قد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد | فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد | في الغلط في ذلك | كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته فكذلك يشهد إلهيته العامة | فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين | وأما كفرهم بالمعبود فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى | أما اتحاد ذات العبد بذات الرب بل اتحاد ذات عبد بذات عبد | نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا | الملاحدة لا يقتصرون في كفرهم بالله على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا | رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي | سئل عن الحلاج وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج | الرد على من قال إن الحلاج من أولياء الله | سئل عمن يقول إن ما ثم إلا الله | سئل عن حديث فإن الله هو الدهر فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية