مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/الوجه الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الوجه الثالث[عدل]

الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه، أو قولك: ظهر الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع. مثل قولهم: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهرا متجليا لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع؟

فإن عنيت الأول وهو قول الاتحادية فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا: { إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } 1 و{ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } 2، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا!

وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوما لها، ولا ريب أن الله يصير معروفا لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين:

من جهة أنك جعلته معلوما للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالما قادرا فاعلا.

ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.

وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين:

أحدهما: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها. الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى قوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } 3 وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا } 4 وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.

فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه.

وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين، بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي قال: (واعلموا أن أحدامنكم لن يري ربه حتى يموت) ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.


هامش[عدل]

  1. [المائدة: 17، 72]
  2. [المائدة: 73]
  3. [البقرة: 163، 164]
  4. [يس: 33]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني
توحيد الربوبية | قاعدة أولية: أصل العلم الإلهي ومبدأه عند الرسول والذين آمنوا | في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل ببيان أصل العلم والإيمان | قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | ثم يقال هذا أيضا يقتضي | أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي | الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله | إن المنحرفين المشابهين للصابئة | تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد | حقيقة مذهب الاتحادية | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | الذي يدعي النبوة ويبيح الفاحشة اللوطية ويحرم النكاح فإنه من الكافرين وأخبث المرتدين | وسئل: عن كتاب فصوص الحكم | السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان | حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم | تصور مذهبهم كاف في فساده | حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله | بنوا أصلهم على ثلاث مقالات | في قولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه | فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي | أما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود | هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء | مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاث مواد | هذا أكفر من قول النصارى من وجوه | الوجه الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | ما حكي أن العالم بمجموعه حدقة عين الله هو عين الكفر وذلك من وجوه | في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه | حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي | اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك | في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه | أحدها | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الأصول التي يعتمدها الاتحادية | زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا | سئل عن أعمال تشتمل على الحلول والاتحاد | أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه | سئل عن كتاب فصوص الحكم | أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله | فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين | أن المؤمن لا بد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له | ما يشبه الاتحاد | جاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا | فهذان المعنيان صحيحان ثابتان | قد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد | فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد | في الغلط في ذلك | كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته فكذلك يشهد إلهيته العامة | فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين | وأما كفرهم بالمعبود فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى | أما اتحاد ذات العبد بذات الرب بل اتحاد ذات عبد بذات عبد | نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا | الملاحدة لا يقتصرون في كفرهم بالله على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا | رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي | سئل عن الحلاج وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج | الرد على من قال إن الحلاج من أولياء الله | سئل عمن يقول إن ما ثم إلا الله | سئل عن حديث فإن الله هو الدهر فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية