تاريخ حياتي
ولدتُ في حوطة لحج المحروسة بالله تعالى في يوم الخميس صباحاً 15 شعبان سنة 1299 هـ. تربيت وترعرعت بها. وكان للأجل أن قيّض لي والدي من لدنه بلغت من العمر سبعاً فأدخلني دار العلم. في الصباح أذهب إليه لتعلم الكتابة والقراءة. وفي العصر أتعلم تجويد القرآن والأحاديث النبوية الشريفة. في السبع السنين التي درست خلالها حفظت القرآن بشرح معانيه والسنة أو الشهر أو اليوم الذي أُنزل فيه. وكم آيات مكية وكم مدنية ولأي مناسبة أنزلت. والحديث كذلك. والحساب والنحو والصرف والبلاغة والبيان والتبيين والإعجاز والموسيقى وفنونها المتضاربة الأطناب والتاريخ والجغرافيا. تتلمذت على يد الأشياخ أحمد بن علي السالمي وقاسم بن عبد الله السالمي من لحج ومن حضرموت علوي بن علي الحداد وطاهر بن شيخان الحبشي، ومن الشام من حلب الشهباء عبد الحميد رضا رياض وأخيه رافع وسعيد تقي الدين الأجاصي وضدام الفياض، وهؤلاء الأربعة كانوا مدرسين في تعز ثم هربوا إلى لحج ومعهم الموسيقى النحاسية، وعملوا مدرسين في دار العلم. ويحبون الحفلات العلمية السنوية وهؤلاء الأربعة لهم الفضل علي في إرساء قواعد وأصول الموسيقى اللحجية على الطريقة اللحجية.
تدربت على أربعة من آلة النفخ البجل والفنيون والسكسفون والأينو، وكلها تنفخ فيها وتحرك أصابعك على كل حرف في النوتة المكتوبة فيعطيك النغم المطلوب. وبعدها القانون، والقانون صعب فهمه، ولا يفهمه إلا أولي الألباب. لأن تشغيله على الإثنين فالذي على اليسار يختلف في النوتة على اليمين. مثلاً لو حركت ووضعت أنملتك اليسرى على الحرف دو ففي اليمنى تحرك أنملتك على المي والصل. وإذا حركت أنملتك اليسرى على الحرف ريه ففي اليمنى تحرك السي والدو بواحد ونصف أو واحد وربع. وأحياناً تعمل تكسير. واحد الأربع والنصف والربع والثمن. وكلها تحتاج إلى فكر يتبعه الممارسة وحركته 4×8 أو 2×4. هذا مبتغى لمن يريد أن يتعلم القانون على أني أزيده علماً على أن الحركة هذه تتبعها مداخلات مصغرة تتقنها بأناملك تحريكاًَ يجر بعضه بعضاً. فترتع يدك اليمنى وتنخفض يدك اليسرى وتشبك الحركتين فتسمع ما يسرك وينعشك وهذا ما يجعلك تنتقي الألحان منه ويوصيك عليها.
تجربة عمي السلطان أحمد فضل محسن العبدلي خولني بثقته منصب قيادة الجيش النظامي وأنا في سن التاسعة عشر. فحمدت الله على ما أثناه علي بهذا الشرف الكبير. لقد كان عمي السلطان أحمد فضل عالماً متبحراً جياشاً، وهذا ما فكر فيه واختارني لهذا المنصب الكبير. قلت له لماذا اخترتني أنا بالذات مع أن هنا من هو أكبر مني سنّاً، فرد علي هذا رأيي فيك. ولقد كان عمي يرى فيّ أنني الرجل الأول الذي يصلح أن يكون جديراً بهذا المنصب. لأني قد تعلمت اللغة الإنجليزية كتابةً ونطقاً على يد المعلم الكبير الحميد رضا رياض، ذلك الرجل العظيم الطاعن في السن الذي توفي سنة 1315 ودفن إلى جوار جدي السلطان أحمد محسن في حافة الحسينة بحوطة لحج المحروسة. ولقد قمت بواجبي عند مماته خير مقام، وقمت بوليمة تليق بمقام هذا الرجل لأنه قدم الكثير والكثير في نهضة العلم في البلد. وخير ما يستحقه هو هذا الواجب المتواضع له.
وتمر السنون ويأتي ذلك العام المشؤوم 28 شعبان 1333 بكل شئاماته ويُبعث بكتاب الأميرلاي علي سعيد باشا إلي يطلب مني أن أسمح له بالعبور في لحج ليتقدم إلى عدن لطرد الكافر كما زعم. وكان ردّي عليه بالآتي:
وعلى الفور انتقلت من العاصمة المحروسة بالله تعالى إلى قرية الدكيم أنا والقوة النظامية ومكثنا بها ثلاثة أيام بلياليها. لكن وصلتنا معلومات ينقض بعضها البعض. وكلها تتحدث عن واقعة أكباد الحرور وما جرى بها على يد رجال الحرور بقيادة كبيرهم الشيخ مطنوش بن العبد ووصول الهاربين إلى لحج، ومن هنا داخلتني الشكوك والأوهام. كيف في اليوم الأول يبعث إليّ الأميرلاي علي سعيد باشا بكتاب يطلب مني السماح له بالعبور من أراضي السلطنة ثم أسمع بهذا الحدث المفاجئ الذي لا أكاد أصدقه. كيف حدث؟ وهل هذه خدعة من الأميرلاي؟ فكيف يبعث لي بكتاب يصلنا في مساء تلك الليلة وفي الليلة ذاتها تقع الواقعة. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان فقد وصلت القوة العسكرية ومشايخهم بقيادة الأميرلاي إلى الدكيم، وكان معظم المناصرين من قبائل الحواشب وعلى رأسهم مشايخ من عرب اليمن للأسف الشديد. ففضّلتُ النكسة على الإنهزام. وأمرت بالتحرك إلى العاصمة. عندما وصلنا قرية الشقعة انبرى لنا عاقلها سالم محمد النوم وقال لي: أتهرب ومعك قوة عسكرية؟ إن هذا سيجعل قطاع الطرق ينهبوننا. وقلت له أفضّل النكسة على الإنهزام. بعدها لا أدري هل فهم ما قلت أم لا؟ لكنه وكان أجدع مني فما أن وصل الأميرلاي وجيشه حتى استلقفه أهل الشقعة برصاص بنادقهم وقتلوا منهم ثلاثمائة وجرح ما يزيد على الثمانمائة، ولكنهم الأميرلاي وجيشه لم يأبهوا بما جرى واستمروا في سيرهم إلى أن وصلوا قرية زائدة ولقوا مقاومة من آل المعرار وآل حيدرة لأن الحجور أهل باعجير قاوموا بشدة وقتلوا منهم الكثير وجرحوا وكان على رأسهم عوض هادي باعجير. كما تبعهم آل بادبا الحجور إلى موقع بين الخداد والقريشي وقتلوا منهم مائتان وخمسين مقاتلاً وجرحوا سبعمائة. وما أن وصلوا إلى قرية القريشي حتى قاومهم رجاله الكرام من آل النوم وتبعتهم وآل الشاؤوش سكان القريشي.
آل الشاؤوش قاوموا ببسالة حتى نساؤهم اشتركن معهم، وأخص بالذكر فاطمة بنت محمد عمر، أخو العاقل. ونعمة بنت حسين سالم، ونعمة بنت سالم صالح، وعلية بنت سالم عمر، والزهراء العانسة أخت العاقل أحمد عمر، ونكفة أخت سالم بن حسين، وحفصة بنت عطية بن سالم، وعبودة بنت حسين باعساس، والشرقية بنت هادي باعساس، وفطومة بنت محمد علي باعساس، وهوجة بنت أحمد سعيد الماجيد، وكعبة بنت سالم محمد الشاؤوش وخديجة أختها ومكة. أما الأميرلاي علي سعيد بالفعل دخل قرية القريشي واستدعى أهلها فلبوا للنداء ولكنهم قبلوا ذلك شريطة الإعفاء عنهم كما ذكر في النداء، لكن الأمور تغيرت بفعل فاعل وهذه عادة الغزاة المستعمرين، فقد تم اعتقالهم ولكن تم عن طريق الخديعة. وما أن النساء ومعهم العاقل أحمد عمر تحركات أهلهن حتى بدين بإطلاق الرصاص من افواه بنادقهن فقتلوا ثلاثة وفر الباقون بين هارب ومجروح ومعهم الأميرلاي الذي نجا ولم يمسّه نصب ولا اعتواء. ولكنه فكّر في أن يقابل النساء ويجري معهن لقاء يتناول بعض من نهجهم السياسي ليكونن على بصيرة، فخدعهن بكلامه المعسول وقال لهن: «إننا نريد دخول عدن لطرد الكافر وإن اعترضوا سبيلنا وقد سبق لنا أن أرسلنا كتاباً إلى القمندار نطلب منه السماح لنا بالعبور في أراضي السلطنة. لكنّه رفض طلبنا وهذا ما اضطرنا البلاد بلادكم للعبور فقط، ولا نريد بأحد من أهل البلاد شرّاً». وردّت عليه الزهراء العانسة: «إذا كان كلامك حقاً ما تقول فلماذا اعتقلت أخي العاقل أحمد عمر»، وتبعتها قولاً الشرقية بنت هادي: «إذا كان قولك هذا صحيحاً فمن العار عليك أن تأسر رجالاً أبطالاً هم في غنى عن الأسر وكان الأولى بك ان تفعل ما فعلته بعد وتجعلهم من أعوانك وتشد من أزرهم ليكونوا إلى جانبك في طرد المستعمر الكافر لكن بجيشك بطريقة غير الطريقة التي جئت من أجلها فكان ما كان». فرد الأمير عليها: «يا ام أحمد نحن أخطأنا وفي المثل العربي يقول: العفو عند المقدرة. فأنت أصبحت من اهل القدرة وفيك الذكاء الفطن أحسن من غيرك، فهل لا أستسمحك وتاخذي بناصيتي غلى ما يحبّه الله ويكون للجميع وخيراً للعباد».
مكثنا في عدن أربع سنين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. كان الأميرلاي علي سعيد باشا يراسلني لأنه كما يقول لي في رسائله: «لا استغني عنك، وانا عربي مثلك من اسكندرونة» ويطلب مثولي إليه لتولي منصب كبير. عرفت من صياغ رسائله أنه يريدني أن أعزز من سلطته، لأن أهالي الحرور ومناصريهم يقتلون منهم كل يوم ويشنون الهجمات على معسكراتهم ليلاًن ويصادف هذا نزول مرض الطاعون عليهم وعلى أهالي لحج وقد مات منهم خلق كثير. وقد كنت أردُّ عليه لكنه لم يقتنع وكان آخر رد عليه بالآتي:
لقد كان علي سعيد باشا فاهماً متفهماً لقضايا الأمة العربية، ولكن ليس بيده حيلة يخرج بها من المأزق الذي وضع نفسه فيه، ذلك أن النظم العسكرية تتطلب منه التنفيذ وبعدها المناقشة. عرفت من خلال الرسائل التي كان يبعثها إلي وإلى شقيقي محسن فضل وعلمت أنه كتب على لوحة وضعت على باب ديوان الحكم (عدالات-حريات-مساوات)، ولقد كان فعلاً عادلاً. فقد بدرت منه تشريعات هي في غاية الأهميّة، وقد حكم على الباشجويش أحمد إبراهيم الذي اعتدى على أحد الباعة في سوق البلدية شكاه إلى الأميرلاي، فحكم على الباشجويش بخلع ملابسه العسكرية والتوقف عن العمل. وكان يسهر الليل للمصلحة العامة ويواسي الفقراء والمحتاجين. وقد كتب لي إحدى رسائله يطلب مني أن أستلم البلاد منه، وفي آخر رسالة منه يقول إذا لم تأتِ لإستلام البلاد فإني سأسلّمها إلى الإمام يحيى.
وبعد إتفاقية سملزبيل في 1 ديسمبر 1918 التي تم بموجبها إلزام الدولة العثمانية بتسليم الأراضي العربية إلى أصحابها الشرعيين، تم خروج علي سعيد باشا وجنده من لحج إلى عدن وكنت أنا وأخي محسن في إستقباله. فعانقناه وعانقنا. وكانت الدموع تقطر من عينيه وقال لي: «إني قد نصحت الباب العالي بعدم الدخول في معارك تاكل الاخضر واليابس. ولكنهم كانوا قابعين في قصورهم ولا يدرون ما يدور حولهم. وتحملناها، نحن العرب والألبان». وذكرني بابياتي الشعرية التي ارسلتهم غليه وأنا في الدكيم وعدن.
أُعيد إنتخابي قمندار القوة النظامية للمرة الثانية وأنا في عدن وذلك يوم الثلاثاء 17 جمادى الآخر 1338. وهو اليوم الذي ودّعت فيه البيت الذي بتنا فيه طيلة احتلال الاتراك لحج.
أول ما فكرت فيه بعد عودتي وتسلمي قيادة القوة النظامية هو تكوين فرقة الطرب، فتكونت في بداية 1346. كان اليافع مسعد بن أحمد حسين يساعد والده في المجزرة وبيع اللحم، والمجزرة تحت سكني، فأنتدبته من أبيه الذي على الفور وافق. فكان إختياري له موفقاً، وكان إختياري له في موضعه، فقد كان مستعد تواق لأنه كان يسمعني وياهدني وأنا أعزف وأغني من على جناح سكني المطل على المجزرة. قال الوالد احمد حسين وهو يحتضن ولده مسعد: «هذا أبنك وإبني، شبع وطبع واضرب اللحم وبقي لي العظم». قلت له: «مثلي يعلم وبس وأمانتك في عنقي والله كفيل بتحقيقها».
للحقيقة والتاريخ والأمانة، فقد كان مسعد فهيماً. ولأيام قلائل عزف على الكبنج والرباب، ومن كثر تطلعاته عليّ، فقد بدأ بتقليدي في العزف وكنت محقاً في إختياره، كان يعزف الكبنج وهو يأكل ورآه رفيقا الدرب والمسيرة الضابط عبد الله مصينعي وعوض محمد القميشي الملقب عوزر. واتيا إليّ ومسكا يدي وسرنا إلى أن وصلنا مسعد. قال مسعد: «خلو لي حالي، الكبنج حبيبي»، وكان مسعد يبرز من الكبنج فنا يشجي، قلت لهما اخلوا سبيله. هذا هو سعد الأول، والثاني فضل محمد جبيلي. كان والده خيّاطاً، له مكان تحت سكني، وكان فضل يبيع الباجية والعشر والبالوزة أمام مكان والده.
في ذات يوم أومأ لي وأشار فضل طفش وأخوه حسن إلى فضل محمد جبيلي، ساءني في البداية منظره لأنه مُصاب بالتراخوما، والطرب يريد رجاله من المناظر. وصادف ترددي هذا وجود مبارك حسن بانبيلة وقال: «شيله يا سلطان أحمد، وداوي عيونه والله بيكون في عونك». وقلت على بركة الله اشيله. في الصباح الباكر نهضت من فراشي وتوجهت إلى محمد علي الجبلي، وبعد ان قدمت التحية قلت له: «لي طلب عندك»، قال: «اطلب وعلي السمع والطاعة»، قلت: «أريد ولدك فضل أعلّمه الطرب»، قال: «عندما يجيء سارسله إليك». اثناء الكلام وصل فضل فمسكته في يده اليسرى ومشينا إلى حيث الفطور في بيتي وفطرنا والفرقة جميعاً. اشهد بأن فضل محمد جبيلي اول ما تعلّم إلا على القانون. ذلك القانون الصعيب المثال الذي هرب منه مسعد بن أحمد حسين ومبارك حسن بانبيلة وولده محمد حكاية.
طلب مني فضل محمد جبيلي ان أنزل الاربع مرايات من على الجدران، فلبيت طلبه وأنزلتهن، وفضلت منتظراً ماذا سيعمل بهن. قام فضل بوضع مرآة أمامه، واثنتين على جانب من وركه وفخذه الأيمن، والرابعة على جانب من فخذه الأيسر. ووضع النوتة بين المرايا والقانون وبدأ العزف على لحن الصوت "طلعت بدرية" فيثقل. وساعدته في الغسراع ليتمكن من ضبط اللحن على وتيرته ومبتغاه، وفي خلال نصف ساعة ضبط اللحن واستمر على ضبطه حتىلا استدعيته لتناول الغداء. الأدهى من ذلك والأمر أن في صباح اليوم التالي خرجت من مخدعي غلى حيث ينام فضل فوجدت الباب مردوداً، وسمعته يعزف "على المحبين شنّي يا مطر نيسان"، فانتابني الذهول والإستغراب لأني لم أضع نوتة وأقدمها له، فكل ما هو مطلوب منه هو لحن "طلعت بدرية" فكيف أستطاع وهو مصري أن يعرف لحن "على المحبين شنّي يا مطر نيسان" بدون نوتة.. وعندما سألته أجاب: «عرفت مخارج اللحن». النوتة أصلها لحن، ولكن كيف توصل لها فضل محمد جبيلي وبهذه السرعة مع أنه أصغر من مسعد بن أحمد حسين بما يزيد عن خمس سنين، وقلت في نفسي وجدت الضالة. لان قبائل لحج تعتبر الغناء والمديح من أعمال الشحذ ولن يرضى أحد من أبناء القبائل أن يقوم بهذا الدور المريح للشعب وللأمة العربية التي أسأل العلي القدير أن يوحّد صفوفها ويجعلها خير أمة أُخرجت للناس.
والحديث ذي شجون يطول مقامه. فقد طلب مرة أحد لأعيان أن تقوم فرقتي بإحياء حفل غنائي بمناسبة زواج ولده. كان من جانبي أن يترأس فرقة مسعد بن أحمد حسين تضم فضل طفش وأحمد صالح علي وعلي الدبس وهادي سعد النوبي. وفضل محمد جبيلي يترأس حسن طفش وفضل منصور ومبارك سالم با نبيله وعوض مبارك نبيله. كان غرضي من كل ذلك هو التشجيع ولإظهار معنوية الإثنين وقت المقابلة وليكونا في المستوى المطلوب الذي أتخذه توقعاً وهدفاً يليق بمقامي ويرفع من مكانتي وتقديري.
لقد بدأ مسعد فغنّى أغنية "طلعت بدرية بين الحسان" و"على المحبين شنّي يا مطر نيسان" و"زاد الهوى زاد يا مولى الشراع" و"يا عيون النرجسي". وقد أدى مسعد أغانيه على خير ما يرام. نعم لقد أداها مسعد بصوت جهوري رخيم لم يحيد. غنّاها تباعاً متواصلة خلالها كنّ النساء يحجرن، بل لقد وصلن بهن حد أن يتسابقن لرؤية هذا العندليب، ونتيجة لذلك فقد اجتزن النساء حزم القصب الساتر للمخدرة وحطين على الفرقة وسلم الله سالمينا. كل ذلك كان بحضرتي، داخل المخدرة، ولعل ما صار بشدة إعجابهن وتنافسهن على الرؤيا صوته الجهوري الشحرورين. ولجماله، فكان لونه أبيض مشرب بحمرة، وقامته مربوعة. لما حاز من وسامة وابتسامة لا تفارقه يشهد بذلك كل من يعرفه، ذو ملاحة في الكلام وله طراوة في الإبتسام، تعرف من كلامه أنه فطن، يستبق شفتي المتكلم أمامه فينطق بما في كنه المتكلمن عبّر ذلك عنه الضابط عبد الله علي مصينعي الذي قال: «حافظ على مسعد بما أوتيت من قوة». إنه تاريخ حياتك، مكتمل فيه صفاتك مزيد غير منقص، وعليك أن تشد من أزره حتى يستقيم على قدميه لينهض على طريقك القويم ويبقى ذكر في سجل الخالدين.
نعم لقد رفع ذكري عالياً عندما وصلت أوديون وبيضافون والتاج العدني إلى عدن، وذينك أولى شركات تسجيل الأسطوانات الشمعية بعدن. كان وصولها في عام 1357. سُجّل لي الأغاني التاريخية "طلعت بدرية بين الحسان" و"تاج شمسان" و"همهم على الماطر حبيب نشوان". الأولى والثالثة سُجّلت في اسطوانات شركتا أوديون وبيضافون، أما "تاج شمسان" فسجلها في إسطوانات شركة التاج العدني. نعم لقد حدثت بعض النتوءات في أغنية "طلعت بدرية"، لأنها دخلت في أول تجربة تسجيلية لشركة أوديون. وطُلب منه إعادة تسجيل الأغنية، لكن مسعد رفض إعادتها، وتنازل لفضل جبيلي بالتسجيل شريطة أن تكون في شركة بيضافون. ونتيجة لما حدث بين الشركتين الألمانيتين، قام بتسجيلها في شركة إسطوانات التاج العدني.
سجل فضل محمد جبيلي أغنية "طلعت بدرية" في إسطوانة التاج العدني، طلع صوته به خنة، وطُلب إعادة تسجيلها بصوت مسعد، فلما سمع فضل ذلك إنتابته صدمة على أثرها ظل يهذي بعد أن صفع ضابط التسجيل صفعة قوية متكررة. ثم تمادى على مسعد وانهال عليه ضرباً وركلاً حتى أقعده وغمي عليه. فماذا أفعل والإثنان اولادي، لقد قمت بمعاقبة فضل وتوقيفه من الغناء والطرب لمدة شهرين كاملين. وكافأت مسعد ببيت ملك في حافة اليهود تكريماً له لأنه لم يرفع يده على فضل، وكان بإستطاعته أن يكيل الصاع صاعين لأنه أكبر من فضل وأقوى منه، ولكنه تركه وشأنه وجعلني الحكم بينهما وهذه بيعة الشجعان. وهذه ليست المرة الأولى التي يتعاركان فيها، فقد سبقتها عدة معارك أثناء الحفلات وبعدها. وكان البادئ فيها فضل محمد. قد يقول البعض من خارج سكني بأني مجامل أو زنديق لأني عملت كل ذلك من أجل مسعد، لكن رأيي على هذا استقر. ولولا عملي هذا لما تأدب فضل وهدأ. وعندما عرفت أنه تاب إلى رشدهن اشتريت له بيتاً في حافة الخطيب وملكته إيّاه وذلك تقديراً لمن يقدّر إخوته وزملاؤه ويحترمهم.
أنظر أيضاً
هذا العمل في الملك العام في اليمن وفق قانون رقم 15 لسنة 2012 (اليمن) بشأن حق المؤلف والحقوق المجاورة لأن مدة حماية حقوق المؤلف قد انقضت. |