انتقل إلى المحتوى

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (8)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: ولا جرم، فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي، وحرموا الجمل والأرنب، إذا ذكاهما يهودي، تقليداً لخطأ مالك في ذلك، وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله ، وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى، تقليداً لخطأ أبي حنيفة في ذلك، وردوا كلام النبي وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه، وهذا نص ما حرم الله تعالى ورسوله من فعل اليهود والنصارى، وقد أنذر بذلك وقال: «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» فقيل له: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ فقال كلاماً معناه: نعم.

حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا ابن دحيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، نا عطاء بن السائب، عن أبي البختري، أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة، كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، ودنيا مطغية تقطع الأعناق؟ ثم قال: أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم، وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم، وأما جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق، فما أضاء لكم فاتبعوه، وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل، وذكر باقي الحديث. قال أبو محمد: فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء، ويأمر باتباع ظاهر القرآن الذي هو كمنار الطريق، وينهى عن التأويلات والمتشابه منه، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين. حدثنا يوسف بن عبد الله النمري، أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، هو ابن الزيات، نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري، نا موسى بن إسحاق. نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال: نا معن بن عيسى القزاز، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، فهذا مالك ينهى عن تقليده، وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي، فلاح الحق لمن لم يغش نفسه، ولم تسبق إليه الضلالة، نعوذ بالله منها.

فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء

قال أبو محمد: فإن قال قائل: فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته، أو نزلت به نازلة فأعيته؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة، ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى، وكلام النبي كما أمره الله تعالى إذ يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } وإذ يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي وليتق الله، ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه، ومن أبى فسيرد ويعلم.

وقد قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فلم يجعل البيان إلا لنبيه فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان، وحصل على الضلالة، ونعوذ بالله منها. فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع، أولها عن آخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام. فإن قال قائل: فما وجه قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } قيل له وبالله تعالى التوفيق: إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة، وما روي عن رسول الله فيها، ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم، وقد بيَّن ذلك بقوله: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» وبينه تعالى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فالدين قد كمل، فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل، وكل هذا كفر ممن أجازه.

وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين، ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئاً، بل حرم تعالى ذلك بذمه قوماً شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } . فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي ، ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب، ما بلغه إلينا من تقدمنا، ومعلمون إياه، ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه. فإن قال قائل: فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة؟. قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عاميّاً من عالم، ولا عالماً من عامي، وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق، والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله، في كل ما خص المرء من دينه، لازم لكل من ذكرنا، كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق، فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل، وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه، لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ولقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه، ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط، ويسقط عنا ما لا نستطيع، وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحداً من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط، فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد، ومقدار طاقته منه، فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا، أو قال له: هذا قولي، أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي ، أو انتهزه أو سكت عنه: فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان، إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد في ذلك، وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة، ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه.

وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله أو الإجماع أن يقول له: نعم، هكذا أمر الله تعالى رسوله ، وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله شيئاً، قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي ، فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذباً على رسوله عليه السلام، ومقولاً له ما لم يقل، وقد وجبت له النار يقيناً، بنص قوله : «مَنْ كَذِبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ» وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله، لأنه لا يكون أحد من الناس مسلماً حتى يعلم أن الله تعالى ربه، وأن النبي عليه السلام، وهو محمد بن عبد الله، رسول الله بالدين القيم. فإن قال قائل: فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة، أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي وليست من قوله، سهواً أو تعمد ذلك، فما الذي يلزم العامي من ذلك؟ وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوماً من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه، وقوماً من أصحاب الرأي من يسأل؟ فقال يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من الرأي. قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن هذا ينقسم ستة عشر قسماً، وهي:

من بلغه خبر منسوخ، أو آية منسوخة، ولم يعلم بنسخ ذلك، فالعامي والعالم في ذلك سواء، والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ، ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ، فأخبر تعالى أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر، فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه. وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ، وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به، ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه، وقد لزمه الأمر الأولى بيقين، فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن.

وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة، والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك، ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة، ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة، ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها، ما لم يبلغهم النسخ، وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيماناً، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس، ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت، لكن لما لم يعلموا ذلك، لم يلزمهم ما لم يعلموا، ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم. وهكذا القول في كل ما صح نسخه، ولم يصح عند بعض الناس. وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليداً ففاسق، وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين. وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ، فهو عاص لله تعالى، لأنه ترك الفرض الواجب عليه لما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق. فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه.

ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة: وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي ظنه عالم من العلماء منسوخاً، فترك العمل به، وأفتى بذلك عاميّاً، وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان، فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ، وهذا خلاف ما تقدم، لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما، إلا أن من ترك ذلك مجتهداً ــــ يرى أن الذي فعل هو الحق، ولم يتبين له غيره بعد ــــ فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلداً فهو عاص لله عز وجل آثم، لا حظ له في الآخرة أصلاً لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد. فهذه أربعة أوجه: ثم وجهان آخران، وهما: من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه، فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح، فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك، فإن تركه وهو عنده غير صحيح، ولم تقم الحجة عليه بصحته، فهو محسن مأجور، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه.

وأما من صح عنده الخبر فتركه، فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدماً مستجيزاً لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق، فهذا قسم. وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله ، فهو كافر مشرك، لقول الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . ثم وجهان آخران: وهما عكس اللذين قبلهما، وهما: من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحاً فعمل به، فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجراً واحداً، ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق، لأنه لم يقصد، والأعمال بالنيات فلو تركه عمداً لكان متسهلاً لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط، آثماً فيها، فإن لم يكن مستسهلاً لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك. فلا إثم عليه، لأنه لم يترك حقّاً وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة. فإنها لا تلزمه، ولا هو مأمور بها. ولو كان عاصياً بترك العمل بها لكان مأموراً بها وهي باطل. فكان يكون مأموراً بالباطل. وهذا خطأ متيقن. لكنه إن تركها مستسهلاً لترك العمل بالواجب عليه، فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب. وبالله تعالى التوفيق.

ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل، فإنه إن عمل بها مقلداً فهو آثم في تقليده مأجور ــــ إن شاء الله تعالى ــــ بعمله بها إن أراد الله تعالى. ثم وجهان: وهما: من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه، ولم يبلغه الخصوص، وترك العمل بعمومه، فوافق الحق وهو لا يعلمه، أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص.

فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموماً، فمأجور أجرين، لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه، إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه، فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك، لكن مطارفة، فعمل بالخصوص فوافق الحق، فإن كان مستسهلاً لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله بلا دليل، فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل، لأنه لم يخطىء في ذلك، فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله فلا إثم عليه البتة.

والقياس وقول من دون النبي بغير نص ولا إجماع والرأي، كل ذلك خطأ، ولم يكن قط حقّاً البتة. ثم وجهان: وهما حاكم شهد عنده رجلان ــــ هما عنده عدلان ــــ فوافق أن شهدا بباطل، إما عمداً وإما غلطاً، فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما. لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا. ولم نكلف علم غيبهما، وقد قال رسول الله : «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» فقد أخبر أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين، ولعل الباطن خلاف ذلك، وهو لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه. ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده، وإن كانوا كاذبين أو مغفلين، وهو في ذلك مأجور أجرين، ولا إثم عليه فيما خفي عنه، فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل. فاسق بتلك النية وبعمله معاً، والإثم عليه في تركه الحكم بها. ثم وجهان: وهما: حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما، فهو غير مأمور بالحكم بشهادتهما، ولا يحل له أن يحكم بها أصلاً، وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك، فلو حكم بها فهو آثم عاص بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه، وإن كان بما وافق الحق. وعمدة القول في هذا الباب كله: أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه، والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمداً أو تقليداً، وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقّاً، لا ما أفتاه به المفتون، مما لم يأت به نص ولا إجماع، وأخبر بأنه نص أو إجماع، وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها، فإن كانت خيراً، فخير وإن كانت شراً فشر، وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به. وإن لم يعلم أنه ليس مأموراً به، وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل، إلا أن يبلغه نص فيخالفه، وإن كان مخصوصاً أو منسوخاً بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص. ومن هذا الباب: من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها، وهو يظنها أجنبية، فإذا بها امرأته، ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها، أو لقي إنساناً فقتله وهو يظنه مسلماً حرام الدم، فإذا به قاتل أبيه عمداً أو كافر حربي، أو انتزاع مالاً من مسلم كرهاً، فإذا به ماله نفسه، فكل هذا إن كان مستسهلاً للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل، ولا إثم عليه في وطئه، ولا أخذه ماله. ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه، لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحاً له.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)