ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (3)
وقال أسيد وغيره ــــ إذ رجع سيف أبي عامر الأشعري عليه ــــ بطل جهاده، وقالوا ذلك في عامر بن الأكوع، فكذبهم النبي في ذلك، وأفتى عمر المجنب في السفر ألا يصلي شهراً بالتيمم، ولكن يترك الصلاة حتى يجد الماء وقال عمر للنبي أن يناول القدح أبا بكر وهو عن يسار النبي فأبى ذلك النبي وأخبر أن الواجب غير ذلك، وهو أن يناوله الأيمن فالأيمن، وكان عن يمينه أعرابي، وتمعك عمار في التراب كما تتمعك الدابة، فأنكر ذلك النبي .
وأنكر النبي على عمر نداءه إياه ــــ إذ أخَّر العتمة وقال له: ما كان لكم أن تنذروا رسول الله وقال أسامة ــــ إذ قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله ــــ: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، فقال له النبي : «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» وأنكر عليه قتله إياه وخطأه في تأويله حتى قال أسامة: وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم، وقال خالد: رُبَّ مصلَ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فأنكر ذلك رسول الله ، وأنكر فعله ببني جذيمة.
وتنزه قوم منهم عن أشياء فعلها فأنكر ذلك وغضب منه وتأول عمر أنه أخطأ إذ قبَّل وهو صائم، فخطأه في تأويله ذلك، وأخبر أنه لا شيء عليه فيه، وتأول الأنصاري تقبيله وهو صائم وإصباحه جنباً وهو صائم، أن ذلك خصوص له ، فخطأه في ذلك وغضب منه، وتأول عدي في الخيط الأبيض أنه عقال أبيض، والنبي حي.
وأعظم من هذا كله تأخر أهل الحديبية عن الحلْق والنحر والإحلال، إذ أمرهم بذلك ، حتى غضب وشكاهم إلى أم سلمة أم المؤمنين وكل ما ذكرنا محفوظ عندنا بالأسانيد الصحاح الثابتة، وأخبرني أحمد بن عمر، ثنا أبو ذر، نا زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو محمد بن زنجويه بن محمد النيسابوري، أنا محمد بن إسماعيل البخاري، نا أبو النعمان، نا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال سعيد ــــ هو ابن المسيب ــــ: قضى عمر في الإبهام وفي التي تليها بخمس وعشرين، وقال سعيد: ووجد بعد ذلك في كتاب آل حزم في الأصابع عشراً عشراً، فأخذ بذلك. أخبرني محمد بن سعيد: نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا الخشني، نا بندر، نا يحيى القطان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن مسروق قال: سألت ابن عمر عن نقض الوتر، فقال: ليس أرويه عن أحد إنما هو شيء أقوله برأيي. قال أبو محمد: فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون؟ أم كيف يحل لمسلم يتقي الله تعالى أن يقول ــــ في فتيا الصاحب ــــ مثل هذا لا يقال بالرأي، وكل ما ذكرناه فقد قالوه بآرائهم وأخطؤوا فيه. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا الخشني، نا بندار، نا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن رجل من بني سليم قال: سمعت ابن عباس يقول في العزل: إن كان رسول الله قال فيه شيئاً فهو كما قال، وأما أنا فأقول برأيي: هو زرعك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته. وقالعلي: في مسيره إلى صفين: هو رأي رأيته، ما عهد إلي رسول الله فيه بشيء وقال عمر: الرأي منا هو التكلف، وقال معاوية في بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، هذا رأي، وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق: أقول فيها برأيي فإن كان حقّاً فمن الله، وإن كان باطلاً فمني، والله ورسوله بريئان، وقال عمران بن الحصين ــــ وذكر متعة الحج ــــ قال فيها رجل برأيه ما شاء، يعني عمر.
وقال عبيدة لعلي: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، وقال أبو هريرة في حديث النفقة ــــ وزاد في آخره زيادة ــــ فقيل له: هذا عن رسول الله ؟ قال: لا هذا من كيس أبي هريرة، فها هم رضي الله عنهم يعترفون أنهم يقولون برأيهم، وأنهم قد يخطئون في ذلك، فصح بذلك بطلان قول من ذكرنا، وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد، عن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، نا أبو كريب وإسحاق بن راهويه، وإسحاق بن يونس، وقال أبو كريب: نا أبو معاوية واللفظ له، قالا جميعاً عن الأعمش عم مسلم ــــ وهو أبو الضحى عن مسروق، عن عائشة قالت: ترخص رسول الله في أمر استنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ فَوَالله لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِالله وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خشْيَةً» . قال أبو محمد: ورواه مسلم أيضاً عن زهير بن حرب، عن جرير، عن الأعمش بسنده فقال: «بلغ ذلك ناساً من أصحابه» . حدثنا أحمد بن عمر، نا علي بن الحسين بن فهر، نا الحسن بن علي بن شعبان، وعمر بن محمد بن عراك قالا: نا أحمد مروان، نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، نا حرملة عن ابن وهب: سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين، حدثه بهما ثقة عن رسول الله ، أتراه من ذلك في سعة؟ قال: لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا في واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً ما الحق وما الصواب إلا في واحد.
قال أبو محمد: وهذا حجة على المالكيين القائلين بتقليد من احتجوا به من الصحابة وقد اختلفوا. فصح بكل ما ذكرنا أنه لا يحل اتباع فتيا صاحب ولا تابع، ولا أحد دونهم إلا أن يوجبها نص أو إجماع، ويبطل بذلك قول من قال، فيما رواه عن الصاحب بخلاف، ما صح عن النبي ، مثل هذا لا يقال بالرأي وصح أنه قد يخطىء المرء منهم فيقول برأيه ما يخالف ما صح عن النبي . واحتجوا بمنع عمر من بيع أمهات الأولاد بما روي من سنة وضع الأيدي على الركب في الصلاة ومن قوله في جوابه لعمرو بن العاص، إذ قال له وقد احتلم: خذ ثوباً غير ثوبك، فقال: لو فعلتها لصارت سنة. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم في شيء منه. أما بيع أمهات الأولاد فقد خالف في ذلك ابن مسعود، وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ــــ عمر، فرأوا بيعهن، فما الذي جعل عمر أولى بالتقليد من هؤلاء؟ وإنما منعنا من بيعهن لنص ثابت أوجب ذلك، فقد ذكرناه في كتاب الإيصال إلى فهم الخصال. وقال أصحابنا: إنما منعنا من ذلك لإجماع الأمة على المنع من بيعهن إذا حملن من وسادتهن، ثم اختلفوا في بيعهن بعد الوضع، فقلنا نحن: لا نترك ما اتفقنا عليه إلا بنص أو إجماع آخر طرداً لقولنا باستصحاب الحال. وأما وضع الأيدي على الركب، فقد صح من طريق أبي حميد الساعدي عن النبي مسنداً وضع الأيدي على الركب في الركوع. وأما قول عمر: لو فعلتها لكانت سنة، فليس على ما ظن الجاهل المحتج بذلك في التقليد، ولكن معنى ذلك: لو فعلتها لاستن بذلك الجهال بعدي: فكره عمر أن يفعل شيء يلحقه أحد من الجهال بالسنن، كما قال طلحة، إذ رأى عليه ثوباً مصبوغاً وهو محرم: إنكم قوم يقتدى بكم فربما رآك من يقول: رأيت على طلحة ثوباً مصبوغاً وهو محرم، أو كلاماً هذا معناه. فعلى هذا الوجه قال عمر: لو فعلتها لكانت سنة، لا على أن يسن في الدين ما لم ينزل به وحي، وقد كانوا رضي الله عنهم يفتون بالفتيا فيبلغهم عن النبي خلافها، فيرجعون عن قولهم إلى الحق الذي بلغهم، وهذا لا يحل غيره. وقد فعل أبو بكر نحو ذلك في الجدة، وبحث عن فعل النبي في ذلك، وفعل ذلك عمر في الاستئذان ثلاثاً حتى قال له أبيّ بن كعب: يا عمر لا تكن عذاباً على أصحاب محمد . فقال عمر: سبحان الله إنما سمعت شيئاً فأردت أن أتثبت. ورجع عن إنكاره لقول أبي موسى، ولم يعرف حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة، وكذلك أمر المجوس، وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها، حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت، وبلغه أن النبي نهى عن ذلك، وأراد عمر قسمة مال الكعبة، فقال له أبيّ: «إن النبي لم يفعل ذلك» فأمسك عمر.
وكان يردُّ الحُيَّض حتى يطهُرْن ثم يطُفْن بالبيت حتى بلغه عن النبي خلاف ذلك فرجع عن قوله، وكان يرد المفاضلة في دية الأصابع، حتى بلغه عن النبي المساواة بينها، فرجع عن قوله إلى ذلك وترك قوله. وكان لا يرى توريث المرأة في دية زوجها، حتى بلغه عن النبي خلاف ذلك، فترك قوله ورجع إلى ما بلغه، وكان ينهى عن متعة الحج، حتى وقف على أنه أمر بها، فترك قوله ورجع إلى ما بلغه، وأمر برجم مجنونة زنت، حتى أخبره عليّ أن النبي قال كلاماً معناه: إن المجنون قد رفع عنه القلم، فرجع عن رجمها. ونهى عن التسمي بأسماء الأنبياء، فأخبره طلحة أن النبي كناه أبا محمد فأمسك، ولم يتماد على النهي عن ذلك، وأراد ترك الرَّمَل في الحج، ثم ذكر أن النبي فعله، فرجع عما أراد من ذلك، ومثل هذا كثير. وإذا كان رسول الله يخبر أن أصحابه قد يخطئون في فتياهم، فكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إنه يأمر باتباعهم فيما قد خطأهم فيه؟ وكيف يأمر بالاقتداء بهم في أقوال قد نهاهم عن القول بها، وكيف يوجب اتباع من يخطىء؟ ولا ينسب مثل هذا إلى النبي إلا فاسق أو جاهل؛ لا بد من إلحاق إحدى الصفتين به، وفي هذا هدم الديانة، وإيجاب اتباع الباطل، وتحريم الشيء وتحليله في وقت واحد، وهذا خارج عن المعقول وكذب على النبي ومن كذب عليه ولج في النار. نعوذ بالله من ذلك. وأما قولهم: إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به، فإنه يلزمهم على هذا أن التابعين شهدوا الصحابة فهم أعلم بهم، فيجب تقليد التابعين. وهكذا قرناً فقرناً، حتى يبلغ الأمن إلينا فيجب تقليدنا. وهذه صفة دين النصارى في اتباعهم أساقفتهم، وليست صفة ديننا والحمد لله رب العالمين.
وقد قلنا ونقول: إن كل ما احتجوا به مما ذكرنا لو كان حقّاً لكان عليهم لا لهم، لأنه ليس في تقليد الصحابة ما يوجب تقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي، فمن العجب العجيب أنهم يقلدون مالكاً وأبا حنيفة والشافعي، فإذا أنكر ذلك عليهم احتجوا بأشياء يرومون بها إيجاب تقليد الصحابة، وهم يخالفون الصحابة خلافاً عظيماً فهل يكون أعجب من هذا ونعوذ بالله من الخذلان. وليس من هؤلاء الفقهاء المذكورين أحد إلا وهو يخالف كل واحد من الصحابة في مئين من القضايا، وفي عشرات منها، فقد بطل ما نصروا، وتركوا ما حققوا، وقد ذكرنا في باب الإجماع إبطال قول من قال باتباع الصاحب الذي لا مخالف له يعرف من الصحابة.
وبينا هنالك أنهم الناس لذلك، وأنهم قد خالفوا أحكاماً كثيرة لعمر، بحضرة المهاجرين والأنصار، لم يرو عن واحد منهم إنكاراً لفعله ذلك كإضعافه الغرم على حاطب في ناقة المزني وغير ذلك، وهذا حكم مشتهر منتشر لم يعارضه فيه أحد من الصحابة، ولا روي عن أحد منهم إنكاراً لذلك، فقد تركوه هم يشهدون أن حكم الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة هو الحق؛ فقد أقروا على أنفسهم أنهم تركوا الحق، وأنهم أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. ويقال لهم أيضاً: كيف كان حال حكم الصحابي الواحد الذي لا يعرف له مخالف قبل أن يشتهر وينتشر؟ أكان لازماً أن يؤخذ به؟ أو كان غير لازم؟ فإن قال: كان غير لازم، أوجب أن ذلك الحكم في الدين وجب بعد أن كان غير واجب، وهذا كفر وتكذيب لله عز وجل في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وإن قال: كان لازماً، فقد أوجب لزومه قبل الانتشار، وسقط شرطهم الفاسد في الانتشار، وهذا القول الفاسد يوجب أن دين الله مترقب فإن انتشر لزم؛ وإن لم ينتشر لم يلزم؛ وهذا كفر بارد، وشرك وسخف. وبالله تعالى التوفيق. وهم يخالفون عمر وزيد بن ثابت في قضاء عمر في الضلع بحمل، وفي الترقوة بحمل، وفي قضاء زيد في العين القائمة بمائة دينار، ولا يعرف له من الصحابة مخالف، حتى تحكم بعضهم فلم يستحي من الكذب فقال: إنما كان ذلك منهما على وجه الحكومة. قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة لا دليل لهم على صحتها أصلاً. ولا يعجز عن مثلها أحد، ويقال لهم مثل ذلك في تقويم الدية بألف دينار وبعشرة آلاف درهم، أو باثني عشر ألف درهم ولا فرق. وخالفوا ابن عمر وأبا برزة في قولهما: إن كل متبايعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا بأبدانهما عن مكان البيع، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة.
وخالف مالك ابن عمر وابن عباس في قولهما: إن استطاعة الحج ليست إلا الزاد والراحلة. وخالفوا جابر بن عبد الله في نهيه عن بيع المصاحف، ولا يعرف لابن عمر ولا لابن عباس ولا لجابر في هاتين المسألتين، مخالف من الصحابة. وخالف مالك والشافعي أم سلمة وعثمان بن أبي العاص في قولهما: إن أقصى أمد النفاس أربعون يوماً ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة. وخالف مالك ابن مسعود وأبا الدرداء والزبير وقدامة بن مظعون في إباحة نكاح المريض، وجواز ميراثه للمرأة، ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف في ذلك. وخالفوا أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وسويد بن مقرن في إقادتهم من اللطمة، ولا يعلم لهم في ذلك مخالف من الصحابة. قال أبو محمد: وقد أبطلنا في باب الإجماع قول من قال باتباع الأكثر، وهذه نصوص يوجب تكرارنا إياها أنها تقليد صحيح، فتدخل في باب التقليد وادعوا هم أنها إجماع، فوجب التنبيه عليها أيضاً في باب الإجماع لذلك. وقد بينا هنالك، وفي باب الأخبار من كتابنا هذا بطلان قول من قال: محال أن يغيب حكم النبي عن الأكثر ويعلمه الأقل، وذكر حديث أبي هريرة: «إن أخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وكنت امرأ مسكيناً ألزم رسول لله » .
وهذا الحديث وإن كان منقولاً من طريق الآحاد، فإن البرهان يضطر إلى تصديقه، لأنه لا شك عند كل ذي عقل ومعرفة بالأخبار، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في ضنك شديد من العيش. وكانوا مكدودين في تجارة يضربون لها آفاق بلاد العرب على خشونتها وقلة أموالها، وفي نخل يعاونونه بالنص والكد الشديد، فإذا وجد أحدهم فرجة حصر وسمع. فبطل قول من قال: إنه لا يجوز أن يغيب حكمه عليه السلام عن الأكثر ويعلمه الأقل. وصح ضد ذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فنقول لمن قال باتباع الأكثر: إنه يلزمك أن تعدهم كلهم، ثم تعرف من قال بأحد القولين؛ وتعرف عدد من قال بالقول الثاني، وهذا أمر لم يفعلوه قط في شيء من مسائلهم، وقد قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . ونقول لهم أيضاً: هلا قلتم بالأكثر عدداً في الشهود إذا اختلفوا؟ على أن عليّاً يقول بذلك، فأين تقليدكم الإمام الصحابي؟ وأين قولكم باتباع الأكثر عدداً؟ فإن قالوا: النص منعنا من ذلك، وتركوا قولهم إن الصحابي أعلم منا، ولا شك أن عليّاً رضي الله عنه قد عرف من النص الوارد في الشهادات كالذي عرف مالك وأبو حنيفة والشافعي، مع أن النص لم يرد في عدد الشهود إلا في الزنى والطلاق والديون فقط.
وقد رجع الصحابة من قول إلى قول، وخالف كل إمام منهم الإمام الذي كان قبله، فقد كانت الضوال أيام عمر مهملة لا تمس، ثم رأى عثمان بيعها، وقد ذكرنا ما خالف فيه عمر أبا بكر قبل هذا، وقد نهى عثمان عن القران، فلبى علي بهما معاً قاصداً معلناً بخلافه، فلما قال له في ذلك، قال له علي: ما كنت لأترك سنة النبي لقول أحد. وحدثني أحمد بن عمر بن عمر، نا أبو ذر، نا زاهر بن أحمد، أنا زنجويه بن محمد، نا محمد بن إسماعيل البخاري، نا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر، ما المخرج من هذا الأمر؟ قال: كتاب الله تعالى ما استبان لك فاعمل به. وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه. قال أبو محمد: فليقلدوا عليّاً وأُبيّاً في هذا، فإنهما على الحق المبين فيه الذي لا يحل خلافه أصلاً. وهؤلاء عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، يرون رد فضلات المواريث على ذوي الأرحام، وزيد بن ثابت وحده يرى رد الفضل على بيت المال دون ذوي الأرحام، وإن كان خصمنا مالكياً أو شافعيّاً فقد ترك قول الأئمة من الصحابة وقول الجمهور منهم، وأخذ بقول زيد وحده، وكذلك فعلوا في الأقراء فقالوا هي الأطهار، وجمهور الصحابة على أنه الحيض، والأقل على أنها الأطهار. فإن قالوا: قد جاء النص: «إِنَّ زَيْداً أَفْرَضُكُمْ» قيل هذا الحديث لا يصح ولو صح لكان عليكم، لأن في ذلك الحديث: «وَمُعَاذُ أَفْقَهُكُمْ» فقلدوا معاذاً في الفتيا، وفي قتل المرتد دون أن يستتاب، وفي توريث المؤمن من الكافر، وفي أشياء كثيرة خالفتموه فيها. واحتج بعضهم بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } . وبقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب التقليد، لأنه قد بينا أنهم لم يتفقوا إلا على ما لا خلاف فيه، وعلى الأخذ بسنن النبي ، وإنكار رأيهم إذا كان فيه خلاف للسنن، وعلى ما قد خالفه هؤلاء الحاضرون، كالمساقات إلى غير أجل. لكن نقركم ما أقركم الله تعالى ونخرجكم إذا شئنا، وغير ذلك مما قد كتبناه في موضعه فقط، وقد وجدنا أبا أيوب ترك صلاة الركعتين بعد العصر طول مدة عمر، فلما مات رجع يصليهما، فسأله عن ذلك سائل فقال: كان عمر يضرب الناس عليهما. وقال ابن عباس قولاً فقيل له: أين كنت عن هذا أيام عمر؟. فقال: هبته. حدثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، ثنا ابن دحيم، ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا علي بن عبد الله بن المديني، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان عند ابن عباس فذكر عول الفرائض، فأنكره ابن عباس، فقال له زفر بن أوس: ما منعك يا ابن عباس أن تشير بهذا الرأي على عمر؟. قال هبته، وقد روينا عن ابن عباس من طرق صحيحة أنه هم أن يسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله فبقي سنة كاملة لا يقدم على أن يسأله عن ذلك هيبة له. وروينا عنه أنه قال: كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر، ثم روينا عنه القول بصلاتهما بعد عمر، كما حدثنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: لقد رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر، وقال ابن عباس: صل إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس. وقد ذكر أبو موسى حديث الاستئذان، فتهدده عمر بضرب ظهره وبطنه، فصح بهذا أن سكوتهم قد يكون تقبة للإسلام، أو لئلا يقع تنازع واختلاف. وقد يكون تثبتاً، أو لما شاء الله عز وجل، وليس قول أحد لا سكوته حجة إلا رسول الله فإن قوله وسكوته حجة قائمة على ما أعلم.
واحتج بعضهم بأن حكم الإمام لا ينقض، لأن أبا بكر ساوى بين الناس وأن عمر فاضل بينهم، فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر. قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكماً، وإنما هي قسمة مال موكولة إلى اجتهاد الإمام، مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب. وقد دوَّن عمر ولم يدون أبو بكر، وبالجملة فقد يخطىء الإمام غيره، واتباع من يجوز أن يخطىء هو الحكم بالظن. وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن.