ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (9)
وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي من قولـه: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» . قال أبو محمد: وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة التي لم يعملـها، وهذا ما لا شك فيه، ولم يقل إن إثم الـهم بالسيئة لا يكتب عليه، والـهم بالشيء غير العمل به؛ قال ضابىء بن الحارث البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائلـه ثم استدركنا هذا، وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الـهم جملة، وأنه هو اللمم المغفور جملته.
فإن قال قائل: فقد صح عن النبي أنه أخبر أن: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» قيل لـه: قد صح ذلك، وأخبر أن: «الأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فمن هم بسيئة ثم تركها قاصداً بتركها إلى اللـه تعالى، كتبت لـه حسنة بهذه النية الجميلة، فإن تركها لا لذلك لكن ناسياً أو مغلوباً أو بدا لـه فقط، فإنها غير مكتوبة عليه، لأنه لم يعملـها ولا أجر لـه في تركها، لأنه لم يقصد بذلك اللـه تعالى. ولا يكون من همَّ بالسيئة مصرّاً إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل، قال اللـه تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه، وهو عالم بأنه حرام عليه، وأما من هم بقبيح ولم يفعلـه قط، فهو هام به لا مصرٌّ عليه، بالنصوص التي ذكرنا.
فإن قال قائل: ما تقولون في حربي كافر لقي مسلماً فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم، ثم علمه الشرائع، وقال لـه: هذه شرائع الإسلام، أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا؟ قيل لـه وباللـه تعالى التوفيق: الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم. وهو أن ما كان مما أمره به موافقاً للنص أو الإجماع، فهو واجب عليه قبولـه، ومأجور فيه إن عملـه أجران، وعاص فيه إن لم يفعلـه، وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه، ولا يأثم في ترك العمل به، إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص، فهو آثم في هذه النية فقط، فلو عمل بذلك أجر أجراً واحداً بقصده إلى الخير فقط، ولم يؤجر على ذلك العمل، ولا إثم فيه، لأنه ليس حقّاً فيؤجر عليه، ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه، وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء. وهذا حكم العالم فيما اعتقده، وأفتى به، باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند اللـه عز وجل.
فهي أربع مراتب هو: إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق، فله أجران: أجر النية وأجر العمل، وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق، فله أجران، أجر النية وأجر العمل، وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل، فله إثمان: إثم النية وإثم العمل، وقال تعالى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . فالنية عمل النفس المجرد، والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها، فهما عملان متغايران، وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلاً، أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق، فلا إثم عليه فيما عمل، ولا فيما ترك، لأنه لم يعمل محرماً عليه، ولا ترك واجباً عليه، ولا يؤجر أيضاً في شيء من ذلك، لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى، فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط، لا بما فعل ولا بما ترك. ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقّاً أو ترك الحق وهو يظنه باطلاً، فهذا مأجور في نيته للخير أجراً واحداً، ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضاً، لأنه لم يعمل صواباً فيؤجر. ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلاً فيأثم، فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك، وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل. فإن سأل العامي فقيهين فصاعداً فاختلفوا عليه، فقد قال قوم: يأخذ بالأخف، وقال قوم: يأخذ بالأثقل، وقال قوم: لا يلزمه منها، وقال قوم: هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك.
قال أبو محمد: أما من قال: هو مخير، فقد أمره باتباع الهوى، وذلك حرام وأخطأ بلا شك، وجعل الدين مردوداً إلى اختيار الناس يعمل بما شاء، وأجاز فيه الاختلاف، والله تعالى يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به.
وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد، وأن سائر ذلك خطأ وباطل، فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه، وأباح له خلاف حكم الله تعالى، وهذا الباطل المتيقن بلا شك، فسقط هذا القول بالبرهان الضروري. وأما من قال: يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضاً، وكذلك قول من قال: يأخذ بالأخف، وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة، فإن احتج بقول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر، وبقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إنه إن أفتاه فقيهان فصاعداً بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله ، فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها، لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة، وهو لم يدره بعده، فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه، لكنه يتركهم ويسأل غيرهم؛ ويطلب الحق. مثال ذلك: رجل سأل: كيف أحج؟ فقال له فقيه: أفرد، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها. وقال له آخرون: اقرن، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها. وقال له آخرون: تمتع، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها، ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم، ثم يلزمه ما قلنا آنفاً، قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده. ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما، إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي، فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث، حتى يلوح له الحق، أو يموت وهو باحث عن الحق، عالي الدرجة في الآخرة في كلا الأمرين، ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمراً لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده.
والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وبقوله : «أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسْلاَمِ مَنْ سَأَلَ عَنْ أمْرٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . والأصل ألا يلزم أحداً شيء إلا بعد ورود النص وبيانه، وبقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وبقوله عليه السلام: «لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» وبقوله في قيام رمضان: «خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه، فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم، لا بما لا يعلم، ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم، ولا يؤاخذ الله تعالى أحداً بشيء لم تقم عليه الحجة، ولا صح عنده وجهه، لأنه لم يبلغه ذلك الحكم، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
وأما من قال: إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ــــ ولم يفسر كما فسرنا ــــ فقد أخطأ. ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له: إن كنت شافعياً فماذا تقول في عاميّ سأل مالكياً أو حنفياً عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها؟. فأفتاه بأنها ليست له بزوجة، وأن نكاحه فاسد، أتجيز له أن يعتر بغير طلاق، فيزوجها من غيره، فيبيح له فرجاً حرمه الله عليه؟ أو تراه عاصياً إن قام معها؟. وإن كان مالكياً قلنا له: ما تقول في عاميّ سأل شافعياً أو حنبلياً عن نكاح امرأة أمّهُ أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها، أتبيح له ذلك، وتقول: إنه لازم الأخذ بقوله. أو سأل حنفيّاً عن المساقاة، أتجوز؟ فحرمها عليه، أيكون الأخذ بتحريم المساقاة واجباً عليه؟.
فإن قال نعم، قيل له: من أوجب عليه تحريم ذلك؟، إذ يقول: إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه، أنت أم الله عز وجل؟ فإن قال: الله عز وجل، كذب على الله تعالى، وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه، وإن قال: أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه، وزادنا أنه يحرم ويحلل، وهذا خروج عن الإسلام. وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكياً عن كلام الإمام في الصلاة بما فيه إصلاحها، فأفتاه بجواز ذلك، أيلزمه الأخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحاً؟ ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفاً. وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيهاً فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن، أفَرَضَ الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا؟ فإن قال: لا، ترك قوله الفاسد: إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول، وإن لج وقال: نعم، صار حاكماً بتحريم شيء وتحليله في وقت واحد، وجعل حكم الله تعالى مردوداً إلى حكم ذلك المفتي، وجعل حكم ذلك المفتي مبطلاً لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله وجعل دين الله تعالى موكولاً إلى آراء الرجال، ومتبدلاً بتبدل الفتاوى، فمرة ساقطاً ومرة لازماً، وفي هذا مفارقة الإسلام، ومكابرة العقل، وإبطال الحقائق، وبالله تعالى التوفيق. والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها: إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقّاً فاعتقده على بصيرة، وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى، وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب، وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ.
فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله بأن من اجتهد فأصاب فله أجران، وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر، وقوله : «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ» عموم لكل مجتهد، لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكماً ما فهو حاكم فيها لما يعتقد، هذا هو اسمه نصّاً لا تأويلاً، لأن الطلب غير الإصابة، وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا، ويصيب من لا يطلب، فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلاً ثانياً، يؤجر عليه أجراً ثانياً أيضاً. فإن أشكل عليه بعد طلبه، فلم يأت محرماً عليه ولا اعتمد معصية، فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل، وله بالطلب أجر واحد.
ولكن الطلب يختلف، فمنه طلب أمر به، وطلب لم يؤمر به، فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما، فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر. فله أجر الطلب، لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا. والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس، وفي دليل الخطاب وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي ، فلم يطلب كما أمر، فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه، كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ، فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة، وهي الطلب الذي لم يفعله. وقد صح عن رسول الله أنه قال: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَإِنَّهَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ» والحسنة بلا شك أجر، فالأجر هنا يتفاضل، فمن همَّ بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات، لأنه هم بحسنة فعملها، ومن همَّ بالطلب كما أمر، فله حسنة واحدة، لأنه لم يعملها كما أمر. حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا أبو كريب، ثنا أبو خالد الأحمر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ» .
وبه إلى مسلم: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا عبد الوارث ــــ هو ابن سعيد التنوري، عن الجعد أبي عثمان، ثنا أبو رجاء العطاري، عن ابن عباس/ عن رسول الله فيما يروي عن ربه تعالى قال: «إِنَّ الله كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافَ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلها كَتَبَهَا الله سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . قال أبو محمد: وأما القسم الثالث: وهو المقلد المصيب، فهو في تقليده عاص لله عز وجل، لأنه فعل أمراً قد نهاه الله عنه وحرمه عليه، فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق، لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به، وكل من عمل عملاً بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل.
ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجراً من المقلد المصيب وأفضل، لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه، فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك. فإن قال قائل: فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستبدال لأنه مقلد، والمقلد عاص، قيل له: ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلداً، بل هو مطيع فاعل ما أمر به، محسن، وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه. فهذا عاص لله تعالى، ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليداً لأبيه وجاره ولمن نشأ معه، ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلماً، لما جاز قبول شهادته، وهذا لا يبعد من الكفر، بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك. وكذلك أخبر النبي إذ وصف فتنة الناس في قبورهم، فقال : «وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ ــــ لا ندري أسمى أي ذلك قال ــــ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي. سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئَاً فَقُلْتُهُ» وهذا نص ما قلنا، والمسلمون ــــ بحمد الله ــــ في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا، بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلداً والحمد لله رب العالمين.
وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فَعَنَدَ فهو فاسق مردود الشهادة، ولو لم يفهمها فهو معذور، ولا يضر ذلك شهادته، قال الله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } فذم عز وجل من عَنَدَ بعد أن تبين له الحق، وعذر النبي . عمر إذ لم يفهم آية الكلالة، فهذا فرق ما بين الأمرين، وبالله تعالى التوفيق، وأما القسم الرابع، وهو المقلد المخطىء، فله إثم معصية التقليد، وإثم المعصية باعتقاده الخطأ، فعليه إثمان. وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي : «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَمَا لَهُ مِنْهَا إِلاَّ نِصْفُهَا، ثُلُثُهَا، رُبْعُهَا» فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته. وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه، وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل، وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء، والإضافة، وزيادات العدول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم، والعام، والخاص، والمجمل والمفسر، والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة، وفهم البراهين والشغب، على حسب ما تنتهي إليه طاقته، وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي.
وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا، من نهي الله تعالى عن التقليد جملة، ومع خطئه فقد تناقض، لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده، وهذا النوع من أنواع الاجتهاد، فقد فارق التقليد وتركه، ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده. فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفاً، وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه، وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه، وأيضاً فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقاً على ذلك، بل في الأغلب يدله قوم على رجل، ويدله آخرون على آخر. وأيضاً فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا يعلم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قوماً فساقاً حملوا اسم التقدم في بلدنا، وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافاً، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عياناً، وعليه جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها. هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه: بالتقليد والقياس والاستحسان، وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم، ولا بما لا يصح عندهم عن النبي ، ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل، ولا عن رسول الله وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة، ما سألوهم ولا استفتوهم، بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداماً يتلفهم.
فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر، وقال له أحدهما: كذا قال الله عز وجل، وقال الآخر: كذا قال رسول الله فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله لقوله عز وجل: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، ولأنه لا يخالف ربه عز وجل، لكنه يبين مراده تعالى، ولأنه لولا رسول الله لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى، ولا درينا دين الله تعالى، ولا عرفنا مراد ربنا تعالى، ولا أوامره ولا نواهيه، ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن. فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين ــــ حاشا الأزارقة ــــ في وجوب الرجم على الزاني المحصن، وليس ذلك في القرآن، ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ــــ إلا من شذ عن الحق في ذلك، وليس في القرآن شيء من ذلك أصلاً. وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها، وبالله تعالى التوفيق، وبرهان قولنا في هذا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، عن أبي داود، نا أحمد بن حنبل، نا سفيان بن عيينة، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي أنه قال: «لاَ أَلفيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ الله تَبِعْنَاهُ» .
فصل هل يجوز تقليد أهل المدينة
وقال قوم بتقليد أهل المدينة، وقد ذكرنا في باب الكلام في الأخبار من كتابنا هذا وفي باب الإجماع من كتابنا هذا بطلان من احتج بعمل أهل المدينة وإجماعهم، فأغنى عن تردده، ولكن لا بد أن نذكر ههنا طرفاً نشاكل غرضنا في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
احتج قوم في تقليد أهل المدينة بقبول قولهم في المُدِّ، والصاع، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن هذا داخل فيما نقلوه مسنداً بالتواتر، على أن ذلك أيضاً مما قد اختلفوا فيه، فقد روي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله ــــ وهو مدني ــــ ما يخالف قولهم ويوافق قول أبي حنيفة.
ولو كان قبول قولهم في المُدِّ والصاع موجباً لقبول قولهم في غير ذلك، لوجب تقليد أهل مكة في جميع أقوالهم، لاتفاق الأمة كلها يقيناً بلا خلاف من أحد منهم، على قبول قولهم في موضع عرفة، وموضع مزدلفة، وموضع مِنىً، وموضع الجمار، وموضع الصفا، وموضع المروة، وحدود الحِمى. فما خالف أحد من جميع فرق الإسلام، لا قديماً ولا حديثاً، قول أهل مكة. وهذا أكثر من المُدِّ والصاع، على أن الأمة لم توافق قولهم في المُد والصاع. وأيضاً فإن قولهم في المد والصاع هو أقل ما قيل، فهو حجة عندنا من هذه الجهة، كما لو قال غيرهم ذلك سواء ولا فرق، لأن ما قالوا: الصاع ثمانية أرطال، وقال قوم: أكثر من ذلك، وقال جمهور أهل المدينة وقوم من غيرهم: خمسة أرطال ونيِّف. فكان هذا المقدار متفقاً على وجوب إخراجه في زكاة الفطر، وجزاء الصيد، وكفارة الواطىء في رمضان، والمُظَاهر، وحلق الرأس للمحرم قبل بلوغ الهَدْي محلّه، فوجب الوقوف عند الإجماع في ذلك، وكان ما زاد مختلفاً فيه لم يجب القول به إلا بنص.