ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (5)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وأي هذه الوجوه كان، فالقائل به مشرك، لاحق باليهود والنصارى، والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئاً من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب، واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين،لأنه مبدل لدينه، وقد قال : «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ومن الله تعالى نعوذ من غضبه لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك، واحتجوا بكتابة أبي بكر المصحف بعد أن لم يكن مجموعاً، وذكروا حديثاً عن زيد بن ثابت أنه قال: افتقدت آية من سورة براءة هي: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . فلم أجدها إلا عند رجل واحد، وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات، أنهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان، وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة. وأما جمع أبي بكر رضي الله عنه المصحف فنعم، ووجه ذلك بين، وهو أن النبي كان ينزل عليه القرآن مفرقاً، فيأمر بضم الآية النازلة إلى آية كذا من سورة كذا، فلم يكن يمكن أن يكتب القرآن في مصحف جامع، لأجل ذلك، فلما مات واستقر الوحي، وعلم أنه لا مزيد فيه ولا تبديل، كتبه أبو بكر حينئذ وأثبته. وأما افتقار زيد بن ثابت الآية، فليس ذلك على ما ظنه أهل الجهل، وإنما معناه أنه لم يجدها مكتوبة إلا عند ذلك الرجل، وهذا بين في حديث حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبي إسحاق البلخي، عن الفربري، عن البخاري: حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت قال: «لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت، الذي جعل رسول الله شهادته شهادة رجلين: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } .

قال أبو محمد: بيان ما قلناه منصوص في هذا الحديث نفسه وذلك أن زيداً حكى أنه سمع هذه الآية من النبي . فقد كانت عند زيد أيضاً، وقد يدخل هذا الحديث علة، وهي أن خارجة لم يحك أنه سمعه من أبيه. وأيضاً فقد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال: ثنا محمد بن معاوية المرواني، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن معمر، ثنا أبو داود، هو الطيالسي، حدثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق: عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله حدثنيها أن رسول الله سارَّها قبل وفاته فقال لها: «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أَرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ» وذكر باقي الحديث فهذا نص جلي على أن القرآن إنما هو جمعه وألفه الله تعالى، وأقرأه جبريل للنبي في عام موته مرتين كما هو، وإنه لم يجمعه أحد دون الله تعالى، فهو كما هو الآن على ذلك الجمع الأول. وأيضاً فقد حدثنا أحمد بن محمد الجسوري، ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: «أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبد الله، قال: إن رسول الله كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه، فإنه عرض عليه مرتين، فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل» . قال أبو محمد: أبو ظبيان هو حصين بن جندب الجنبي، وقد ذكرنا من جمع القرآن على عهده ، ولا شك أن هذه الآية في جملته عندهم؛ وليس عدم زيد وجودها إلا عند خزيمة بموجب أنها لم تكن إلا عند خزيمة، بل كل من قرأ على عثمان وأبي الدرداء وابن مسعود وعلي قد قرؤوا عليهم هذه الآية بلا شك، وفي هذا كفاية. وقد روى قوم أن الآية التي افتقد زيد من سورة براءة وهي: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهذا كذب بحت لكل ما ذكرنا آنفاً.

وأيضاً فقد روي عن البراء: أن آخر سورة نزلت سورة براءة، وبعث النبي بها فقرأها على أهل الموسم علانية. وقال بعض الصحابة، وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة.

قال أبو محمد: فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم، وتقرع بها كثير من أهل المدينة، ومنها يكون منها آية خفيت على الناس؟ هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة. ويبين كذب هذه الأخبار ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه : كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، وأنه كانت تنزل عليه الآية فيرتبها في مكانها، ولذلك تجد آية الكلالة ــــ وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء ــــ في أول المصحف، وابتداء سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } في آخر المصحف، وهما أول ما نزل، فصح بهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل، ثم إلى النبي ، لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولاً نقل الكافة. ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد نقل التواتر. ويبين هذا أيضاً: ما صح أنه كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل، فصح بهذا أنه كان مؤلفاً كما هو عهد الرسول وقوله: «تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ الله وَأَهْلَ بَيْتِي» .

والأحاديث الصحاح أنه قرأ: المص والطور والمراسلات في صلاة المغرب، وأن معاذاً قرأ في حياته البقرة في صلاة العتمة، وأنه خطب بــــ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } وذكر خواتم آل عمران وسورة النساء، وأمره أن يؤخذ القرآن من أربعة: من أبيّ، وعبد الله بن مسعود، وزيد، ومعاذ. وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة: وأمره أن لا يقرأ في أقل من ثلاث، والذين جمعوا القرآن في حياة النبي جماعة ذلك منهم أبو زيد، وزيد، وأبيّ، ومعاذ، وسعيد بن عبيد، وأبو الدرداء، وأمر عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث، فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف، هذا محال لا يمكن البتة.

وهذا كلها أحاديث صحاح الأسانيد لا مطعن فيها، وبهذا يلوح كذب الأخبار المفتعلة بخلافها، لأن تلك لا تصح من طريق النقل أصلاً، فبطل ظنهم أن أحداً جمع القرآن وألفه دون النبي . ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح، أن في بعض المصاحف التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها، وفي بعض المصاحف {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان «هو» . وأيضاً فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء، وأقدمهم صحبة، وكان يحفظ القرآن كله ظاهراً ويقوم به في ركعة، ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي ، ويرجع إلى قراءة زيد، وهو صبي من صبيانه، وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي. ومنها أن عاصماً روى عن زر، وقرأ عليه، لم يقرأ على زيد، ولا على من قرأ على زيد شيئاً، إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود، وهذا ابن عامر قارىء أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئاً، ولا على من قرأ على زيد، وإنما قرأ على أبي الدرداء، ومن طريق عثمان رضي الله عنهما، وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئاً.

وقد غلط قوم فسموا الأخذ بما قاله رسول الله وبما اتفق عليه علماء الأمة، تقليداً، وهذا هو فعل أهل السفسطة، والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق، وإيقاع الحيرة، فلا شيء أعون على ذلك من تخليط الأسماء الواقعة على المعنى ومزجها، حتى يوقعوا على الحق اسم الباطل، لينفروا عنه الناس، ويوقعوا على الباطل اسم الحق، ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم، وليجوزوه عند الناس.

كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أورايّهم بأسماء البلاد، فإذا عرض الحمار للبيع أقسم بالله: إن البارحة نزل من بلد كذا وكذا، وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور، فهذا فعل أهل الشر والفسق.

وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالاً وأعظم جرماً من فاعله في سائر المعاملات، فاعلم الآن: أن قبول ما صح بالنقل عن النبي وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره، وقبول ما أجمعت عليه الأمة، ليس تقليداً، ولا يحل لأحد أن يسميه تقليداً، لأن ذلك تلبيس وإشكال، ومزج الحق بالباطل، لأن التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي بغير برهان. فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليداً، وقام البرهان على بطلانه، وهو غير ما قام البرهان على صحته، فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل، والباطل باسم الحق، وقد قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها. وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } قالوا: وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم، قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم.

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقاً، لكنه يقال: إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي وعن الله عز وجل، لا ما اخترع مخترع من عند نفسه، ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه، ومن تأول ذلك على الله عز وجل، وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي ــــ فقد كفر وحل دمه وماله، وقد سمى الله من فعل ذلك مفترياً فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .

قال أبو محمد: وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه، وتوسطوا عنصره، وهو أنهم يبطلون حجاجاً تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط، ثم لا يبالون أشغباً كانت الحجاج أم حقّاً، ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم. فإن كانت آية أو حديثاً تأولوا فيها التأويلات البعيدة، وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } فإن أعياهم ذلك قالوا: هذا خصوص؛ وهذا متروك وليس عليه العمل. قال أبو محمد: وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه، كالذي يفعل مقلدو مالك وأبي حنيفة والشافعي، فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبراً موضوعاً أو شغباً فاسداً، ويتركون ما خالفه، وإن كان نص قرآن أو خبراً مسنداً من نقل الثقات. والعجب أنهم ينسون التقليد، ويقولون: إن المقلد عاص لله، ويقولون: لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة، ويقولون: ليس أحد بعد رسول الله إلا ويؤخذ من قوله ويترك، ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه.

وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه منهم، في الندرة، إنما يطلبه كما ذكرنا آنفاً، فيعرضون كلام الله تعالى، وكلام الرسول على قول صاحبهم، وهو مخلوق مذنب يخطىء ويصيب، فإن وافق قول الله وقول رسوله قول صاحبهم أخذوا به، وإن خالفاه تركوا قول الله جانباً وقوله ظهريّاً، وثبتوا على قول صاحبهم، وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر، بعد الشرك المجرد، أعظم من هذه، وأنه لأشد من القتل والزنى. لأن فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عز وجل، وبرسوله وبالدين، ولأن من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته، وعاد إلى ما نهي عنه، وعرف أنه باطل، فتدين به واستحله وعلمه الناس، وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ، وأنهما مذنبان، فهما أحسن حالاً ممن ذكرنا، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد، وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي، فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والأخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرأ من يقلد جملة، وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره، فلقد كان سبباً إلى خير كثير، فمن أسوأ حالاً ممن يعتقد أن التقليد ضلال، وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله، ثم هم لا يفارقون في شيء من دينهم؟ وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عز وجل ففيه من نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة، فكل شيء بيده لا إله إلا هو. وحدثنا طائفة من الأشعرية، أبدعوا في قولهم بالتقليد قولاً طريفاً في السخف، وهو أن قالوا: الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته، فإذا دُلَّ عليه سأله، فإذا أفتاه لزمه الأخذ به، ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء، قديماً كان أو حديثاً، صاحباً كان أو تابعاً، أو من بعدهم، فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى، لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها، ولكن يسأله مرة ثانية، أو يسأل غيره، فما أفتاه به أخذ به، سواء كانت تلك الفتيا الأولى غيرها، وقالوا: إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب. قال أبو محمد: ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة، ودعاوى بلا برهان أصلاً.

فإن قالوا: قال الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } قلنا: صدق الله تعالى، وكذب محرف قوله، أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي والعلماء بأحكام القرآن، برهان ذلك قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن؛ لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة، وفي هذا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.

فصل ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد

قال أبو محمد: قد ذكرنا كل ما مَّوه به القائلون بالتقليد، وبيَّنا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا، ولله الحمد، ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد، ونبيِّن وجه الحجاج في بيان سقوطه، وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عز وجل أصلاً. فمن ذلك أن يقال لمن قلد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت؟ فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه، سئل: أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم؟ أم لم يكن قبله أحداً أعلم منه ولا أفضل منه؟. فإن قال: لم يكن قبله أحد أفضل منه، كذب رسول الله في قوله: إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أُحد ذهباً مد أحد من أصحابه ولا نصيفه، وبقوله : «إِنَّهُ مَا مِنْ عَامٍ إِلاَّ وَالَّذِي بَعْدَهُ دُونَهُ» وقائل هذا مخالف للإجماع، وخارج عن سبيل المؤمنين. ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليّاً وعمر ومعاذاً وأُبيّاً وزيداً وابن مسعود وابن عباس ــــ أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله ، وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور. وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحداً يقلد غيرهم، لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا علي بن الحسن بن فهر، ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا، وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: صح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون. قال أبو محمد: فإن قال: بلى، قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد ما ذكرتم، ومع هؤلاء المذكورين، وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين. قيل له: فلم تركت الأفضل والأعلم، وقلدت الأنقص فضلاً وعلماً؟. فإن قال: لأنه أتى بعض الأولين متعقباً، قيل له: فقلد من أتى بعدهم أيضاً متعقباً على هؤلاء. فإن كان مالكياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو سفيانياً، أو أوزاعياً قيل له: فقلد أحمد بن حنبل، فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم، وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة، أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي، في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي ، وفتاوى الصحابة والتابعين، وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا، أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم، أو قلد أبا ثور، فقد كان غاية في ذلك كله.

وإن كان حنبلياً فقيل له: قلد محمد بن نصر المروزي، فإنه أتى متعقباً بعد أحمد، ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه، ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة، وأخذ علمهم، وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج ودقة النظر، مع الورع العظيم والدين المتين، أو محمد بن جرير الطبري، فكان في علمه ودينه بحيث عرف، أو الطحاوي فقد كان من العلم، أو داود بن علي، فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد، وقد أتى متأخراً متعقباً مشرفاً على مذهب كل من تقدمه. فإن قلد داود قيل له: قلد من أتى بعده متعقباً عليه ومخالفه، كولده، وابن سريج، وكالطبري، وكمحمد بن نصر المروزي، والطحاوي، وهكذا أبداً يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس، وعن الدين جملة.

وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك، فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء، إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق، وعمر أفضل منها بلا شك، وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم، فلو كان قول الأفضل واجباً أن يتبع، لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم، ولكانا في ذلك مخطئين. وكل هذا أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها، وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء، فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئاً، وقد قال رسول الله لأبي الدرداء: «سَلْمَانُ أَفْقَهُ» إذ منعه سلمان من قيام جميع الليل ومن مواترة الصيام، فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء. وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان، فأبو الدرداء بدري عقبي، لا تجزأ سلمان منه، وأول مشاهد سلمان فالخندق، فقد شهد أن الأنقص فضلاً أتم فقهاً، وقد قال : «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وقد قال : «وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وإنما خاطب بذلك الصحابة، فغير منكر ما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق. ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه، مانعون منه، مخبرون أن فاعله على باطل، وقد حدثنا حمام، عن الباجي، عن أسلم القاضي، عن المازني، عن الشافعي: أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)