ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (4)
وأما وجوب طاعة الأئمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عز وجل وكان حقاً، وليس ذلك في أن يشرعوا لنا قولاً لم يأتنا به نص ولا إجماع، وبالجملة فكل ما تكلموا به في هذا المكان، وموهوا به عن المسلمين، وسودوا كتبهم بما سيطول الندم عليه يوم القيامة، فهم أترك الناس وأشدهم خلافاً للأمة الذين أوجبوا تقليدهم فيه، وقد بينا ذلك في غير مكان من كتبنا. وبالله تعالى التوفيق.
واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب، ثنا ابن مناس، ثنا ابن مسرور، ثنا يوسف بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني من سمع الأوزاعي يقول: حدثني عبدة بن أبي لبابة أن ابن مسعود قال: ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه، إن آمن آمن، وإن كفر كفر فإن كان مقلداً لا محالة، فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ولا لقي عبدة بن أبي لبابة بن مسعود، مع أنه كلام فاسد، لأن الميت أيضاً لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي، ولا فرق بينه وبين الحي في هذا، هذا على أن بعض من يخالفنا في التقليد عكس هذا الأمر برأيه، وهو المعروف بالباقلاني قال: من قلد فلا يقلد إلا الحي، ولا يجوز تقليد الميت. فكان هذا طريقاً من الضلالة جداً، لأنه دعوى فاسدة بلا برهان، وقول، مع سخفه، ما نعلم قاله قبله أحد.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر، ثنا خلف بن قاسم، ثنا ابن الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النضري الدمشقي، ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن زيد بن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إن حديثكم شر الحديث. إن كلامكم شر الكلام. فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائماً فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس. فهذا قول عمر لأفضل قرن على ظهر الأرض، فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد ، والإقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
واحتج بعضهم في ذلك بقبول قول المقومين لأثمان المتلفات، والشهادة على أمثالها، وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد، لأن الله عز وجل قد أمرنا بالانتصاف من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه، فلم نأخذ عن الشاهد، بأن هذا الشيء مماثل لقيمة كذا، شريعة حرمها الله ولا أوجبها، ولكنا علمناه عالماً بتلك السلعة أو تلك الجرحة، فقبلنا شهادته في ذلك على الظالم، وليس هذا من باب، قال مالك وأبو حنيفة: هذا حرام وهذا واجب وهذا مباح، فيما لا نص فيه ولا إجماع، وقد أمرنا بالشهادة على الحقوق، وبقبولها وبالحكم بها، وكل ما أمرنا به فليس تقليداً، فينبغي لمن اتقى الله عز وجل ألا يلبس على المؤمنين، فليس في كتمان العلم وتحريف الكلم عن مواضعه، أشد ولا أضر من أن يضل المرء جليسه، الذي أحسن الظن به، وقعد إليه ليعلمه دين الله عز وجل، يسمي له باسم التقليد المحرم شريعة حق، ثم يدس له معها التقليد المحرم، فيكون كمن دس السم في العسل، والبنج في الكعك، فيتحمل إثمه وإثم من اتبعه إلى يوم القيامة.
وقد قال بعض أهل الجهل: لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا. قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد من وجوه: أحدها: أنه يقال له: بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا، لأننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين، وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم. وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى، إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت، وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين، والمسلمون قد ملؤوا الأرض من السند إلى آخر الأندلس وسواحل البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية، فما بين ذلك، والحمد لله رب العالمين. وأيضاً فإن النظر به صلاح الأمور لا ضياعها، وأيضاً فإن كل امرىء منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل، مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه، وما يلزمه وما يحرم عليه، وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه، ليس النظر شيئاً غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله في هذه اللوازم لنا، ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك، كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك، وهذا أعظم من إضاعة الأمور، وقد أمرنا بهرق الخمور، وطرح الجيف، ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر، وحرم علينا الربا، وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب، وأوفرها، فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شيء وتوفية كل الأمور حقها. ولله الحمد. وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم، صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم، وكلهم يقول: أقول في هذا برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني، وزاد بعضهم، ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، وفعل ذلك أيضاً من بعدهم، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي، ولم يروه على الناس ديناً، فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشيء يتدين به، إلا أن يصح به نص عن الله تعالى، أو عن رسوله . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا أحمد بن خالد، نا أبو علي الحسن بن أحمد قال: حدثني محمد بن عبيد بن حساب، نا حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد رده إلى أبي العالية قال: قال العباس، ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل له: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يبلغه عن النبي فيأخذ به، وتمضي الأتباع بما سمعت.
قال حماد بن زيد: حدثنا النعمان بن راشد قال: كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول: اكتب إنه رأي ابن شهاب، وإنه لعلك أن يبلغك الشيء فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر، فليعلم أنه رأيي. قال أبو محمد: لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئاً إلا أتيا به، فأعلمك ابن عباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل، وأن العالم يقول برأيه: وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي خلافه، وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه، وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه: إنه لم يقله إلا بأثر، وهكذا يفعل هؤلاء الجهال فإنهم يقولون: لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي ، فيكذبون على النبي ويحكمون بالظن ويتركون اليقين، نعوذ بالله من الخذلان. واحتج بعضهم في إثبات التقليد بغريبة جروا فيها على عادتهم في الاحتجاج بكل ما جرى على أفواههم، وذلك الحديث الذي فيه: «إن ابني كان عسيفاً على هذا» قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله حي. قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليهم في إبطال التقليد، لأن المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله حي، فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم، وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام، فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول ، فرد الأمر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل. وهكذا الأمر الآن، قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة: عليه الجلد ولا تغريب عليه حرّاً كان أو عبداً، وقال مالك: عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبداً، وقلنا نحن وأصحاب الشافعي: عليه الجلد والتغريب على العموم، عبداً كان أو غير عبد، فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة، فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له، فهذا الحديث يبطل التقليد جملة، ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين، وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها برهان يعضدها، ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة، لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ، وإذا كان في عصره من يفتي بالباطل فهم من بعد موته أكثر وأفشى، فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت، ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع.
واحتجوا أيضاً فقالوا: إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الأوامر منه ، وما خرج منها على رضا، وما خرج منها على غضب، فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك.
قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله التوفيق: إن رسول الله إنما بعث مبيناً على كل من يأتي إلى يوم القيامة، لا على أصحابه وحدهم، فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكماً فقد نقلوه إلينا، ولزمهم أن يبلغوه فرضاً بقوله : «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» فقد نقلوا كل ما شهدوه من ذلك إذا لم يكونوا في سعة من كتمانه، وقد أعاذهم الله من ذلك، ولو كتموا شيئاً مما يوجب حكماً في الشريعة، مما سمعوا أو مما شاهدوا، لاستحقوا أقبح الصفات، وقد أعاذهم الله من ذلك ونزههم عنه، فلم يقتصروا رضي الله عنهم على فتاويهم دون تبليغ منهم لما سمعوا منه وشاهدوه منه، كما نقلوا إلينا غضبه على الأنصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم، وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماماً، وغضبه على من تنزه عما فعل ، وغضبه على اليهود إذ قال: والذي اصطفى موسى على البشر، وإعراضه عن عمار إذ تخلق، وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين، وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد، وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذا أتاه القوم المجتابون للثمار، وإشاحته بوجهه المكرم، وأفضل التحيات، إذ ذكر النار، أورده مسلم في كتاب الزكاة، وحياءه من الأنصارية المستفتية في غسل المحيض، ووصفه الجبة التي على البخيل إذا أراد أن يتصدق، وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد، وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه في ذلك كلام، وضربه بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى، ومثل هذا كثير جداً.
فلم يكن له هيئة ولا حال يوجب حكماً من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر، إلا وقد نقلت إلينا، لأن كل ذلك مما بيَّن به مراد ربه تعالى، ولو كتموا ذلك عنا، لما بلغوا كما لزمهم، ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم، ولسقطت عدالتهم بذلك، وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه، وقضى بتبليغه إلينا جيلاً بعد جيل إلى أن يأتي بعض آيات ربك: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } .
وقد علموا رضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا، وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا ، وقد خالف بعض التابعين الصحابة بحضرتهم، فما أنكر الصحابة عليهم ذلك، كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه، كفعل ابن عمر في ابنه، إذ روى حديث الخذف، وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد، فقال ابنه: لا تفعل ذلك، فأنكر ابن عمر ذلك إنكاراً شديداً وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه. وكذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم، كإنكار ابن عباس على عروة وغير معارضة حديث النبي بأبي بكر وعمر، وكإنكار عمران بن الحصين، إذ ذكر حديث الحياء، على من عارضه بما كتب في الحكمة، وكقول أبي هريرة: إذا حدثتك عن النبي فلا تضرب له الأمثال، في حديث الوضء مما مست النار. ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح، ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي في إفطار من أصبح جنباً، وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل، لا ينكر على من يخالفه في فتياه، وينكر على من خالف روايته عن النبي أشد الإنكار. ولكن أصحابنا ــــ يغفر الله لهم ويسددهم ــــ أضربوا على الواجب عليهم من تدبر أحكام القرآن، ورواية أخبار النبي واختلاف العلماء، ومعرفة مراتب الاستدلال المفرق بين الحق والباطل، وأقبلوا على ظلمات بعضها فوق بعض من قراءة طروس معكمة مملوءة مَنَّ، قلت: أرأيت؟ فقنعوا بجوابات لا دلائل عليها وأفنوا في ذلك أعمارهم، فصفرت أيديهم من معرفة الحقائق، وظلموا من اغتر بهم، والأقل منهم شغلوا أنفسهم في أنواع القياس وتخصيص العلل، واستخراج علل لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله، ولا يقوم على صحتها برهان فقطعوا أيامهم بالترهات، ولو اعتنوا بما ألزمهم الله تعالى الاعتناء به، من تدبر القرآن، وتتبع سنن النبي ، لاستناروا واهتدوا، ولاستحقوا بذلك الفوز والسبق، وما توفيقنا إلا بالله تعالى. وقال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورق دينه: إذا اختلف العالمان وتعلق أحدهما بحديث عن النبي أو آية، وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية. فواجب اتباع من خالف الحديث، لأننا مأمورون بتوقيرهم ونحن عالمون أن هذا العالِم لو تعمد خلاف رسول الله لكان كافراً أو فاسقاً، وفي براءته من ذلك ما يوجب أنه كان عنده علم يوجب ترك ذلك الحديث، ورفع حكم تلك الآية، لم يكن عند القائل بهما، وبهذا يوصل إلى توقير جميعهم.
قال أبو محمد: وهذا القول في غاية الفساد من وجوه: أحدهما أن قائل هذا من أي المذاهب كان، أترك الناس لهذا الأصل، ويلزمه أن يبيح بيع الخمر تقليداً لسمرة، وألا يبيح التيمم للجنب في السفر أصلاً تقليداً لعمر، وأن يبيح بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها تقليداً له، وأن يسقط الكفارة عن الواطىء في نهار رمضان تقليداً لإبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، وأن يتعمد بالجملة كل قولة خالف صاحبها الحديث والقرآن فيأخذ بها، وهذا ما لا يفعله مسلم وفيه ترك لمذاهب في الأكثر. ومنها أنه لو صح ما ذكر هذا الجاهل لوجب تفسيق ذلك العالم ضرورة ولاستحق لعنة الله عز وجل، لأنه كان يكون كاتماً لعلم عنده عن رسول الله ومن فعل هذا فقد استحق اللعنة بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } . وأيضاً فلو كان ما ذكر هذا الجاهل لكان ذلك النص، الذي توهمه عند ذلك العالم المخالف للحديث، قد ضاع ولم ينقل، وهذا باطل لأن كلامه كله وحي، والوحي ذكر، والذكر محفوظ، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . وأيضاً، فيقال لهذا الجاهل: ولعل هذا العالم لم يبلغه هذا الحديث، أو بلغه فنسيه جملة، أو لم ينسه لكنه لم يخطر على باله إذا خالفه، كما نسي عمر أن بين يديه محمد بن مسلمة صاحب رسول الله ، وأبا أيوب الأنصاري صاحب رحل النبي ، وأبا موسى الأشعري عامله على بعض اليمن، وهذان لا يعرفان إلا بكناهما، حتى إن أكثر الناس لا يعرف اسمهما البتة. فنهى عن التسمي بأسماء الأنبياء عليهم السلام، فإذا جاز كما ترى أن لا يمر بباله شيء وهو بين يديه وفي حفظه حتى ينهى عنه، فهو فيما يمكن مغيبة عنه أمكن وأحرى، وكما نسي عمر أيضاً قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } حين موت النبي فقال: والله ما مات ولا يموت حتى يسوسنا كلنا. حتى تليت عليه هذه الآية فخرَّ مغشياً عليه، ثم قام وقال: والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا.
وكما نهى عن المغالاة في صدقات النساء، حتى ذكرته المرأة بقول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } فاعترف بالحق ورجع عن قوله، وقد كان حافظاً لهذه الآية، ولكنه لم يذكرها في ذلك الوقت، وكما نسي عثمان رضي الله عنه ــــ وهو أحفظ الناس للقرآن ــــ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أمر برجم التي ولدت لستة أشهر، وهو حافظ للآية المذكورة حتى ذكر بها، فذكرها وأمر ألا ترجم.
أو لعل ذلك العالم كان ذاكراً لتلك الآية وذلك الحديث ولكنه تأول تأويلاً مَّا، من خصوص أو نسخ بما لا يصح وجهه، كما فعلوا رضي الله عنهم في نهيه عن لحوم الحمر الأهلية.
فقال بعضهم: إنما نهى عنها لأنها كانت حمولة الناس، وقال بعضهم: لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: لأنها كانت تأكل القذر، وقال بعضهم: بل حرمت البتة، ومثل هذا كثير فهذا كله يخرج تارك الحديث، من العلماء السالفين، عن الفسق وعن المجاهرة بخلاف نص القرآن والحديث ومعصية النبي الموجبة سخط الله تعالى. حدثنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا بندار، ثنا غندار، نا شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله، ومصور، ورجل قتل نبياً أو قتله نبي. قال أبو محمد: فنعيذ الله من سلف من القصد إلى هذه المرتبة، وإنما البلية على من تدين بما لم يؤده إليه اجتهاده، مما هو عالم مقر أنه لم ينزله الله تعالى، وكل من سلف من الأئمة رضي الله عنهم، إنما أداهم إلى ما أفتوا به اجتهادهم، فالمخطىء منهم معذور مأجور أجراً واحداً، هذا لا يظن بهم مسلم سواه. وإنما أن يكون عندهم علم عن رسول الله من أجله ترك الحديث المنقول، ولم يبلغوه ولا نقلوه ــــ فهم مبرؤون من ذلك ومنزهون عنه، لأن فاعل ذلك ملعون، وأما الخطأ فليس ذلك منفياً عنهم، بل هو ثابت عليهم وعلى كل بشر.
فصح بما ذكرنا أن التأويل الذي ذكره الجاهل الذي وصفنا قوله، ورام به إثبات التقليد هو الذي يوجب، لو صح، على العلماء الفسق ضرورة ويوجب لهم اللعنة، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، وأما نحن فننزههم عن ذلك. ولكنا نقول: إنهم يصيبون ويخطئون، وكان كل ما قالوه مردود إلى القرآن والسنة، ومعروض عليهما فلأيهما شهد القرآن والسنة فهو الصحيح، وغيره متروك، معذور صاحبه الذي قاله، ومأجور باجتهاده، وأما مقلده ومتبعه فملوم آثم عاص لله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق. وذكر بعضهم أن إبراهيم النخعي قال: لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها {الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ} . قال أبو محمد: هذا كذب على إبراهيم، ولو صح ما انتفعوا به، ولكان ذلك خطأ من إبراهيم عظيماً، فما إبراهيم معصوم من الخطأ، فكيف ولا يصح عنه، لأن راويه عنه أبو حمزة ميمون/ وهو ساقط جداً غير ثقة، وإنما الصحيح عنه خلاف هذا من الطرق الصحاح.
كما حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، ثنا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد الكسي، ثنا محمد بن بشر العبدي، عن الحسن بن صالح، عن أبي الصباح، عن إبراهيم النخعي قال: لا طاعة مفترضة إلا لنبي. وكما حدثنا حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم الأصلي، عن أبي زيد المروزي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن البخاري محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، هو الثوري، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر يدهن بالزيت، قال: فذكرته لإبراهيم النخعي فقال: ما تصنع بقوله؟ حدثني الأسود عن عائشة قالت: كأني أنظر وَبِيص الطيب في مفارق رسول الله وهو محرم. قال أبو محمد: فهذا الذي يليق بإبراهيم رحمه الله، وهو ألا يلتفت إلى قول ابن عمر إذا وجد عن النبي خلافه، فكيف يظن من له مسكة عقل أن إبراهيم يترك قول ابن عمر لشيء رواه عن الأسود عن عائشة عن النبي ويترك نص القرآن لقوم لم يسمعهم ما يظن هذا بإبراهيم وينسبه إليه وقاح سخيف جاهل، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. وأتى بعضهم بعظيمة فقال: إن عمر بن عبد العزيز قال: يحدث للناس أحكام بمقدار ما أحدثوا من الفجور. قال أبو محمد: هذا من توليد من لا دين له، ولو قال عمر ذلك لكان مرتداً عن الإسلام، وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وبرأه منه، فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر. والصحيح عن عمر بن عبد العزيز ما حدثناه حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي أحمد الجرجاني، عن الفربري، عن البخاري، ثنا العلاء بن عبد الجبار، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث رسول الله . قال أبو محمد: فهذا عمر بن عبد العزيز لا يأمر ولا يجيز إلا حديث النبي وحده. وروي أيضاً أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه عدي بن عدي الكندي عامله على الموصل يقول: إن وجدتها أكثر البلاد سرقاً ونقباً، أفآخذهم بالظنة أم أحكم بمر الحق؟ فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إن أخذتم بمر الحق، فمن لم يصلحه الحق فلا أصلحه الله. قال: فما خرجت منها إلا وهي أصلح البلاد. قال أبو محمد: والذي اخترع هذه الكذبة على عمر بن عبد العزيز لا يخلو من أحد وجهين: إما إن يكون كافراً أو زنديقاً ينصب للإسلام الحبائل. أو يكون جاهلاً لم يدرك مقدار ما أخرج من رأسه، لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه: إما إسقاط فرض لازم، كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعد حد الزنى أو حد القذف، أو إسقاط جميع ذلك، وإما زيادة في شيء منها، أو إحداث فرض جديد، وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة، وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك.