ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (6)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد، ثنا أحمد بن خالد، أنا يحيى بن عمر، أنا الحارث بن مسكين، ثنا ابن وهب قال: سمعت مالكاً وقال له ابن القاسم: ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر، قال له مالك : من أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال مالك : ما أعلمها أنا، فكيف يعلمونها هم؟

قال أبو محمد: كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ } . قال أبو محمد: فمن اتخذ رجلاً إماماً يعرض عليه قول ربه وقول نبيه ، فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله، وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه ، وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله ، والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليّاً، ودخل في جملة الآية المذكورة. اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة، فلا كبيرة أعظم منها. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .

قال أبو محمد: ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلاً بعينه عياراً من كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام سائر علماء الأمة، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } ، وقال تعالى: {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

قال أبو محمد: فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله، أو ببرهان على صدق قوله، وإلا فليس صادقاً، لكنه كاذب آفك، مفتر على الله عز وجل، ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله فقد ضل، بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار، نعوذ بالله منها وما أدى إليها.

وقال تعالى حاكياً عن الجن الذين أسلموا مصدقاً لهم ومثبتاً عليهم {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده. وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } . قال أبو محمد: هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم، فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم ، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار، وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد، والنهي عن التقليد، وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم، وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك. ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا مالك قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه. وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به. وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، من أتانا بخير منه قبلناه منه. وقال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } .

قال أبو محمد: وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر، بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح، الذي يقرون بصحته، وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة، فيأبون قبولها، لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، فقد أجابهم تعالى جواباً كافياً ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } .

قال أبو محمد: هذه صفة ظاهرة من كل مقلد، يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم، ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه. ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك، ولا بعقله فيما علم من ذلك، ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى، وكتاب نبيه ، وطلب الهدى ممن دون الله تعالى، فضل ضلالاً بعيداً فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم. وقال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . قال أبو محمد: وهذا نص فعل المقلد، لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى.

وقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية، وقد جاء أمر الرسول بتحريمها، وآخذوا الناسي، وألزموا شريعة الكفارة المخطىء، وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله، فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.

وقال تعالى ذاماً لقوم قلَّدُوا أسلافهم، وحاكياً عنهم أنهم قالوا: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } وقال تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } .

ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم، وهذا نص كلام رب العالمين، الذي إليه معادنا، وبين يديه موقفنا، وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك، ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا، فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق، وأن هذه عهود ربه إليه، وليتب عن التقليد وليفتش حاله، فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى، فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك، وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ } {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ } فالمحروم من حرم هذه البشرى، وخرج عن هذه الصفة المحمودة، نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها، وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه، وبأنه مبشر، وأنه من أولي الألباب، وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد، واختار أحسنها، والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله بالحسنى، مما وافق القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.

فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة، وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة، وعلى هذا كله السلف الصالح.

أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، عن الشعبي: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. قال أبو محمد: هذا هو الحديث الذي موَّهوا به، واستحلوا الكذب بإبراء مفرداً مما قبله، وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ، وأنه ليس كلامه كله صواباً، لا في قوله في الكلالة. وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء، وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط، وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة، لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر، وأبعد روايته، فعن عليّ على اختلاف في رؤيته أيضاً. وأما الاضطراب عن عمر في الجد، فإن محمد بن سعيد أخبرني، عن أحمد بن عون الله، عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني، عن بندار، عن ابن أبي عدي شعبة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب حين طعن: إني لم أقض في الجد شيئاً.

وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة، فهو أن حماماً حدثني قال: ثنا ابن مفرج، عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء، عن الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتاباً، فمكث يستخير الله يقول: اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتاباً وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. قال عبد الرزاق: وحدثنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال: الكلالة كما قلت، قال ابن عباس: وما قلت؟ قال: من لا ولد له. قال أبو محمد: هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر، لاتصاله وعدالة ناقليه وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض، وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة، لأن أبا بكر كان يقول: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وعمر عند الموت يقول: الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه، فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليّاً رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة، هذا إن صح أنه رآه أيضاً، أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي قال: سئل عبد الله بن مسعود، عن امرأة توفي عنها زوجها، ولم يفرض لها؟ فاختلف إليه شهراً، فقال: ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله أشد عليَّ منه، لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية، أقضي فيها فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن الشيطان، والله منه بريء وذكر الحديث.

قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه، وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه، ثم علمها بعد ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم. والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات، عن أحمد بن عون الله، عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني عن بندار، عن غندر، ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال: ثلاث وددت أن رسول الله لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمراً ينتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا، فهذا هو المتصل من طريق الشعبي. ثم إنا نقول: إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة، ولا ظهرت عليه آية، ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ، ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم، ممن لا يقطع على غيب إسلامه، ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به، وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين، لا يقطع له على غيره من الناس بفضل، ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين. فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر، أو أفضل منه في الظاهر، أو في الحقيقة من سابقي الصحابة، حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى، لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه؟ ونجدهم، المساكين، في أمور دنياهم لا يقلدون أحداً، ولا يبتاع أحدهم شيئاً فما دونه أو فما فوقه، إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه، وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد، فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة: هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيّاً، أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيّاً، أو ما قال الشافعي إن كان شافعيّاً، ولا مزيد. ووالله لو أن هؤلاء، رحمهم الله، وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات، ما رحموه منها بواحدة، ولو أنه ــــ المغرور ــــ ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات، ما حطوا منها واحدة، ولا عرجوا عليه، ولا التفتوا إليه، ولا نفعوه بنافعة. ونجده يضرب عن كلام نبيه الذي لا يرجو شفاعة سواه، ولا أن ينقذه من أطباق النيران، بعد رحمة الله تعالى، إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم.

ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول: ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم، فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها؟ فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك، ونقول للحنفيين. ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن؟

فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعليّ فتماوتم عليها؟ فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك. ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله: ألم ينهكم عن تقليده، وأمركم باتباع كلام النبي حيث صح؟. فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد؟ أو ليس قد قال رحمه الله ــــ وقد ذكر حديث النبي فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه، فقال رحمه الله: إن صح هذا الحديث فبه أقول؟ ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي ، والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها، ثم أنتم دأباً تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل. ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان، تقليداً لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد، فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد، لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي. وقد قال قائلون منهم: نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن، وحديث النبي ، فأتوا بالتي تملأ الفم

فيقال لهم: أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه؟ إذ يقول عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } . وقد سمعتموه يقول: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وسمعتموه يقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وسمعتموه يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره، ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته، هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم.

فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم، كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم. وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها، فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها، إن صدقتم ربكم، وإن كذبتم كفرتم. وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك ، وأبي حنيفة، وقول الشافعي، فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا. حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس، أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز، نا الأصبهاني، نا عبد السلام، نا غطيف بن أعين المحاربي، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يَا ابْنَ حَاتمٍ أَلْقِ هذَا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» فألقيته. ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقلت: يا رسول الله: ما كنا نعبدهم: فقال النبي : «كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ الحَرَامَ فَتَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الحَلالَ فَتُحَرِّمُونَهُ» قلت: بلى، قال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُكُمْ» .

قال أبو محمد: فسمى النبي اتباع من دون النبي في التحليل والتحريم عبادة، وكل من قلد مفتياً يخطىء ويصيب، فلا بد له من أن يستحل حراماً ويحرم حلالاً، وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم، ولا بد أن أحدهم مخطىء. أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها، وضمن له بيان نهج الصواب فيها. وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها، فيترك ذلك كله، ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها، ولا ضمن له نهج الصواب فيها، بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه، ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده، فمن أضل من هؤلاء.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)