ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار

  • قال أبو محمد : واستدركنا برهاناً في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعاً ، وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إلى قوله تعالى : {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } إلى آخر القصة ، فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له ، وخرج عن وطنه بقوله ، وصوب الله تعالى ذلك من فعله ، وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها ، وصدق أباها في قوله إنها ابنته ، واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده ، وصوب الله ذلك كله ، فصح يقيناً ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقيناً . والحمد لله رب العالمين .
  • قال أبو محمد : وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين ، فإذا كان الراوي عدلاً حافظاً لما تفقه فيه ، أو ضابطاً له بكتابه وجب قبول نذارته ، فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه ، فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه ، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ، ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل ، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط؟ ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته ، أو تثبت عندنا جرحته، أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره .

حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ، ثنا أحمد بن فتح ، ثنا عبد الوهاب بن عيسى ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أحمد بن علي ، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو عامر الأشعري ، ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة ، عن بريد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى/ عن النبي أنه قال : «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَت الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْها أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْها وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً ولا تُنْبِتُ كَلأً. (فَذَلكَ مَثَلُ) مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ الله بِمَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلِمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، ثنا الفربري ، ثنا البخاري ، ثنا محمد بن العلاء ، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد/ فذكره بإسناده ولفظه ، إلا أنه قال مكان طيبة : نقية ، ومكان غيث : الغيث الكثير ، ومكان ورعوا : وزرعوا ، ومكان فقه : تفقه ، ومكان قيعان : قيعة ، واتفقا في كل ما عدا ذلك .

  • قال أبو محمد : وليس اختلاف الروايات عيباً في الحديث إذا كان المعنى واحداً ، لأن النبي صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات ، فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحداً .
  • قال أبو محمد : فقد جمع رسول الله في هذا الحديث مراتب أهل العلم دون أن يشذ منها شيء ، فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى ، الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص ، المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله ، وأما الأجادب ، الممسكة للماء التي يستقي منها الناس ، فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته ، حتى أدته إلى غيرها غير مغير ، ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ، ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت ، لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله بهذا إذ يقول : «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ، وكما روي عنه أنه قال : «فَرُبَّ حَامِلَ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» .
  • قال أبو محمد : فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه ، فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان ، وبالله تعالى التوفيق .
  • قال أبو محمد : فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة ، فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ، ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان ، لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا ، وبالله التوفيق .
  • قال أبو محمد : فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبراً حتى يبلغ به النبي فقد وجب الأخذ به ، ولزمت طاعته والقطع به ، سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه ، أو رواه كذاب من الناس ، وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق ، وسواء كان ناقله عبداً أو امرأة أو لم يكن ، وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط ، وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد ، ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا : هذا مما لم يروه إلا فلان، ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق .
  • قال أبو محمد : وهذا جهل شديد وسقوط مفرط ، لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ، ثم هم دأباً يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد ، والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا ، فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثاً انفرد بها عن النبي ، لم يروها أحد من الناس سواه ، ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ، ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك ، فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه ، وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه ، وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا ؟ .

وأيضاً فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد، من أثبت شيئاً من ذلك أثبت خبر الواحد ، ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك ، لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة ، وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم ، فهو خبر واحد ، وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر ، فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون ، أو يشعرون ويتعمدون ، وهذه أسوأ وأقبح ، ونعوذ بالله من الخذلان .

  • قال أبو محمد : وأما المدلس فينقسم إلى قسمين:

أحدهما: حافظ عدل ربما أرسل حديثه، وربما أسنده، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سنداً، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض، فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئاً، لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة، لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك. وسواء قال: أخبرنا فلان، أو قال: عن فلان، أو قال: فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند، فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته.

وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: كان معمر يرسل لنا أحاديث، فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن دينار، وسليمان الأعمش، وأبي الزبير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس، ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى.

وقسم آخر: قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمداً، وضم القوي إلى القوي تلبيساً على من يحدث، وغروراً لم يأخذ عنه، ونصراً لما يريد تأييده من الأقوال، مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضاً في الحديث، فهذا رجل مجرح، وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه، صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه، وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل، كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة، غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه، ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي، وغيرهما.

  • قال أبو محمد : ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز وجل ، ولا حفظ ما سمع ، وقد قال  : «نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنّا حَدِيثاً حَفِظَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ غَيْرَهُ»

فإنما أمر بقبول تبليغ الحافظ ، والتلقين هو أن يقول له القائل : حدثك فلان بكذا ، ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه ، فيقول نعم ، فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة :

إما أن يكون فاسقاً يحدث بما لم يسمع .

أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ، ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ، ومن هذا النوع كان سمّاك بن حرب ، أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج .

  • قال أبو محمد : ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال: فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام.
  • قال أبو محمد : وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه ، بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق ، فإن كان غير فاسق كان عدلاً ، ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة .

فالعدل ينقسم إلى قسمين : فقيه وغير فقيه .

فالفقيه العدل مقبول في كل شيء .

والفاسق لا يحتمل في شيء .

والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء ، لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه .

ومن كان عدلاً في بعض نقله ، فهو عدل في سائره ، ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ، ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك ، وإلا فهو تحكم بلا برهان ، وقول بلا علم ، وذلك لا يحل .

  • قال أبو محمد : وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة .
  • قال أبو محمد : وهذا خطأ شديد ، وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم : إنهم أبرك الناس لذلك، وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل، ولعلنا سنورد من ذلك طرفاً صالحاً إن شاء الله تعالى ، ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فأول ذلك : أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل، وخبر عدل آخر أعدل من ذلك، ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل، أو من رسوله , أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله فقد قفا ما ليس له به علم ، وفاعل ذلك عاص لله عز وجل ، لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك، وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط ، وبقبول شهادة العدول فقط ، فمن زاد حكماً فقد أتى بما لا يجوز له ، وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه ، وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه .

  • قال أبو محمد : وأيضاً فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة ، وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة ، وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول ، وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة في ذلك ، ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ، ولم يكن ذلك عند عمر ، وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج ، وأيضاً فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله ، وأيضاً فلو شهد أبو بكر وحده ، ما قبل قبولاً لا يوجب الحكم بشهادته، ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلاً، فلا معنى للأعدل .

وأيضاً فإن العدالة إنما هي التزام العدل ، والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط، ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط ، وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة ، إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيراً .

فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا فرق ، فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ، ولا ترجيح شهادة على أخرى ، بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر ، وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس ، وطيب النفس باطل لا معنى له ، وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله ، وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها ، وهذا من باب اتباع الهوى ، وقد حرم الله تعالى ذلك ، قال عز وجل : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ، وقال تعالى : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .

فمن حكم في دين الله عز وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع ، فلا أحد أضل منه ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ، إلا من جهل ولم تقم عليه حجة ، فالخطأ لا ينكر ، وهو معذور مأجور ، ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز وجل .

  • قال أبو محمد : ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل ، وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ، ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين ، وكذلك في القذف والقطع ، فأين طيب النفس ههنا .

فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه ، وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب .

  • قال أبو محمد : والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء، ولا فرق ولم يخص تعالى عدلاً من عدل، ولا رجلاً من امرأة ولا حراً من عبد .
  • قال أبو محمد : وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال : هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال: إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس، فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } الآية .

قيل لهم : أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولاً قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى ، وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مروياً من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا ، وبيَّنا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل .

  • قال أبو محمد : ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر ، والتجريح يغلب التعديل ، لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل ، وليس هذا تكذيباً للذي عدل بل هو تصديق لهما معاً ، فإن قال قائل: فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح ؟

قيل له : كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما ، فإذا صح خبرهما معاً عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام ، وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة ، فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف، ولا يقع عليه اسم عدل ، ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئاً من الخير لما فسق مسلم أبداً ، لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر ، وفي صحة القول بأن فينا عدولاً وفساقاً بنص القرآن ، ورضاً وغير رضاً ، بيان ما قلنا ، ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز ، وهكذا القول في الشهادة ولا فرق .

  • قال أبو محمد : ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه ، فإن قوماً جرحوا آخرين بشرب الخمر ، وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ، ولم يعلموه حراماً ولو علموه مكروهاً فضلاً عن حرام ما أقدموا عليه ورعاً وفضلاً ، منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم ، وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه .

ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها :

الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة.

الثاني : الإقدام على ما يعتقد المرء حراماً وإن كان مخطئاً فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء.

والثالث : المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام ، وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود ، وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا ، وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي قبّل امرأة فأخبره أن صلاته كفَّرت ذلك عنه ولقوله عز وجل : {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له.

وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضاً فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب ، والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز ، فإن النبي رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه .

وإنما قلنا : إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك ، والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر ، والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها ، فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله  : «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذلِكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ»

ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره.

وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقاً ولا يجب التغيير عليه ، ولا الإنكار عليه ، لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ، ولو أن امرأً شهد على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوماً ، ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين :

أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير .

والثاني أنه معفو عنه، ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه، ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة، أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة.

  • قال أبو محمد : والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيهاً فيما روى أي حافظاً، لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ، ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه ، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ، وليس ذلك في الشهادة ، لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن ، فلا يضر الشاهد أن يكون معروفاً بالغفلة والغلط ، ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما ، فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ، ولا يضر ذلك شهادته في غيرها ، لا قبل الشهادة ولا بعدها ، بل هو مقبول أبداً ، ولا يحل لأحد أن يزيد شرطاً لم يأت به الله تعالى ، فقد قال  : «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِلٌ ولو كان مائةَ شَرْطٍ» .

فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط، فقد زاد شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل ، فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر ، لقول رسول الله  : «مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنَّا» ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح، ولقوله  : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»

وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، ومن دلَّس التدليس الذي ذممنا، فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله في تبليغه عنهما ، ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به .

  • قال أبو محمد : وأما من قدم على ما يعتقده حلالاً مما لم يقم عليه في تحريمه حجة ، فهو معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم ، وزيدييهم وأباضييهم بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر ، وقد بيَّنا ذلك في كتاب الفصل ، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق .

وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي لتقليد أو قياس ولا فرق أو من سبَّ أحد الصحابة رضي الله عنهم ، فإن ذلك عصبية والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال : لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته ، فكيف من يسب أفاضل الأمة ؟ إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلاً، ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله فهو كافر مشرك، ولو أن امرأً بدل القرآن مخطئاً جاهلاً ، أو صلى لغير القبلة كذلك، ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام ، حتى تقوم عليه الحجة بذلك ، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند الله تعالى ورسوله فهو كافر مشرك .

  • قال أبو محمد : وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة، وعن رجل مرة أخرى.
  • قال أبو محمد : وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك، وذلك نحو أن يروي الأعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويرويه غير الأعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد.
  • قال أبو محمد : وهذا لا مدخل للاعتراض به، لأن في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا ومرة عن هذا.

ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند ، ونحن نفعل هذا كثيراً ، لأننا نرى الحديث من طرق شتى ، فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه ، ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية ، وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها ، وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة ، وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الأخذ به مثل أن يقول الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ، فهذا ليس علة في الحديث البتة ، لأنه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال .

وأيضاً فإن قالوا : إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد .

قيل لهم: وهو من الأربعة أبعد منه من الثلاثة ، فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول

مقدمة تشمل الباب الأول والثاني | في إثبات حجج العقول | في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف أم عن إصطلاح ؟ | في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر | تتمة الباب الخامس وفصل في معاني حروف تتكرر في النصوص | هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة | فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة | في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ | فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟ | في البيان ومعناه | في تأخير البيان | في الأخذ بموجب القرآن | في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه | فصل فيه أقسام الإخبار عن الله | هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟ | صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار