ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الأول والثاني
مقدمة المؤلف
- قال الفقيه الإمام أبو محمد ، علي بن أحمد ، رحمة الله عليه ورضوانه :
الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخصّ من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق الحق، ووفق قوماً في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما قال عز وجل : {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } و {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } دون أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه، لكن كما قال عز وجل: {وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكما قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } وقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لله ـ وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم {فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } ويقول يوسف {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وبعد : فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة، فمنها عدل يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق. قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } وقال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب ، وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهراً جلياً , ومنها جهل يطمس عليها الطرق ، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد ، وفي ريب تتلدد ، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهوراً وإقداماً أو جبناً أو إحجاماً ، أو إلفاً وسوء اختيار ، قال تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وقال تعالى: {إنّما يخشى الله من عباده العُلماءُ } .
ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق ، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلاً إلى فهم خطابه عز وجل ، وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه ، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل ، فيها تكون معرفة الحق من الباطل . قال تعالى : {فبَشّر عباد *الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذن هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب } .
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل ، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم ، وعلى اعتقاد ذلك علماً ، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلاً، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق ، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة ، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية ، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } .
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل ، وأما المضغة المسماة قلباً فهي لكل أحد متذكر ، وغير متذكر ، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له ، قال تعالى ، شاهداً لما قلنا : {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وقال بعض السلف الصالح : «ترى الرجل لبيباً داهياً فطناً ولا عقل له» فالعاقل من أطاع الله عز وجل .
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية ، لأن طاعة الله عز وجل ، هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل ، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم ، لا إله إلا هو ، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به ، أو حضّ عليه ، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزّه منه ، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها ، من علو صوت ، أو عرض جاه ، أو نمو مال ، أو نيل لذة من طاعة أو معصية ، فليس ذلك عقلاً، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار ، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود .
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور ، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ، ضعيف العقل ، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم ، فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده ، الضعيف في منفعته ، المشوب بالآلام والمكاره ، الفاني بسرعة ، على الكثير في عدده العظيم في منفعته ، الخالص من الكدر والمضار ، الخالد أبداً، حمق شديد وعدم للعقل البتة . ولو أن أمرأ خيّر في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق ، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ، ونواوير وأزهار ، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ، ومال عريض ، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها ، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة ، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة ، وفي أثنائها أهوال ومتالف ، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال ، فيسكنها مائة عام ، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء ، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه ، وفاسد العقل جدّاً ، ظاهر الحمق رديء الاختيار، مذموماً مدحوراً ملوماً .
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه. فكيف بمن اختار فانياً عن قريب على ما لا يتناهى أبداً . اللهم إلا أن يكون شاكاً في منقلبه ، متحيراً في مصيره ، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها ، نعوذ بالله من الخذلان ، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين .
وكل ما قلنا فلم نقله جزافاً ، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهداً بصحته ، وميزه العقل ، عالماً بحقيقته ، والحمد لله رب العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة ، فمؤمن وكافر ، فريق في الجنة وفريق في السعير .
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار ، وعبده المنتخب من جميع ولد آدم ، محمداً الهاشمي المكي ، إلى جميع خلقه من الجن والإنس ، فنسخ بملته جميع الملل ، وختم به الرسل ، وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه ، واتخذ صفياً ونجياً وخليلاً ورسولاً فلا نبي بعده ، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا .
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود ، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك ، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت ، غرور ، وأن كل ما تَشْرهُ إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس ، خطأ ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور ، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله ، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور .
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل ، وأصوات مستحسنة ، متقضية بهبوب الرياح ، ومشام مستطرفة ، منحلة بعيد ساعات ، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة ، وملابس معجبة ، متبدلة في أيسر زمان تبدلاً موحشاً ، باطلاً .
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول ، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق ، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء ، كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه ، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل ، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين . فقد أخبر رسول الله ﷺأن من هدى الله به رجلاً واحداً فهو خير له من حمر النعم. وأخبر ﷺ أن من سنّ سنة خير في الإسلام ، كان له مثل أجر كل من عمل بها ، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئاً .
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة :
فمن أوكدها وأحسنها مغبة ، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله ﷺ ، وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه ، والعبارات الواردة فيه ، فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس .
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد ، وإثم الخطأ. ونقصت أجور من اتبعهم مجتهداً من كفلين إلى كفل واحد .
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير ، وامتن عليه بتزايد الأجر، وهو في التراب رميم .
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب ، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان ، وبيّنا كل ذلك بياناً سهلاً لا إشكال فيه ، ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل ، فكان ذلك الكتاب أصلاً لمعرفة علامات الحق من الباطل ، وكتبنا أيضاً كتابنا المرسوم بالفصل ، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب . ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شيء من ذلك مساغاً ، والحمد لله كثيراً .
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات ، والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفاً .
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا ، موعباً للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى ، مستقصى ، محذوف الفضول ، محكم الفصول ، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات ، وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه ، فيضرب لنا في ذلك بقسط ، ويتفضل علينا منه بحظ ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء : لا إله إلا هو .
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه لما صح أن العالم مخلوق ، وأن له خالقاً لم يزل عز وجل ، وصح أنه ابتعث رسوله محمداً ﷺ إلى جميع الناس ، ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز وجل ، وليكب من عصاه في النار الحامية ، وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع، يوصل إلى الفوز ، وينجي من الهلاك ، وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله ﷺ بتبليغه إلينا ، وسماه قرآناً، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله وسماه وحياً غير قرآن ، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه ﷺ , لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب، ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود ، ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل ، فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل ، لا يشذ عنها شيء من ذلك ، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله ﷺ وطاعة أولي الأمر ، ومن هم أولو الأمر ، وبيان التنازع الواقع منا ، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا ، وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله ﷺ , وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله .
فصح بهذه الآية يقيناً أن الدين كلـه لا يؤخذ إلا عن اللـه عز وجل، ثم على لسان رسول اللـه ﷺ فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته ، لا مبلغ إلينا شيئاً عن اللـه تعالى أحد غيره .
وهو ﷺ لا يقول شيئاً من عند نفسه لكن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الأمر منا ، فهم الذين يبلغون إلينا جيلاً بعد جيل ما أتى به رسول اللـه ﷺ عن اللـه تعالى ، وليس لـهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئاً أصلاً ، لكن عن النبي ﷺ , هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل ، وليس من الدين ، إذ ما لم يكن من عند اللـه تعالى ، فليس من دين اللـه أصلاً ، وما لم يبينه رسول اللـه ﷺ ، فليس من الدين أصلاً، وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول اللـه ﷺ فليس من الدين أصلاً.
فبينا بحول اللـه تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب ، بأن ترك ما هو من الدين مخطئاً غير عامد للمعصية ، أو عامداً لـها ، أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك ، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين : إما ترك ، وإما زيادة ، ولخصنا الحق تلخيصاً لا يشكل على نصح نفسه.
وقصد اللـه عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا باللـه عز وجل .
وجعلنا كتابنا هذا أبواباً لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه، ورجاء ثواب اللـه عز وجل في ذلك ، وباللـه تعالى نتأيد.
باب ترتيب الأبواب ، وهو الباب الثاني ــــ إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب ، وذكر الغرض فيه وهو الذي تمّ قبل هذا الابتداء .
الباب الثاني : هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب.
الباب الثالث : في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة، وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع : في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس : في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس : هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة. أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل.
الباب السابع : في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا.
الباب الثامن : في معنى البيان.
الباب التاسع : في تأخير البيان.
الباب العاشر : في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر : في الأخبار التي هي السنن ــــ وفي بعض فصول هذا الباب ــــ سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة.
الباب الثاني عشر : في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور. أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر : في حملها على العموم أو الخصوص .
الباب الرابع عشر : في أقل الجمع الوارد فيها .
الباب الخامس عشر : في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر : في الكتابة بالضمير .
الباب السابع عشر : في الكتابة بالإشارة .
الباب الثامن عشر : في المجاز والتشبيه .
الباب التاسع عشر : في أفعال رسول الله ﷺ وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتاً عن الأمر به أو النهي عنه.
الباب الموفي عشرين : في النسخ .
الباب الحادي والعشرون : في المتشابه من القرآن والمحكم ، والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون : في الإجماع .
الباب الثالث والعشرون : في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل الإجماعي.
الباب الرابع والعشرون : في أقل ما قيل وهو أيضاً نوع من أنواع الدليل الإجماعي .
الباب الخامس والعشرون : في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون : في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ .
الباب السابع والعشرون : في الشذوذ ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون : في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون : في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس .
الباب الموفي ثلاثين : في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان.
الباب الحادي والثلاثون : في صفة طلب الفقه ، وصفة المفتي، وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون : في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود بالفعل والنية جميعاً وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون : في شرائع الأنبياء قبل نبينا أتلزمنا أم لا.
الباب الرابع والثلاثون : في الاحتياط وقطع الذرائع .
الباب الخامس والثلاثون : في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي .
الباب السادس والثلاثون : في إبطال التقليد .
الباب السابع والثلاثون : في دليل الخطاب .
الباب الثامن والثلاثون : في إبطال القياس .
الباب التاسع والثلاثون : في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات.
الباب الموفي أربعين : في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذوراً به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه.