ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السادس
هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة
- قال أبو محمد : قال قوم : الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة ، وقال آخرون : بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم ، وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس : ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة ، وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة .
- قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال : الأشياء كلها ملك لله عز وجل ، ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه .
- قال أبو محمد : وهذا تمويه ساقط ، لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل ، وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ، ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركباً في ضرورة العقل ، لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع، فإن الكل أقل من الجزء ، وأن القصير أطول مما هو أطول منه ، لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعاً ومحالاً ، ورتب الاخبار به كذباً وإفكاً ، وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ، ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب. ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام .
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرهاً فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال ، وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد .
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع، ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاساً وغلبة وعلى كل وجه.
فإن قالوا : كفرهم أباح أموالهم ، قيل لهم : نحن نوجدكم الذمي كافراً لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله ، وكلاهما كفره واحد ، فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل .
فإن قال قائل منهم : تلك الأموال هي ملك الله عز وجل ، قيل له : إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياساً على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلاً فتبطله .
ويقال لـه أيضاً : وأنفسنا ملك للـه عز وجل، وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني ، وفي ذلك إبطال ملك للـه عز وجل كثير، وإتلاف مملوكات لـه كثيرة ، وهذا فسخ لأصلك ، فيكون الإتلاف على قولك حاظراً مبيحاً في حالة واحدة ، وهذا لا يعقل .
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، اطرد علتك وقل : وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة اللـه عز وجل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض، وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة ، وأدل دليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد لـه من السيلان ، وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلاً على القدرة ، فأبح قتل النفس على هذا وقل: إنه حسن في العقول بل واجب ، ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة ، فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل .
واحتج المبيحون أيضاً بأن قالوا : لا بد من فعل ، أو ترك ، أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع .
- قال أبو محمد : وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر ، وأما نحن فلسنا نقول : إن في العقل إباحة شيء ولا حظره ، وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط .
وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة ، واحتج بعض القائلين بالإباحة بقولـه تعالى : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
- قال أبو محمد : ولا حجة لـهم في هذا ، لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولاً فيعارضون بهذا ، وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر ، لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول : إن اللـه تعالى يعذب من خالف أمره ، وليس في كون المرء عاصياً أو كافراً ما يوجب أنه يعذب ولا بد ، وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي فقط ، ولولا ذلك ما علمناه .
برهان ذلك ؛ أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين ، لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ، ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاماً وستين وسبعين وثمانين ، وبين تماديه هكذا أبداً وقتاً بعد وقت ، ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول ، وبين جوازه في الوقت الثاني ، وليست هنا حال حدثت لـهم ، إلا أن اللـه تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ، ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به ، وقال بعض القائلين بالإباحة : محال أن يخلق اللـه تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا.
- قال أبو محمد : هذه مكابرة العيان ، وليست هذه هي حجة مسلم ، لأن الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا ، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان ، وشرب الخمور في البساتين ، وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة ، وترك التعرض لسيوف أهل الشرك ، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ، ثم حرم علينا ذلك كله .
فإن قال قائل : فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها ، وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة .
قلنا له وبالله تعالى التوفيق : لقد كان تعالى قادراً أن يجمع الأمرين لنا معاً ، ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه .
وبيان ذلك : أنه قد نعَّم قوماً في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك .
وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام ، وسلط محمداً ﷺ على جميع أعدائه ، وعصمه منهم ، ومنحه النصر عليهم ، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل ، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها ، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضاً ، فمن محسن منعم ، ومن محسن مشقي ، وقد نعم أيضاً عز وجل ملوكاً من الكفار في الدنيا ، وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار ، وهم أطغى خلق الله وأكفره ، وأشد تسلطاً على الفواحش .
وحرم آخرين من الكفار ، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والأمراض المؤلمة ، ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ، ومنحوس فيها ، فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئاً من ذلك في عقله إلاَّ ناقص العقل، ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك .
ونسأل من جعل العقل مرتباً في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة ، مريد لله عز وجل بقلبه كله ، موحد لله تعالى لا يدع خيراً إلا فعله ولا شرًّا إلا اجتنبه ، إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد من جميع أهل ناحيته إلا متبعاً بالكذب وبأقبح الصفات ، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته أو مكذب لها ، أليس مصيره إلى النار خالداً ، مخلداً أبداً بلا نهاية ؟ فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة .
ثم نقول : ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه ، من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام ، وفعل كل بلية ، ثم إنه أيقن بنبوة محمد ﷺ ، وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام ، وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك ، أليس من أهل الجنة ؟ بلا خلاف من أحد من الأمة ، فإن شك في ذلك فقد كفر .
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله ، وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمداً ﷺ وسائر الأنبياء بهذه الفضائل ، وقد كان ﷺ بين أظهر الناس أربعين سنة لم يَحْبُه تعالى بهذه الفضيلة ، فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يُحْبَى بها إذ حبي بها ، هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره ، وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة ، أو تحسين أو تقبيح ، وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط ، نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنِّه آمين .
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة : كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له .
- قال أبو محمد : وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم ، وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى ، والجائع مضطر إلى الجوع ، والمريض مضطر إلى المرض ، وقد قال تعالى في أهل النار : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أفيسوغ لذي عقل أن يقول : إن الله تعالى أباح للجائع الجوع ، وللمريض المرض ، ولأهل جهنم الكون في جهنم ، وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني .
فإن قال قائل : فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول ، واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ، ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسناً .
قيل له: هذا شغب فاسد ، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت ، بل هو قولنا نفسه ، وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه ، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته ، فواجب في العقول الانقياد لذلك ، والانقياد لمنع ما أبيح ، أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم ، فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئاً مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة .
وقد قال بعض القائلين بالحظر : إن معنى قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إنما معنى هذا ليعتبر به.
- قال أبو محمد : وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان . ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة .
فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم : إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود ، معنى الزكاة طهارة الأنفس ، ومعنى الحج القصد إلى الإمام ، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة ، وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه ، وهذا هو إبطال الحقائق .
وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا : إن معنى قول رسول الله ﷺ : «لا نَبِيَّ بَعْدِي» ، أي من العرب فقط .
وساغ للمعتزلة أن تقول : وخلق كل شيء ، أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات .
وساغ للحشوية أي تقول : بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء .
وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط ، وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ، ويبطل حقيقة العقل .
وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة ، وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه ، فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة، وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق .
- قال أبو محمد : ثم نبطل كلا المذهبين معاً بحول الله وقوته. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
- قال أبو محمد : ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال .
فبطل بذلك قول من قال : إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإِباحة .
وصح أن من قال شيئاً من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل ، وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل ، أو حظر الكل ، أو حظر البعض ، أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك ، وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملاً دون ورود شرع ، فبطل قول من قال : إن العقول تعرف وقتاً من الدهر من شرع ، وإذ قد بطل هذا القول ، فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة، فصار قولهم محالاً ممتنعاً ، مع كونه حراماً أيضاً لو كان ممكناً .
وقال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } فبطل هذا أن تكون أمة وقتاً من الدهر لم يتقدم فيهم نذير، وقد كان آدم عليه السلام رسولاً في الأرض وقال تعالى له، إذ أنزله إلى الأرض: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا، ثم حظر ما شاء ، وكل ذلك بشرع ، وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتاً من الدهر دون شرع ، بل قد قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي .
- قال أبو محمد : ويقال لهم أيضاً : لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم، فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة، ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء.
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم . وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة ، فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل ، ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف .
- قال أبو محمد : ويقال لمن قال : لكل شيء مباح في العقل ، إلا الفكر ، أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكاراً . كفراً من قائله ؛ فإن قال : لا ؛ كفر ، وإن قال : نعم ؛ قيل له صدقت ، وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى .
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ، ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد ، إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط ؛ لأن بعضهم قال : لم يبح الله تعالى قط الكفر ، لأن الكفر الذي هو العقد ، ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية ، كفر صحيح ، فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه : أنا كافر بالإِسلام ، مقر بالتثليث ، إن هذا كفر ، وإنه مرتد ، وهذا بعينه الذي أبيح عند الإِكراه ، فقد جاءت إباحة الكفر نصًّا ، وحسن ذلك في عقولهم ، وبطل قولهم ، والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسناً مباحاً ، وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق .
ويقال لمن قال : إن كفر المنعم محظور بالعقل . ما تقول في كافر ربى إنساناً وأحسن إليه ، ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا ؟
فإن قالوا : لا . خالفوا الإِجماع ، وإن قالوا : نعم . نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل ، فإن قالوا : إن قتله شكر له ، كابر ، وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه ، وهذا ضد ما ميّزه العقل ، وبالله تعالى التوفيق .