ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟

  • قال علي بن أحمد : اختلف الناس في هذا على قسمين :

فطائفة قالت : الدليل على من أوجب شيئاً ، أو ثبت حكماً أو قضية . وليس على النافي دليل .

وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معاً.

  • قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئاً بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم ، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

فقد حرَّم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئاً لا يعلم صحته ، وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل. فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرماً عليه .

وقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى على كل مدَّع المصدق أن يأتي ببرهان ، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعياً للصدق في نفيه ما نفى ، ووجدنا كل مثبت مدعياً للصدق في إثباته ما أثبت، فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة .

  • قال علي : وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئاً في المناظرة في غير الأحكام.
  • قال علي : فإذا اختلف المختلفان ، فأثبت أحدهما شيئاً ونفاه الآخر ، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفاً بحكم كلام الله عز وجل ، فأيهما أقام البرهان صح قوله ، ولا يجوز أن يقيماه معاً لأن الحق لا يكون في ضدين ، ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلاً صحيحاً في حال واحدة من وجه واحد ، فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل ، وهذا ممكن ، فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي ، لكن يترك في حد الإِمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه ، لكان الشيء موجباً حقاً ، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلاً منفياً .

فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقًّا ، وممكن أن يكون باطلاً إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .

وقد روي عن النبي في حديث أهل الكتاب : «لا نُصَدِّقُ وَلا نُكَذِّبُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الله أعْلَمُ» .

  • قال علي : وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ، ولا معنى للتطول فيها والشغب ، لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدًّا واضحة ، فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا ، بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله ، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ، ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته ، وإن كان هذا قولا صحيحاً .

ولكنا نقول لهم : هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ، ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ، ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله ، وسهولة المأخذ في ذلك ، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي ، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد ، في باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا ، وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجاً بما لم يحتجوا به لأنفسهم ، وبينَّا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه ، وبالله تعالى التوفيق .

  • قال علي : كل أمر ثبت بيقين إما بحس ، وإما ببديهة عقل ، وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل ، فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح ، لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله ، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت ، وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلاداً فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ، ورؤوسهم على أسافلهم . أو ادعى أن في الناس قوماً لهم حاسة سادسة غير حواسنا ، أو ادعى أن فلاناً الذي عهدناه حيًّا مات ، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه ، أو أن فلاناً طلَّق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها ، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق ، أو أن فلاناً الذي عهدنا فسقه قد تعدل ، أو أن فلاناً الذي عهدناه غير والٍ قد ولي الحكم في بلد كذا ، أو أن فلاناً الذي عهدناه والياً قد عزل ، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا ، أو حرم عليكم أمر كذا ، أو أحل لكم أمراً عهدناه حراماً، أو أسقط عنكم أمراً عهدناه لازماً، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلاً على بطلان قول خصمه ، إذا قام الدليل على صحة قوله ، ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإِلزام والتحريم والإِحلال والإِسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا .

وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة ، فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه .

وأما بطلان قول من ادَّعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع ، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

وقال تعالى : {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .

وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } .

  • قال علي : فبيَّن الله تعالى بياناً جليًّا لا إشكال فيه ، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ، ولا أن نترك ما أوحي إلينا ، وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى ، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه ، لأنه إنما ينطق عنه عز وجل ، وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم ، وأن هذه حدود الله تعالى . فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها ، وأن يعدى بنا عنها فقد حرَّف كلام الله تعالى وظلم ، وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه؛ وإلا فنحن باقون على تلك الحدود ، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها ، وبالله تعالى التوفيق.

وأيضاً فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن : إن ادَّعى مدَّع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء ، أن يكلف المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الإِسلام مع ما فيه من مخالفة العقول .

وكذلك القول فيمن قال بصحة الإِلهام قول الرافضة في الإِمام ، ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات ، فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ، ولا الإِقرار به ، وهو كله على الدفع والرد والإِبطال بلا دليل يكلفه مبطله ، وإنما البرهان على من حقق شيئاً من ذلك أو أوجبه . وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت ، أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئاً فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك ، لأنه فعل ما يلزمه من ذلك ، وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط ، فإن أتى به صحت دعواه ، وإلا فواجب تركها وردها ، وإن كانت ممكنة غير ممتنعة ، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق .

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول

مقدمة تشمل الباب الأول والثاني | في إثبات حجج العقول | في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف أم عن إصطلاح ؟ | في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر | تتمة الباب الخامس وفصل في معاني حروف تتكرر في النصوص | هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة | فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة | في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ | فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟ | في البيان ومعناه | في تأخير البيان | في الأخذ بموجب القرآن | في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه | فصل فيه أقسام الإخبار عن الله | هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟ | صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار