هداية الحيارى/لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله

وقد ذكرنا اتفاق اليهود والنصارى، على مسبة رب العالمين، أقبح مسبة على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة لله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته.

فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات، الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم، فأمة أطبقت على أن الإله الحق سبحانه عما يقولون صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث، وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها، وأنها شر من الحمير بل هي شر الدواب عند الله.

وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها، ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة، إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: إنه الله، وتارة يقولون: إنه ابنه وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر، وسبته أقبح مسبة، أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به.

وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات إنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته، فهبط بذاته من السماء والتحم في بطن مريم فأخذ منها حجابا وهو مخلوق من طريق الجسم وخالق من طريق النفس وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام والإنسان التام. ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في أصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فثبت في موضع صلبه النوار.

ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة، هذه ألفاظهم في كتبهم!

فأمة أطبقت على هذا في معبودها، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله إنه ساحر وكاذب وملك مسلط، ونحو هذا؟

ولهذا قال بعض ملوك الهند: أما النصارى، فإن كان أعداؤهم من أهل الملل يجاهدونهم بالشرع فأنا أرى جهادهم بالعقل، وإن كنا لا نرى قتال أحد لكني أستثني هؤلاء القوم من جميع العالم. لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العدواة، وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا من ذلك شرعا لا يؤدي إلى صلاح نوع من أنواع العالم، ولكنه يصير العاقل إذا شرع به أخرق، والرشيد سفيها، والحسن قبيحا، والقبيح حسنا، لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الإساءة إلى الخلاق والنيل منه، وسبه أقبح مسبة، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى مخلوق، وأن يصفه بما يغير صفاته الجميلة، فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه، كما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه لكانوا أهلا لذلك.

والمقصود أن الذين اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه وتنزيهه وإجلاله ووصفه بما يليق به، هم الذين اختاروا بعبده ورسوله، وجحد نبوته، والذين اختاروا عبادة صور خطوها بأيديهم في الحيطان، مزوقة بالأحمر والأصفر والأزرق، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها، فأعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء، وسألوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الإيمان به، وتصديقه واتباعه، والذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد، ونحلوهما للفرد الصمد، هم الذين أنكروا نبوة عبده وخاتم رسله.

هداية الحيارى
خطبة الكتاب | تمهيد | مسائل الكتاب | المسألة الأولى | الأسباب المانعة من قبول الحق | لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله | صلاة النصارى استهزاء بالمعبود | المسألة الثانية | قصة النجاشي | وفد نصارى نجران | خبر عدي بن حاتم الطائي | قصة سلمان الفارسي | قصة هرقل | إسلام النجاشي | قصة المقوقس | قصة ابن الجلندي | صاحب اليمامة | قصة الحارث | قصة عبد الله بن سلام | المذكور في كتبهم غالبا وهو أبلغ من الاسم | نصارى نجران | اثنا عشر وجها تدل على أنه مذكور في الكتب المنزلة | اختلاف نسخ التوراة والإنجيل وتناقضها | نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته | النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له واليهود ينتظرون المسيح الدجال | ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق | أدلة من التوراة على نبوة محمد | نطق التوراة صراحة بنبوة محمد | ما ذكر في نبوة حبقوق | مناظرة المؤلف لأحد كبار اليهود | صفات النبي المذكورة في كتبهم | خبر المباهلة | حديث وهب عن الزبور | خبر الحجر الذي وجد في قبر دانيال | أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي | خبر بحيرا الراهب | خبر آخر عن هرقل | الطرق الأربعة الدالة على صحة البشارة به | تحريف التوراة والإنجيل | سبب تحريف التوراة | جحدهم بنبوة محمد نظير جحدهم نبوة المسيح | التغيير في ألفاظ الكتب | المناقضات في الإنجيل | الرد على من طالب بالنسخ الصحيحة | الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين | الرد على من طعن بالصحابة | معاصي الأمم لا تقدح في الرسل ولا في رسالتهم | كتب اليهود | من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار | دين النصارى | مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها | لو لم يظهر محمد لبطلت نبوة سائر الأنبياء | النصارى أشد الأمم افتراقا في دينهم | اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح | تاريخ المجامع النصرانية | ذكر ماني الكذاب | بولس أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح | أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين | المجمع الأول | المجمع الثاني | المجمع الثالث | المجمع الرابع | المجمع الخامس | المجمع السادس | المجمع السابع | المجمع الثامن | المجمع التاسع | المجمع العاشر | لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لامتنعوا من قبوله | يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد | إنكار النبوات شيمة الفلاسفة والمجوس وعباد الأصنام | غباوة اليهود | إشراق الأرض بالنبوة