مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن أحاديث يرويها قصاص
سئل عن أحاديث يرويها قصاص
[عدل]ما تقوله السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين في أناس قصاصين؟ ينقلون مغازي النبي ﷺ، وقصص الأنبياء عليهم السلام تحت القلعة، وفي الجوامع والأسواق، ويقولون: إن النبي أتي إليه ملك يقال له: حبيب، فقال له: إن كنت رسول الله فإنا نريد أن القمر ليلة تسعٍ وعشرين يعود وينزل من طوقك ويطلع من أكمامك، فأراهم ذلك، فآمنوا به جميعهم وقال: كانوا الرب.
ويقولون: إنه أتي إليه ملك يقال له: بشير بن غَنَّام عمل عليه حيلة وأخذ منه تسع أنفس علقهم على النخل، فبعث النبي ﷺ عليا فخلصهم، وكان من جملتهم خالد.
وأتي إليه ملك وهو في مكة يقال له: الملك الدحاق، وكانت له بنت اسمها حَمَاَنةَ فكسر النبي ﷺ وزوج بنته لبلال، فقتله وهو في الصلاة، فحط النبي ﷺ بردته فأحياه الله له.
وأنه بعث المقداد إلى ملك يقال له: الملك الخَطَّار، فالتقي في طريقه ملكة يقال لها: روضة، فتزوج بها، وراح إلى الملك الذي أرسل إليه فاقتتل هو وإياه فأسره، وجاء إلى النبي ﷺ، وقاتل في غزاة تبوك بُولص بن عبد الصليب، وأنه قاتل في الأحزاب وكانوا ألوفًا، وانكسرت الأحزاب قُدَّام على سبع عشرة فرقة، وخلف كل واحدة رجل يضرب بالسيف ويقول: أنا على وليه ضرب عمرو بن العامري فقطع فخذه، فأخذ عمرو فخذه وضرب بها في المسلمين فقلع شجرة وقتل بها جماعة منهم، والملائكة ضجت عند ذلك وقالوا: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على.
وأن عليا قاتل الجن في البئر، ورماه بالمنجنيق إلى حصن الغراب، وجاءت رَمْيتَه ناقصة فمشي في الهواء، وأنه ضرب مَرْحَب إليهودي، وكان على رأسه جُرْن رُخَام فقسم له وللفرس نصفين، وأنه عبر العسكر على زِنْدِه إلى خيبر وهد الحصن، وأن ذا الفقار أنزل إليه من السماء، فإن الله سماه من السماء، وقال: على أسبق من العجل، وأنه بعث مع كل نبي سرًا وبعث مع النبي جهرًا، وأنه كان عصا موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، وأنه شرب من سُرِّة النبي ﷺ لما مات، فوزن علم الأولين والآخرين.
وأن ملك الموت جاء إلى النبي ﷺ في زي أعرابي، فقال له النبي: قابض أم زائر؟ فقال له: ما زرت أحدًا من قبلك حتى أزورك، فأعطاه تفاحة، فشمها، فخرجت روحه فيها، وأن فاطمة بكت عليه حتى أقلقت أهل المدينة حتى أخرجوها إلى بيوت الأحزان، وينقلون قصص الأنبياء من جنس هذا السؤال، ويفسرونها بآيات لم تسمع من أهل العلم، وكل واحدة من هذه تحزبوا فيها ليلة.
وكان بعض العلماء قد منعهم من هذا النقل، وأنهم لا ينقلون إلا من كتب عليها سماعات المشايخ أهل العلم، فاعتمدوا على كتب فيها من جنس ما ذكر من تصنيف رجل يقال له: البكري، فما يجب عليهم في مثل هذه الأمور؟ لأنهم ينقلون ما يخالف ما ثبت عن الرسل -عليهم السلام- وينقلون في بعض الأشياء ما هو تنقيص بهم، وهل يثاب من أمر بمنعهم؟
وينقلون أيضا: أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت. فخلق الله من كل قطرة نبيا، وكانت القبضة النبي وبقي كوكب دري، وكان نورًا منقولًا من أصلاب الرجال إلى بطون النساء.
فأجاب شيخ الإسلام، قدوة الإيمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، فقال:
الحمد لله رب العالمين، هذه الأحاديث من الأحاديث المفتراة باتفاق أهل العلم، وإنما تؤخذ مثل هذه الأحاديث من مثل تنقلات الأنوار للبكري وأمثاله ممن روي الأكاذيب الكثيرة.
أما الأول، فإن القمر لم يدخل في طوق النبي ﷺ ولا ثيابه ولا باشر النبي ﷺ، ولكن انشق فرقتين: فرقة دون الجبل، وفرقة فوق الجبل.
وكذلك حبيب أبي مالك لا وجود له، والحديث المذكور عن بشير بن غنام -أيضا- كذب، وهذا الاسم غير معروف. وخالد بن الوليد لم يؤسر أصلًا، بل أسلم بعد الحديبية، وما زال منصورًا في حروبه.
وكذلك ما ذكر عن المسمى بالملك الدحاق كذب، وهذا الاسم لا وجود له فيمن حاز به النبي ﷺ عاش، ولكن الذين عاشوا بعد الموت في هذه الأمة كان بينهم طائفة في زمن الصحابة والتابعين، وأما من أحيا الله له دابته بعد الموت من المؤمنين فهؤلاء بعضهم كان من المسلمين على عهد النبي ﷺ، ومنهم من كان بعد موته ﷺ.
وكذلك ما ذكر عن الملك المسمى بالخطار، هو من الأكاذيب ولا وجود له. وأما غزاة تبوك فلم يكن بها قتال، بل قدم النبي ﷺ بالشام رومهم وعربهم، وغيرهم، ولم يجتمع المسلمون في غزاة مع النبي ﷺ أكثر مما اجتمع معه عام تبوك، وهي آخر المغازي، وأقام بتبوك عشرين يومًا فلم تقدم عليه النصاري.
وكذلك الأحزاب، لم يكن فيها اقتتال بين الجيشين، بل كان الأحزاب محاصرين للمسلمين خارج الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وكان المسلمون داخل الخندق، وكان فيها مناوشة قليلة بين بعض المسلمين وبعض الكفار بمنزلة المبارزة أو ما يشبهها، وقتل على رضي الله عنه عمرو بن عبد ود العامري، ولم تنكسر الأحزاب بقتال، ولا قتل منهم ولا من المسلمين عدد له قدر، بل أرسل الله عليهم الريح ريح الصبا وأرسل الملائكة، كما قال تعالى في قصة الأحزاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عليهمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } الآيات 1، وما ذكر من كيفية قتل عمرو بن عبد ود العامري فهو كذب، وكذلك ضرب عمرو بن عبد ود الشجرة بفخذه وقلعها كذب، ولم يكن هناك شجر وإنما النخيل كان بعيدًا من العسكر.
وكذلك ما ذكر من مناداة المنادي بقوله: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتي إلا على» كذب مفتري، وكذلك من نقل أن ذلك كان يوم بدر أو غيره، وذو الفقار لم يكن سيفًا لعلى، ولكن كان سيفًا لأبي جهل، غنمه المسلمون منه يوم بدر، وكان سيفًا من السيوف المعدنية، ولم ينزل من السماء سيف، ولم يكن سيف يطول لا هو ولا غيره.
وكذلك ما ذكره من قتال الجن، وأن عليا أو غيره من الإنس قاتلهم في بئر ذات العلم أو غيره من الإنس، فهذا كله كذب، والجن لم تكن لتقاتل الصحابة أصلًا، ولكن الجن الكفار كانوا يقاتلون الجن المؤمنين، وأما على وأمثاله من الصحابة فهم أجلُّ قدرًا من أن يثبت الجن لقتالهم. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لعمر بن الخطاب: «ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك».
وما ذكر من رمي علي في المنجنيق، ومحاصرة المسمى بحصن الغراب، كله كذب مفترى، ولم يرم المسلمون قط أحدًا في منجنيق إلى الكفار لا عليا ولا غيره، بل ولم ينصب المسلمون على عهد النبي ﷺ منجنيقًا إلا على الطائف لما حاصرها النبي ﷺ بعد وقعة حنين وهزيمة هوازن، حاصر الطائف ونصب المنجنيق وأقام عليها شهرًا، ولم تفتح حتى أسلم أهل الطائف بعد ذلك طوعًا، ولما كان المسلمون يقاتلون مسيلمة الكذاب وأصحابه ألجؤوهم إلى حديقتهم، فحمل الناس البراء بن مالك حتى ألقوه إليهم داخل السور، ففتح لهم الباب.
وأما قصة مرحب فقد روي في الصحيح: أن عليا رضي الله عنه قتل مرحبًا، وروي في الصحيح أن محمد بن مسلمة قتل مرحبًا وقال بعضهم: بل إحدى الروايتين غلط.
وأما كون البَيْضَة التي على رأسه كانت جُرْن رخام فكذب، وكذلك كون الضربة قسمت الفارس وفرسه ونزلت إلى الأرض، فهذا كله كذب، ولم ينقل مثل هذا أهل العلم بالمغازي والسير، وإنما ينقله الجهال والكذابون.
وأظهر من ذلك عبور العسكر على ساعد على، ومرور البغلة، ودعاء على عليها بقطع النسل؛ فإن هذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بأحوال الصحابة، ومن هو من أجهل الناس بأحوال الوجود؛ فإن البغلة مازالت عقيمًا، وعسكر خيبر لم يكن فيه بغلة أصلًا، ولم يكن مع المسلمين بغلة ولا في المدينة بغلة ولا حولها من أرض العرب بغلة، إلا البغلة التي أهداها المقوقس صاحب مصر للنبي ﷺ، وكان أهداها له بعد خيبر؛ فإنه ﷺ لما صالح أهل الحديبية رجع منصرفًا ففتح الله عليهم خيبر، ثم رجع وأرسل إلى الملوك رسله، فأرسل إلى كسري، وقيصر، والمقوقس، وملوك العرب بالشام واليمن واليمامة والمشرق، ولكن المعروف عند أهل العلم أن عليا قلع باب خيبر.
وما ذكر من نزول ذو الفقار من السماء كذب، وقد تقدم أنه كان سيفًا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر منه، فأما على فقد سماه أبوه بهذا الاسم قبل أن يبعث الله محمدا بالنبوة، وقبل أن يثبت لأحد حكم الإسلام؛ لا من الرجال، ولا من الصبيان.
وأما قول القائل: إنه كان عصي موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، فهذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، وهو بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وهذا لا يقصد أحد مدح على به إلا لفرط في الجهل، فإن عليا -هو من دونه من الصحابة- أشرف قدرًا عندالله من هذه الجمادات، وإن كانت العصي آية لموسي، فليس كل ما كان معجزة لنبي أفضل من المؤمنين، بل المؤمنون أفضل من الطير الذي كان المسيح يصوره من الطين، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأفضل من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي كان آية لموسي، وأفضل من العصي والحية، وأفضل من ناقة صالح. فمن ظن أنه بهذا الكذب والجهل يمدح عليا كان جهله من المدح والثناء من جنس جهله بأن هذه الجمادات لم تكن آدميين قط.
وأما قول القائل: إنه شرب من سرة النبي ﷺ فَدَرَي علم الأولين والآخرين، فهو - أيضا - من الأكاذيب، فإن العلم الذي تعلم على من النبي ﷺ كان حاصلا قبل موته، وما رزقه الله من الفهم والسماع وزيادة العلم بعد موته فلم يكن سببه شرب ماء السرة، ولا شرب أحد على نبي ولا غير نبي فحصل له بذلك علم أصلا، ولا كان أحد من الصحابة؛ لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا على ولا غيرهم يعلم علم الأولين والآخرين.
وقد ثبت للصحابة رضي الله عنهم من الفضائل الثابتة في الصحاح ما أغني الله بها عن أكاذيب المفترين، مثل قوله الذي صح عنه من غير وجه: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» وقوله: «لا يبقين في المسجد خَوْخَةٌ إلا سدت إلا خَوْخَةَ أبي بكر» وقوله: «إن أَمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» وقوله: «أيها الناس إني أتيت إليكم، فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي» وقوله في مرضه الذي توفي فيه: «مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس» مرة بعد مرة، ومثل قوله لعائشة: «ادْعِي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر لا يختلف الناس من بعدي» ثم قال: «يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر»؛ وأمثال ذلك.
ومثل قوله: «إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون؛ فإن يكن في أمتي أحد فعمر»، وقوله لعمر: «ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»، وقوله: «رأيت كأني أتيت بإناء من لبن، فشربت، ثم ناولت فَضْلِي عمر، قالوا: فما أولته؟ قال: العلم»، وقوله: «رأيت كأن الناس يعرضون على وعليهم قُمُصٌ، منها ما بلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا: فما أولته؟ قال: الدين»، وقوله: «رأيت كأني على قَلِيب أنتزع منها، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنُوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يَفْري فَرِيِّهُ، حتى صدر الناس بِعَطَنٍ».
وأمثال ذلك، مثل قوله عن عثمان: «ألا أستحي ممن تستحيي منه ملائكة السماء»، وقوله: «من يشتري بئر رُومَة وله الجنة» فاشتراها عثمان، وقوله في عثمان لما جهز جيش العسرة: «ماضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»، وقوله يوم بيعة الرضوان لما بايع المسلمين تحت الشجرة: «هذه يدي عن يمين عثمان»، وكان قد بعثه رسولا إلى أهل مكة، وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله ﷺ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان. وأمثال ذلك.
ومثل قوله عام خيبر: «لأعطِيَّن الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، وكان علي غائبًا بالمدينة؛ لأنه كان أَرْمَد، فلحق بالنبي ﷺ، فلما أصبح، قدم على فأعطاه الراية حتى فتح الله على يديه، ولما خرج في غزوة تبوك بجميع الناس ولم يأذن في التخلف إلا لأهل العذر واستخلف عليًا على المدينة، فطعن فيه بعض المنافقين، فلحقه على وهو يبكي، وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي؟ غير أنه لا نبي بعدي»، وأَدَارَ كساءه على على وفاطمة وحسن وحسين فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا»، ولما أراد أن يُبَاهِلَ أهل نجران أخذ عليا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وخرج ليباهل بهم، ولما تنازع على وجعفر وزيد في حضانة ابنة حمزة قضي بها لخالتها وكانت تحت جعفر، وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».
وكذلك قال: «إن الأشعريين إذا أَرْمَلُوا في السفر أو قَلَّت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم».
وقال: «إن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
وقال: «إن لكل نبي حواريين وحواريي الزبير».
فهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح فيها غنية عن الكذب.
وكذلك ما ذكر من إتيان ملك الموت في صورة أعرابي، وإعطاؤه إياه تفاحة فشمها، هو أيضا من الكذب، بل الحديث الطويل الذي روي في قصة موت النبي ﷺ، وأنه طرق الباب فخرج إليه واحد بعد واحد، وأنهم لما عرفوا أنه ملك الموت خضعوا له، هو أيضا من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. مع أنه قد رواه الطبراني من حديث عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه من حديث وهب بن منبه، عن ابن عباس، وعبد المنعم هذا معروف بالأكاذيب.
وكذلك ما ذكر من بكاء فاطمة على النبي ﷺ، حتى أقلقت أهل المدينة وأخرجوها إلى بيوت الأحزان، هذا أيضا من الأكاذيب المفتراة، وما يروي مثل هذا إلا جاهل، أو من قصده أن يسب فاطمة والصحابة رضي الله عنهم ينقل مثل هذا الفعل الذي نزه الله فاطمة والصحابة عنه.
وكذلك ما ذكر من «أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت، فخلق من كل قطرة نبيا، وأن القبضة كانت هي النبي ﷺ، وأنه بقي كوكب دري» فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه.
وكذلك ما يشبه هذا، مثل أحاديث يذكرها شِيرَوُيْهِ الدَّيْلَمِي في كتابه الفردوس ويذكرها ابن حَمَوَيْه في حقائقه، مثل: كتاب المحبوب ونحو ذلك، مثل ما يذكرون أن النبي ﷺ كان كوكبًا، أو أن العالم كله خلق منه، أو أنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل! وأمثال هذه الأمور، فكل ذلك كذب مفتري باتفاق أهل العلم بسيرته.
والأنبياء كلهم لم يُخْلَقُوا من النبي ﷺ، بل خلق كل واحد من أبويه ونفخ الله فيه الروح، ولا كان كلما يُعْلم الله لرسله وأنبيائه بوحيه يأخذونه بواسطة سوي جبريل، بل تارة يكلمهم الله وحيا يوحيه إليهم، وتارة يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى بن عمران، وتارة يبعث ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء.
ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره، كما كان أنبياء بني إسرائيل على شريعة التوراة.
وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل الإلحاد من أهل الوحدة والاتحاد؛ كابن عربي صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما؛ فإنه لما ذكر مذهبه الذي مضمونه أن الوجود واحد، وأن الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وإن تعددت الأعيان الثابتة في العدم. قال: وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
وساق الكلام إلى أن ذكر أن خاتم الأنبياء موضع لبنة فضة، وأن خاتم الأولياء موضع لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، فهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره وما يتبعه من الأحكام؛ لأنه يري الأمر على ما هو عليه فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن؛ فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل.
فهذا الكلام ونحوه فيه كثير من الضلال، مثل دعواه أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة الله من خاتم الأنبياء، فإن هذا كذب.
ومن قال: إن إبراهيم الخليل، وموسى وعيسي، وغيرهم إنما استفادوا معرفة الله من النبي ﷺ فقد كذب، بل الله أوحي إليهم وعلمهم، والنبي ﷺ لم يكن موجودًا حين خُلِقُوا، والمتقدم لا يستفيد من المتأخر.
هامش
- ↑ [الأحزاب: 9]