مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته
فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته
[عدل]وأما قوله: «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم» فيقتضي أصلين عظيمين:
أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة. وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال: { وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } 1، وقال: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } 2، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } 3، وقوله: { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } 4، وقوله: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } 5، وقال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللهُ أَطْعَمَهُ } 6 فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر.
ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب. فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه -: لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه. وقد قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 7، وقال تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } 8، وقال: { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } 9.
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو أيضا جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله. وقد قال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } 10، وقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقال: { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ } 11، وقال شعيب عليه السلام: { عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } 12، وقال: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } 13. وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ } 14، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب.
وقد روي أبو داود في سننه أن النبي ﷺ قضي بين رجلين. فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي ﷺ: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»، ففي قوله ﷺ: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع. وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصي أحد الأمرين، ونهي عن العجز الذي هو ضد الكيس. كما قال في الحديث الآخر: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس»، وكما في الحديث الشامي: «الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله»، فالعاجز في الحديث مقابل الكيس، ومن قال: العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه. ومنه الحديث: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس».
ومن ذلك ما روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي } 15، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به.
وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه.
وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء أيضا نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة.
وقد قال في هذا الحديث: «كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم» وقال: «فاستكسوني أكسكم» وفي الطبراني أو غيره عن النبي ﷺ قال: «لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر». وهذا قد يلزمه أن يجعل أيضا استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي ﷺ عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم.
ومنه حديث الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه. قال: سألت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله».
وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك. وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تركها بالكلية فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور علمًا وعملًا بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها.
هامش
- ↑ [البقرة: 233]
- ↑ [النساء: 5]
- ↑ [البلد: 14: 16]
- ↑ [الحج: 36]
- ↑ [الحج: 28]
- ↑ [يس: 47]
- ↑ [فاطر: 2]
- ↑ [يونس: 107]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [هود: 88]
- ↑ [الشورى: 10]
- ↑ [الممتحنة: 4]
- ↑ [البقرة: 197]