انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل تعريف الحديث الواحد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل تعريف الحديث الواحد

وأما الحديث الواحد، فيراد به ما رواه الصاحب من الكلام المتصل بعضه ببعض ولو كان جملا كثيرة، مثل: حديث توبة كعب بن مالك، وحديث بدء الوحي، وحديث الإفك، ونحو ذلك من الأحاديث الطوال؛ فإن الواحد منها يسمي حديثا، وما رواه الصاحب أيضا من جملة واحدة أو جملتين أو أكثر من ذلك، متصلا بعضه ببعض؛ فإنه يسمي حديثا، كقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن»«الجار أحق بسَقَبِه»، «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوي» إلى آخره، فإنه يمسي حديثا.

وكذلك قوله: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا»، وقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتَتُه»، وقد أكمل من أجناس مختلفة، لكن في الأمر العام تكون مشتركة في معني عام، كقوله: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يَبِع على بيع أخيه، ولا يَسْتَام على سَوْمِ أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ مافي صَحْفتها ولتنكح، فإن لها ما قدر لها» فإن هذا يتضمن النهي عن مزاحمة المسلم في البيع والنكاح، وفي البيع لا يستام على سومه، ولا يبيع على بيعه، وإذا نهاه عن السوم فنهيه المشتري على شرائه عليه حرام بطريق الأولي، ونهاه أن يخطب على خطبته. وهذا نهي عن إخراج امرأته من ملكه بطريق الأولي، ونهي المرأة أن تسأل طلاق أختها لتنفرد هي بالزوج، فهذه وإن تعلقت بالبيع والنكاح فقد اشتركت في معني عام.

وكذلك قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر»، فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعية الكِبْر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم.

وقَلَّ أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما، وإن كان قد يخفي التناسب في بعضها على بعض الناس، فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمي حديثا واحدًا.

وأما إذا روي الصاحب كلاما فرغ منه، ثم روي كلامًا آخر وفصل بينهما بأن قال: وقال رسول الله ، أو بأن طال الفصل بينهما، فهذان حديثان، وهذا بمنزلة ما يتصل بالكلام في الإنسان والإقرارات والشهادات، كما يتصل بعقد النكاح والبيع والإقرار والوقف. فإذا اتصل به الاتصال المعتاد كان شيئًا واحدًا يرتبط بعضه بعض، وانقضي كلامه، ثم بعد طول الفصل أنشأ كلامًا آخر بغير حكم الأول، كان كلامًا ثانيًا، فالحديث الواحد ليس كالجملة الواحدة؛ إذ قد يكون جملا، ولا كالسورة الواحدة؛ فإن السورة قد يكون بعضها نزل قبل بعض أو بعد بعض، ويكون أجنبيًا منه، بل يشبه الآية الواحدة أو الآيات المتصل بعضها ببعض، كما أنزل في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين؛ وكما في قوله: { إِنَّا أَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا } 1، فإن هذا يتصل بعضه ببعض، وهو نزل بسبب قصة بني أبيرق إلى تمام الكلام.

وقد يسمي الحديث واحدًا، وإن اشتمل على قصص متعددة، إذا حَدَّث به الصحابي متصلًا بعضه ببعض، فيكون واحدًا باعتبار اتصاله في كلام الصحابي، مثل حديث جابر الطويل الذي يقول فيه: «كنا مع رسول الله » وذكر فيه ما يتعلق بمعجزاته، وما يتعلق بالصلاة، وبغير ذلك، فهذا يسمي حديثا بهذا الاعتبار، وقد يكون الحديث طويلا، وأخذ يفرقه بعض الرواة فجعله أحاديث، كما فعل البخاري في كتاب أبي بكر في الصدقة، وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعني.


هامش

  1. [النساء: 105]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن عشر - الحديث
سئل ما حد الحديث النبوي | فصل تعريف الحديث الواحد | فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا | فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف | فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع | أن يسمع من لفظ المحدث | أن يقرأ على المحدث فيقر به | المناولة والمكاتبة | الإجازة | معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب | شرط البخاري ومسلم | قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح | الخبر ينقسم ثلاثة أقسام | فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا | أسباب تعمد الكذب | فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا | فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين | فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة | فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد | سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث | كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم | وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن | أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه | بعض الأخبار الموضوعة | وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن | سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي | فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا | فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته | فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته | فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار | فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني | فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم | فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم | فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين | شرح حديث إنما الأعمال بالنيات | فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | فصل في قوله وجلت قلوبهم | فصل في معنى حديث خطبة الحاجة | فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ | فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث | حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء | فصل حديث أعطيت جوامع الكلم | حديث الكرب اللهم إني عبدك | فصل حديث المرء مع من أحب | وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا | فصل حديث من يستغن يغنه الله | فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر | فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات | سئل عن أحاديث هل هي صحيحة | سئل عن بعض الأحاديث | سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا | وسئل عن قصة إبليس | بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار | سئل عن أحاديث يرويها قصاص | قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد | معنى حديث على كل مسلم صدقة | وسئل عن أحاديث يرويها القصاص