انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف

[عدل]

وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسي الترمذي، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسي مراده بذلك، فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا، وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم. وقال: الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ؛ فإنه إذا رواه المجهول خِيفَ أن يكون كاذبا أو سيئ الحفظ. فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا، ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل عن درجة الصحيح.

وقد أنكر بعض الناس على الترمذي هذه القسمة وقالوا: إنه يقول: حسن غريب. والغريب الذي انفرد به الواحد، والحديث قد يكون صحيحًا غريبًا كحديث «إنما الأعمال بالنيات» وحديث «نهي عن بيع الولاء وهبته» وحديث «دخل مكة وعلى رأسه المغفر» فإن هذه صحيحة متلقاة بالقبول، والأول: لا يعرف ثابتًا عن غير عمر، والثاني: لا يعرف عن غير ابنه عبد الله، والثالث: لا يعرف إلا من حديث الزهري عن أنس، ولكن هؤلاء - الذين طعنوا على الترمذي- لم يفهموا مراده في كثير مما قاله؛ فإن أهل الحديث قد يقولون: هذا الحديث غريب، أي: من هذا الوجه، وقد يصرحون بذلك فيقولون: غريب من هذا الوجه، فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد، فإذا روي من طريق آخر كان غريبًا من ذلك الوجه، وإن كان المتن صحيحًا معروفًا، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق؛ ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن.

وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثا ويصححه البخاري؛ كحديث ابن مسعود لما قال له النبي : «ابغني أحجارًا أسْتَنْفِضُ بهن» قال: فأتيته بحجرين ورَوْثَة، قال: فأخذ الحجرين وترك الرَّوْثة وقال: «إنها رجس» فإن هذا قد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخري؛ لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة، وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح. وهذا باب يطول وصفه.

وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان:

ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.

وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي، وهذا بمنزلة مرض المريض، قد يكون قاطعًا بصاحبه فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه، وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره؛ ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث.

ومن العلماء المحدثين أهل الإتقان مثل: شعبة ومالك والثوري ويحيي بن سعيد القَطَّان وعبد الرحمن بن مهدي، هم في غاية الإتقان والحفظ، بخلاف من هو دون هؤلاء، وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا فساقًا، فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط؟

ومثل هذا عبد الله بن لَهِيعَة، فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل: ابن لَهِيعة.

وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب، فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد.

ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول: إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهي عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف، ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن عشر - الحديث
سئل ما حد الحديث النبوي | فصل تعريف الحديث الواحد | فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا | فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف | فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع | أن يسمع من لفظ المحدث | أن يقرأ على المحدث فيقر به | المناولة والمكاتبة | الإجازة | معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب | شرط البخاري ومسلم | قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح | الخبر ينقسم ثلاثة أقسام | فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا | أسباب تعمد الكذب | فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا | فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين | فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة | فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد | سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث | كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم | وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن | أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه | بعض الأخبار الموضوعة | وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن | سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي | فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا | فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته | فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته | فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار | فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني | فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم | فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم | فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين | شرح حديث إنما الأعمال بالنيات | فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | فصل في قوله وجلت قلوبهم | فصل في معنى حديث خطبة الحاجة | فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ | فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث | حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء | فصل حديث أعطيت جوامع الكلم | حديث الكرب اللهم إني عبدك | فصل حديث المرء مع من أحب | وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا | فصل حديث من يستغن يغنه الله | فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر | فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات | سئل عن أحاديث هل هي صحيحة | سئل عن بعض الأحاديث | سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا | وسئل عن قصة إبليس | بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار | سئل عن أحاديث يرويها قصاص | قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد | معنى حديث على كل مسلم صدقة | وسئل عن أحاديث يرويها القصاص