مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا
فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا
وأما قول السائل: إذا صح الحديث هل يكون صدقا؟
فجوابه: أن الصحيح أنواع، وكونه صدقا يعني به شيئان: فمن الصحيح ما تواتر لفظه؛ كقوله: «من كذب على متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار». ومنه ما تواتر معناه؛ كأحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث الحوض، وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك. فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق؛ لأنه متواتر؛ إما لفظًا وإما معنى.
ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به، كما عملوا بحديث الغرة في الجنين، وكما عملوا بأحاديث الشفعة، وأحاديث سجود السهو، ونحو ذلك. فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة. فلو كان في نفس الأمر كذبًا لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به، وهذا لا يجوز عليها.
ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث؛ كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فان جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تَبَعٌ لهم في معرفة الحديث، فإجماع أهل العلم بالحديث على أن هذا الخبر صدق كإجماع الفقهاء على أن هذا الفعل حلال أو حرام أو واجب، وإذا أجمع أهل العلم على شيء فسائر الأمة تبع لهم؛ فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ.
ومما قد يسمي صحيحًا ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه، ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل، مثل: حديث ابن وعلة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فإن هذا انفرد به مسلم عن البخاري، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه مسلم، ومثل ما روي مسلم أن النبي ﷺ صلى الكسوف ثلاث ركوعات وأربع ركوعات، انفرد بذلك عن البخاري، فإن هذا ضَعَّفه حُذَّاقُ أهل العلم، وقالوا: إن النبي ﷺ لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، وفي نفس هذه الأحاديث التي فيها الصلاة بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، أنه إنما صلى ذلك يوم مات إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين ولا كان له إبراهيمان، وقد تواتر عنه أنه صلى الكسوف يومئذ ركوعين في كل ركعة، كما روي ذلك عنه عائشة وابن عباس وابن عمرو وغيرهم؛ فلهذا لم يَرْوِ البخاري إلا هذه الأحاديث وهو أحذق من مسلم؛ ولهذا ضعف الشافعي وغيره أحاديث الثلاثة والأربعة ولم يستحبوا ذلك، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وروي عنه أنه كان يجوز ذلك قبل أن يتبين له ضعف هذه الأحاديث.
ومثله حديث مسلم: «إن الله خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة»، فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل: يحيي بن معين ومثل البخاري وغيرهما، وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا هو عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر. ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذاق أهل الحديث يثبتون علة هذا الحديث من غير هذه الجهة، وأن رواية فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمي معرفة علل الحديث بكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه حديث في حديث، وهذا فن شريف، وكان يحيي بن سعيد الأنصاري ثم صاحبه على بن المديني ثم البخاري من أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد وأبو حاتم وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم. وفيه مصنفات معروفة.
وفي البخاري نفسه ثلاثة أحاديث نازعه بعض الناس في صحتها مثل: حديث أبي بكرة عن النبي ﷺ أنه قال عن الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، فقد نازعه طائفة منهم أبو الوليد الباجي، وزعموا أن الحسن لم يسمعه من أبي بكرة، لكن الصواب مع البخاري وأن الحسن سمعه من أبي بكرة، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع، وقد ثبت ذلك في غير هذا الموضع.
والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم؛ ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحا لا ريب فيه قد اتفق أهل العلم على صحته ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخاري، ويقول بعض أهل الحديث إنها ضعيفة، ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها، كمثل صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع، وقد يكون الصواب مع مسلم، وهذا أكثر، مثل قوله في حديث أبي موسى: «إنما جعل الإمام لِيُؤتَمَّ به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» فإن هذه الزيادة صحَّحها مسلم، وقبله أحمد بن حنبل وغيره، وضعفها البخاري وهذه الزيادة مطابقة للقرآن، فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن، فإن في قوله: { وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 1، أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة، وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص.
ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت، لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها، وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وجمهور أصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام، لا بالفاتحة ولا غيرها، لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام، كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد، وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام، وهذا مروي عن الليث والأوزاعي، وهو اختيار جدي أبي البركات.
ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام، وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعًا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه، فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام، وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها، وهذا خلاف إذا لم يسمع، فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرًا من كونه ساكتًا بلا فائدة، بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه، فقراءة يثاب عليها خير من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروي في الصحيح وينازع فيه بعض العلماء، وأنه قد يكون الراجح تارة، وتارة المرجوح، ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام، وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام، وهذا لا يكون إلا صدقا، وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي ﷺ من عدة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب، من غير أن يتواطآ، ومثل هذا يوجب العلم القطعي؛ فإن المحدث إذا روي حديثا طويلا سمعه ورواه آخر ذكر أنه سمعه وقد علم أنهما لم يتواطآ على وضعه، علم أنه صدق؛ لأنه لو لم يكن صدقا لكان كذبا إما عمدًا وإما خطأ؛ فإن المحدث إذا حدث بخلاف الصدق إما أن يكون متعمدا للكذب، وإما أن يكون مخطئا غالطا. فإذا قدر أنه لم يتعمد الكذب ولم يغلط، لم يكن حديثه إلا صدقًا، والقصة الطويلة يمتنع في العادة أن يتفق الاثنان على وضعها من غير مواطأة منهما، وهذا يوجد كثيرًا في الحديث يرويه أبو هريرة وأبو سعيد، أو أبو هريرة وعائشة، أو أبو هريرة وابن عمر، أو ابن عباس، وقد علم أن أحدهما لم يأخذه من الآخر، مثل حديث التجلي يوم القيامة الطويل؛ حدث به أبوهريرة وأبو سعيد ساكت لا ينكر منه حرفا، بل وافق أبا هريرة عليه جميعه إلا على لفظ واحد في آخره.
وقد يكون النبي ﷺ حدث به في مجلس وسمعه كل واحد منهما في مجلس، فقال هذا ما سمعه منه في مجلس، وهذا ما سمعه منه في الآخر، وجميعه في حديث الزيادة، والله أعلم.
هامش
- ↑ [الأعراف: 204]