مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في معنى حديث خطبة الحاجة
فصل في معنى حديث خطبة الحاجة
وَقَالَ:
الأذكار الثلاثة التي اشتملت عليها خطبة ابن مسعود وغيره، وهي الحمد لله، نستعينه، ونستغفره: هي التي يروى عن الشيخ عبد القادر ثم أبي الحسن الشاذلي، أنها جوامع الكلام النافع. وهي: الحمد لله وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن العبد بين أمرين: أمر يفعله الله به، فهي نعم الله التي تنزل عليه، فتحتاج إلى الشكر. وأمر يفعله هو؛ إما خير، وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار؛ ليمحو أثره.
وجاء في حديث ضماد الأَزْدِي: «الحمد لله، نحمده ونستعينه» فقط، وهذا موافق لفاتحة الكتاب، حيث قسمت نصفين: نصفًا للرب، ونصفًا للعبد، فنصف الرب مفتتح بالحمد لله، ونصف العبد مفتتح بالاستعانة به، فقال نحمده ونستعينه، وقد يقرن بين الحمد والاستغفار، كما في الأثر الذي رواه أحمد في الزهد: «أن رجلًا كان على عهد الحسن فقيل له: تلقينا هذه الخطبة عن الوالد عن والده، كما يقولها كثير من الناس: الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا» فأما «نحمده ونستعينه» ففي حديث ضماد، «ونستعينه ونستغفره» في حديث ابن مسعود. وأما «نستهديه» ففي فاتحة الكتاب؛ لأن نصفها للرب وهو الحمد، ونصفها للعبد، وهو الاستعانة والاستهداء، وليس فيها الاستغفار؛ لأنه لا يكون إلا مع الذنب، والسورة أصل الإيمان، والفاتحة باب السعادة، المانعة من الذنوب. كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } 1.
وعن ابن عباس أن ضمادًا قدم مكة وكان من أَزْدِشنوءة. وكان يُرْقِي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء الله، فهل لك؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» قال: فقال: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغت قَاعُوسَ البحر، قال: فقال هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله ﷺ: «وعلى قومك؟» فقال: وعلى قومي. رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا استحبت، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصًا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية، وكان الذي عليه شيوخ زماننا، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم، وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير، أو الفقه في الجوامع والمدارس، وغيرها بخطبة أخري.
مثل: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عنا وعنكم، وعن مشائخنا، وعن جميع المسلمين، أو وعن السادة الحاضرين، وجميع المسلمين، كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات، هو كمال الصراط المستقيم، وما سوي ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح؛ إذْ خير الهدي هدي محمد ﷺ.
والتحقيق أن قوله: الحمد لله نستعينه ونستغفره هي الجوامع، كما في الحديث النبوي، حديث ابن مسعود ذكر ذلك، وأن النبي ﷺ أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه، كما في سورتي أبي فإن الاستهداء يدخل في الاستعانة، وتكرير نحمده قد استغني به بقوله: الحمد لله، فإذا فصلت جاز، كما في دعاء القنوت: «اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك، ولا نكفرك، ونخلع، ونترك من يَفْجُرُك». فهذه إحدى سورتي أبي، وهي مفتتحة بالاستعانة التي هي نصف العبد، مع ما بعدها من فاتحة الكتاب، وفي السورة الثانية: «اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعي ونَحْفِد، نرجو رحمتك، ونخشي عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار مُلْحِق». فهذا مفتتح بالعبادة التي هي نصف الرب، مع ما قبلها من الفاتحة، ففي سورتي القنوت مناسبة لفاتحة الكتاب، وفيهما جميعًا مناسبة لخطبة الحاجة وذلك جميعه من فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه.
وأما قوله: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا» فإن المستعاذ منه نوعان: فنوع موجود، يستعاذ من ضرره الذي لم يوجد بعد، ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر، مثال الأول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومثال الثاني: { رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } 2، و«اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل». وأما قوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } 3. فيشترك فيه النوعان، فإنه يستعاذ من الشر الموجود ألا يضر، ويستعاذ من الشر الضار المفقود ألا يوجد، فقوله في الحديث: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» يحتمل القسمين: يحتمل نعوذ بالله أن يكون منها شر، ونعوذ بالله أن يصيبنا شرها، وهذا أشبه، والله أعلم.
وقوله: «ومن سيئات أعمالنا» السيئات هي عقوبات الأعمال، كقوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } 4، فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرًا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي، وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره. وعلى الأول وهو أشبه فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه، وهذا أشبه.
فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي، فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب، وعلى هذا فيكون قد استعاذ من الضرر المفقود الذي انعقد سببه ألا يكون؛ فإن النفس مقتضية للشر، والأعمال مقتضية للعقوبة، فاستعاذ أن يكون شر نفسه، أو أن تكون عقوبة عمله، وقد يقال: بل الشر هو الصفة القائمة بالنفس الموجبة للذنوب، وتلك موجودة كوجود الشيطان، فاستعاذ منها أن تضره أو تصيبه، كما يقال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وإن حمل على الشرور الواقعة، وهي الذنوب من النفس، فهذا قسم ثالث.
هامش