محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة السابعة والخمسون
كتاب الحج
823 - مسألة : فإذا جاء من يريد الحج أو العمرة إلى أحد هذه المواقيت فإن كان يريد العمرة فليتجرد من ثيابه إن كان رجلا ، فلا يلبس القميص ، ولا سراويل ، ولا عمامة ، ولا قلنسوة ، ولا جبة ، ولا برنسا ، ولا خفين ، ولا قفازين ألبتة ، لكن يلتحف فيما شاء من كساء ، أو ملحفة " أو رداء ؛ ويتزر ويكشف رأسه ويلبس نعليه . ولا يحل له أن يتزر ، ولا أن يلتحف في ثوب صبغ كله أو بعضه بورس ، أو زعفران ، أو عصفر . فإن كان امرأة فلتلبس ما شاءت من كل ما ذكرنا أنه لا يلبسه الرجل وتغطي رأسها إلا أنها لا تنتقب أصلا ؛ لكن إما أن تكشف وجهها ، وإما أن تسدل عليه ثوبا من فوق رأسها فذلك لها إن شاءت . ولا يحل لها أن تلبس شيئا صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران ، ولا أن تلبس قفازين في يديها ، ولها أن تلبس الخفاف والمعصفر . فإن لم يجد الرجل إزارا فليلبس السراويل كما هي وإن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولا بد ويلبسهما كذلك . برهان ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر [ قال ] { سأل رجل رسول الله ﷺ ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله ﷺ : لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد - لا يجد النعلين - فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس } . وبه إلى مسلم نا محمد بن رافع نا وهب بن جرير بن حازم نا أبي [ قال ] سمعت قيسا هو ابن سعد - يحدث عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه { أن رجلا أتى النبي ﷺ وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة وهو مصفر رأسه ولحيته ، وعليه جبة فقال له رسول الله ﷺ : انزع عنك الجبة ، واغسل عنك الصفرة ، وما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك } . قال أبو محمد : كل ما جب فيه موضع لإخراج الرأس منه : فهو جبة في لغة العرب ؛ وكل ما خيط أو نسج في طرفيه ليتمسك على الرأس فهو برنس كالغفارة ونحوها - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن محمد بن حنبل نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد - نا أبي عن محمد بن إسحاق قال : إن نافعا مولى عبد الله بن عمر " أنه سمع رسول الله ﷺ { نهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب ، وما مس الورس والزعفران ، من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب - من معصفر ، أو خز ، أو حلي ، أو سراويل ، أو قميص ، أو خف } . قال علي : وحدثنا عبد الله بن ربيع قال : نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا نوح بن حبيب القومسي نا يحيى بن سعيد هو القطان - نا ابن جريج نا عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه { أن رجلا أتى رسول الله ﷺ وقد أحرم في جبة متضمخ ، فقال له رسول الله ﷺ أما الجبة فاخلعها ، وأما الطيب فاغسله ، ثم أحدث إحراما } . قال أبو محمد : نوح ثقة مشهور ؛ فالأخذ بهذه الزيادة واجب ، ويجب إحداث الإحرام لمن أحرم في جبة متضمخا بصفرة معا - وإن كان جاهلا - لأن رسول الله ﷺ لم يأمر بذلك إلا من جمعها ، وقد ذكرنا في كتاب الصلاة نهي النبي ﷺ الرجال عن المعصفر جملة . قال أبو محمد : وفي بعض ما ذكرنا خلاف ، وهو الثوب المصبوغ بالورس ، أو الزعفران ، إذا غسل حتى لا يبقى منه أثر فقال قوم : لباسه جائز . قال علي : قد روى بعض الناس في هذا أثرا فإن صح وجب الوقوف عنده ولا نعلمه صحيحا ، وإلا فلا يجوز لباسه أصلا ؛ لأنه قد مسه الورس ، أو الزعفران - : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة : أن عبد الله بن عروة سأل عروة بن الزبير عن الثوب المصبوغ إذا غسل حتى ذهب لونه - يعني بالزعفران للمحرم - فنهاه عنه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن أبي بشر قال : كنت عند سعيد بن المسيب فقال له رجل : إني أريد أن أحرم ومعي ثوب مصبوغا بالزعفران فغسلته حتى ذهب لونه ؟ فقال له سعيد : أمعك ثوب غيره ؟ قال : لا ، قال : فأحرم فيه . وروينا من طريق إبراهيم عن عائشة أم المؤمنين إباحة الإحرام فيه إذا غسل - ولا يصح سماع إبراهيم من عائشة . وروينا عن سعيد بن جبير وإبراهيم ، وعطاء ، والحسن ، وطاوس : إباحة الإحرام فيه إذا غسل - وفي أسانيدهم مغمز - : ومنه : من وجد خفين ولم يجد نعلين ؟ فقد قال قوم : يلبسهما كما هما ولا يقطعهما - وقال قوم يشق السراويل فيتزر بها - واحتج من أجاز له لباس السراويل والخفين بما حدثناه عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا شعبة بن الحجاج أخبرني عمرو بن دينار سمعت جابر بن زيد قال : سمعت ابن عباس قال { خطبنا رسول الله ﷺ بعرفات فقال : من لم يجد نعلين فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل } . وقال بعضهم : قطع الخفين إفساد للمال وقد نهي عنه . قال أبو محمد : حديث رسول الله ﷺ لا يحل خلافه ، فليلبس السراويل كما هي ولا شيء في ذلك ؛ وأما الخفان فحديث ابن عمر فيه زيادة القطع حتى يكونا أسفل من الكعبين على حديث ابن عباس فلا يحل خلافه ، ولا ترك الزيادة . وروينا عن علي بن أبي طالب " إذا لم يجد النعلين لبس الخفين ، وإن لم يجد إزارا فليلبس السراويل " وصح أيضا عن ابن عباس من قوله . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا عبيد الله بن عمر نا نافع عن ابن عمر قال : إذا لم يجد المحرم النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين . ومن طريق هشام بن عروة أن أباه قال : إذا لم يجد المحرم النعلين لبس الخفين أسفل من الكعبين . وعن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي أنه قال في المحرم لا يجد نعلين : قال : يلبس الخفين ويقطعهما حتى يكونا مثل النعلين ؛ وهو قول إبراهيم النخعي ، وسفيان ، وقول الشافعي ، وأبي سليمان ، وبه نأخذ . وروينا عن عائشة أم المؤمنين ، والمسور بن مخرمة إباحة لباس الخفين بلا ضرورة للمحرم من الرجال . وقال أبو حنيفة : إن لم يجد إزارا لبس سراويل ، فإن لبسها يوما إلى الليل فعليه دم ولا بد . وإن لبسه أقل من ذلك فعليه صدقة ، وإن لبس خفين لعدم النعلين يوما إلى الليل فعليه دم ، وإن لبسهما أقل فصدقة ؛ وقال مالك : من لم يجد إزارا لبس سراويل وافتدى ، وإن لم يجد نعلين قطع الخفين أسفل من الكعبين ولبسهما ولا شيء عليه . وقال محمد بن الحسن : يشق السراويل ويتزر بها ولا شيء عليه . وقال أبو محمد : أما تقسيم أبي حنيفة بين لباس السراويل والخفين يوما إلى الليل ، وبين لباسهما أقل من ذلك فقول لا يحفظ عن أحد قبله ، وليت شعري ماذا يقولون إن لبسهما يوما غير طرفة عين ، أو غير نصف ساعة ؟ وهكذا نزيدهم دقيقة دقيقة حتى يلوح هذيانهم ، وقولهم بالأضاليل في الدين ، وكذلك إيجابه الدم في ذلك ، أو الصدقة ، لا نعلمه عن أحد قبله فإن قالوا : قسنا ذلك على الفدية الواجبة في حلق الرأس ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن فدية الأذى جاءت بتخيير بين صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، وأنتم تجعلون هاهنا الدم ولا بد ؛ أو صدقة غير محدودة ولا بد ؛ ولا سيما وأنتم تقولون : إن الكفارات لا يجوز أخذها بالقياس ، فكم هذا التلاعب بالدين ؟ وأما قول مالك فتقسيمه بين حكم السراويل وبين حكم لبس الخفين ، خطأ لا برهان على صحته ، ومالك معذور ، لأنه لم يبلغه حديث ابن عباس ، وإنما الملامة على من بلغه وخالفه لتقليد رأي مالك . وأما قول محمد بن الحسن فخطأ ؛ لأنه استدرك بعقله على رسول الله ﷺ ما لم يأمر به عليه السلام وأوجب فدية حيث لم يوجبها النبي عليه السلام . قال أبو محمد : وهم يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ؛ وقد ذكرنا في هذه المسألة ما روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وعلي ، والمسور ، ولا نعلم لأحد من الصحابة رضي الله عنهم قولا غير الأقوال التي ذكرنا في هذه المسألة فخالفها الحنفيون ، والمالكيون كلها آراء فاسدة لا دليل على صحتها أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وروينا عن عائشة أم المؤمنين نهي المرأة عن القفازين ، وعن علي ، وابن عمر أيضا وهو قول إبراهيم ، والحسن ، وعطاء ، وغيرهم . وروينا عن عائشة أم المؤمنين ، وعن ابن عباس : إباحة القفازين للمرأة ، وهو قول الحكم ، وحماد ، وعطاء ، ومكحول ، وعلقمة ، وغيرهم ؛ وحديث رسول الله ﷺ الذي ذكرنا هو الحاكم على ما سواه . وأما المعصفر فقد روينا عن عمر بن الخطاب المنع منه جملة وللمحرم خاصة أيضا عن عائشة أم المؤمنين - وهو قول الحسن ، وعطاء . وروينا عن جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، ونافع بن جبير : إباحته للمحرم ، ولم يبحه أبو حنيفة ، ومالك : للمحرم ، وأباحه الشافعي . وروينا عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعلي ، وعقيل ابني أبي طالب ، والقاسم بن محمد ، وغيرهم ، إباحة المورد للرجل المحرم ، وهو مباح إذا لم يكن بزعفران ، أو ورس ، أو عصفر ؛ لأنه لم يأت عنه نهي في قرآن ولا سنة .
824 - مسألة : ونستحب الغسل عند الإحرام للرجال والنساء ، وليس فرضا إلا على النفساء وحدها : لما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن سلمة عن ابن القاسم حدثني مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن { أسماء بنت عميس : أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء فذكر أبو بكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال : مرها فلتغتسل ثم تهل } .
825 - مسألة : ونستحب للمرأة والرجل أن يتطيبا عند الإحرام بأطيب ما يجدانه من الغالية والبخور بالعنبر ، وغيره ؛ ثم لا يزيلانه عن أنفسهما ما بقي عليهما - وكره الطيب للمحرم قوم - : روينا من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : وجد عمر بن الخطاب ريح طيب بالشجرة فقال : ممن هذه ؟ فقال معاوية : مني طيبتني أم حبيبة فتغيظ عليه عمر ، وقال : منك لعمري أقسمت عليك لترجعن إلى أم حبيبة ، فلتغسله عنك كما طيبتك ؛ وأنه قال : إنما الحاج الأشعث ، الأدفر ، الأشعر . ومن طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه : أن عثمان رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام فأمره أن يغسل رأسه بطين . ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه ، قال : سمعت ابن عمر يقول : لأن أصبح مطليا بقطران أحب إلي من أن أصبح محرما أنضح طيبا وهو قول عطاء ، والزهري ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، ومالك ، ومحمد بن الحسن إلا أن مالكا قال : إن تطيب قبل إحرامه وقبل إفاضته ، فلا شيء عليه - وأباحه جمهور الناس كما روينا آنفا عن أم حبيبة أم المؤمنين ، ومعاوية - ورويناه أيضا عن كثير بن الصلت . ومن طريق وكيع عن محمد بن قيس عن بشير بن يسار الأنصاري : أن عمر وجد ريح طيب فقال : ممن هذه الريح ؟ فقال البراء بن عازب : مني يا أمير المؤمنين ، قال : قد علمنا أن امرأتك عطرة إنما الحاج ، الأدفر ، الأغبر - وبه إلى محمد بن قيس عن الشعبي : أنه قال : كان عبد الله بن جعفر يتطيب بالمسك عند إحرامه . ومن طريق ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية الفزاري عن صالح بن حيان قال : رأيت أنس بن مالك أصاب ثوبه من خلوق الكعبة وهو محرم فلم يغسله . ومن طريق سفيان عن أيوب السختياني عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت : طيبت أبي بالسك ، والذريرة لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يزور ، أو يطوف . ومن طريق معمر عن أيوب عنها وغيره ، أنها سألت ؟ ما كان ذلك الطيب ؟ قالت : البان الجيد ، والذريرة الممسكة . ومن طريق ابن أبي شيبة عن حماد بن أسامة عن عمر بن سويد الثقفي عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : كنا نضمخ جباهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ، ثم نحرم ونحن مع رسول الله ﷺ فنعرق فيسيل على وجوهنا فلا ينهانا عنه النبي ﷺ . ومن طريق حماد بن سلمة قال حدثتني ذرة أنها كانت تغلف رأس عائشة أم المؤمنين بالمسك ، والعنبر عند الإحرام . ومن طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أمه وهي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رأيت عائشة تنكث في مفارقها الطيب ثم تحرم . وعن أبي سعيد الخدري أنه كان يدهن بالبان عند الإحرام . ومن طريق وكيع عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين أن الحسين بن علي أمر أصحابه بالطيب عند الإحرام . ومن طريق شعبة عن الأشعث بن سليم عن مرة بن خالد الشيباني قال : سألنا أبا ذر بالربذة بأي شيء يدهن المحرم ؟ قال : بالدهن . وعن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى قال : رأيت عبد الله بن الزبير وفي رأسه ولحيته وهو محرم ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال . وعن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن الزبير أنه كان يتطيب بالغالية الجديدة عند إحرامه . ومن طريق وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : سألت ابن عباس عن الطيب المحرم ؟ فقال : إني لأسغسغه في رأسي قبل أن أحرم ثم أحب بقاءه . وعن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا بالطيب عند الإحرام ويوم النحر قبل أن يزور . فهؤلاء جمهور الصحابة رضي الله عنهم : سعد بن أبي وقاص ، وأم المؤمنين : عائشة ، وأم حبيبة ؛ وعبد الله بن جعفر ، والحسين بن علي ، وأبو ذر ، وأبو سعيد ، والبراء بن عازب ، وأنس ، ومعاوية ، وكثير بن الصلت ، وابن الزبير ، وابن عباس . وعن ابن الحنفية : أنه كان يغلف رأسه بالغالية الجيدة قبل أن يحرم . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يدهن بالسليخة - عند الإحرام - وعن عثمان بن عروة بن الزبير : أن أباه كان يحمر ثيابه ، ويحرم فيها قال : وكان يرى لحانا تقطر من الغالية ونحن محرمون فلا ينكر ذلك علينا . وعن الأسود بن يزيد أنه كان يحرم ووبيص الطيب يرى في رأسه ولحيته . وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة قال : كان أبي يقول لنا : تطيبوا قبل أن تحرموا وقبل أن تفيضوا يوم النحر . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أيوب بن محمد الوزان أنا عمرو بن أيوب نا أفلح بن حميد عن أبي بكر هو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع أناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد العزيز ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسالم ، وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر ، وابن شهاب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب - فلم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال له : كان عبد الله جادا مجدا وكان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله ؟ فقال سالم : صدق . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : قال سالم بن عبد الله بن عمر : قالت عائشة : أنا طيبت رسول الله ﷺ وسنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع ، هكذا نص كلام سالم في الحديث ولم تتبع ما جاء عن أبيه وجده في ذلك . ورويناه أيضا : عن إبراهيم النخعي ، وابن جريج ، واستحبه سفيان الثوري أي طيب كان عند الإحرام قبل الغسل وبعده ؟ . قال أبو محمد : فهؤلاء جمهور التابعين ، وفقهاء المدينة ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد بن الحسن في أشهر قوليه ، وقول الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم . قال أبو محمد : أما عمر فقد ذكرنا آنفا إذ شم الطيب من البراء بن عازب ولم ينهه عنه أنه قد توقف - كراهيته وإنكاره - وأما عبد الله ابنه فإننا رويناه عنه من طريق وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام ؟ فقال : لا آمر به ولا أنهى عنه . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا يعقوب بن عبد الرحمن حدثني موسى بن عقبة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال : دعوت رجلا وأنا جالس بجنب أبي فأرسلته إلى عائشة أسألها عن الطيب عند الإحرام ؟ وقد علمت قولها ولكن أحببت أن يسمعه أبي فجاءني رسولي فقال : إن عائشة تقول : لا بأس بالطيب عند الإحرام فأصب ما بدا لك ؟ فصمت عبد الله بن عمر . قال علي : هذا - بأصح إسناد - بيان في أنه قد رجع عن كراهته جملة ولم ينكر استحسانه فسقط تعلقهم بعمر ، وبعبد الله بن عمر ، ولم يبق لهم إلا عثمان وحده ، وقد صح عنه رضي الله عنهم - ما سنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى - من إجازة تغطية المحرم وجهه فخالفوه فسبحان من جعل قوله حيث لم تبلغه السنة حجة ، ولم يجعل فعله حيث لا خلاف فيه للسنن حجة إن هذا لعجب . قال أبو محمد : فلما اختلفوا وجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من بيان رسول الله ﷺ فوجدنا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد الفربري نا البخاري نا محمد بن يوسف نا سفيان عن منصور عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر يدهن بالزيت ، فذكرته لإبراهيم هو النخعي - فقال : ما تصنع بقوله : حدثني الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله ﷺ وهو محرم ؟ نا أحمد بن قاسم نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا أبو إسماعيل هو محمد بن إسماعيل الترمذي - نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا عطاء بن السائب عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت : رأيت الطيب في مفرق رسول الله ﷺ بعد ثالثة وهو محرم . ورويناه أيضا من طريق علقمة ، ومسروق عن عائشة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أحمد بن منيع ، ويعقوب الدورقي قالا جميعا : نا هشيم أنا منصور هو ابن المعتمر - عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت : كنت أطيب رسول الله ﷺ قبل أن يحرم ، ويوم النحر ، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك - : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور نا سفيان نا عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه قال : قلت لعائشة : بأي شيء طيبت النبي ﷺ ؟ قالت : بأطيب الطيب عند حله وحرمه ورويناه أيضا : من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عنها . فهذه آثار متواترة متظاهرة لا يحل لأحد أن يخرج عنها ؛ رواه عن أم المؤمنين : عروة ، والقاسم ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عبد الله بن عمر ، وعمرة ، ومسروق ، وعلقمة ، والأسود . ورواه عن هؤلاء : الناس الأعلام . قال أبو محمد : فاعترض من قلد مالكا ، ومحمد بن الحسن في هذا بأن قالوا : قد رويتم من طريق أبي عمير بن النحاس عن ضمرة بن ربيعة عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : طيبت رسول الله ﷺ لإحلاله ولإحرامه طيبا لا يشبه طيبكم هذا - تعني ليس له بقاء . قال علي : هذه لفظة ليست من كلامها بلا شك بنص الحديث وإنما هو ظن ممن دونها ، والظن أكذب الحديث ؛ وقد صح عنها من طريق مسروق ، وعلقمة ، والأسود - وهم النجوم الثواقب - أنها قالت : إنها رأت الطيب في مفرقه عليه السلام بعد ثلاثة أيام ولا ضعف أضعف ممن يكذب رواية هؤلاء عنها أنها رأت بعينها برواية أبي عمير بن النحاس بظن ظنه من شاء الله تعالى أن يظنه ؛ اللهم فلا أكثر فهذا عجب عجيب . وقال بعضهم : هذا خصوص له عليه السلام قال أبو محمد : كذب قائل هذا لأن سالم بن عبد الله بن عمر روى عنها بأصح إسناد أنها طيبته عليه السلام قالت : بيدي . رويناه من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله { عن عائشة . ورويناه قبل أنهن كن يضمخن جباههن بالمسك ثم يحرمن ثم يعرقن فيسيل على وجوههن فيرى ذلك رسول الله ﷺ فلا ينكره } . ثم لو صح لهم كل هذه الظنون لكان هذا الخبر حجة عليهم لا لهم على كل حال ؛ لأن فيه أنه عليه السلام تطيب عند الإحرام بطيب ، فيقال لهم : ليكن أي طيب شاء ، هو طيب على كل حال ، وأنهم يكرهون الطيب بكل حال ، فكم هذا التمويه بما هو عليكم ؟ وتوهمون أنه لكم ، فسبحان من جعلهم يعارضون الحق البين بالظنون والتكاذيب والذي يجب أن يحمل عليه قولها " لا يشبه طيبكم هذا " إن صح عنها : على أنه أطيب من طيبنا ، لا يجوز غير هذا لقولها الذي أوردناه عنها آنفا " أنها طيبته عليه السلام بأطيب الطيب " . واعترض في ذلك من دقق منهم بما رويناه من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه سمع عائشة أم المؤمنين تقول : طيبت رسول الله ﷺ فطاف في نسائه ثم أصبح محرما . قال : فصح عنه أنه اغتسل فزال ذلك الطيب عنه . قال أبو محمد : نعوذ بالله من الهوى وما يحمل عليه من المكابرة للحق بالظن الكاذب ، ويكذب ظن هذا الظان ما رواه كل من ذكرنا قبل عن عائشة ممن لا يعدل محمد بن المنتشر بأحد منهم لو انفرد ، فكيف إذا اجتمعوا ؟ من أنها طيبته عليه السلام عند إحرامه ولإحلاله قبل أن يطوف بالبيت - وما رواه من رواه منهم من أنها رأت الطيب في مفارقه عليه السلام بعد ثالثة من إحرامه . وأيضا : فقد صح بيقين لا خلاف فيه أنه عليه السلام إنما أحرم في تلك الحجة إثر صلاة الظهر ؛ فصح أن الطيب الذي روى ابن المنتشر هو طيب آخر كان قبل ذلك بليلة طاف فيها عليه السلام على نسائه ثم أصبح كما في حديث ابن المنتشر ؛ فبطل أن يكون لهم في حديث ابن المنتشر متعلق ، وابن المنتشر كوفي ، فيا عجبا للمالكيين لا يزالون يضعفون رواية أهل الكوفة فإذا وافقتهم تركوا لها المشهور من روايات أهل المدينة ؟ فكيف وليست رواية ابن المنتشر مخالفة لرواية غيره في ذلك ؟ واحتجوا بالخبر الذي فيه { عن النبي ﷺ أنه قيل : من الحاج يا رسول الله ؟ قال : الأشعث التفل } . قال علي : وهذا رواه إبراهيم بن يزيد ، وهو ساقط لا يحتج بحديثه ، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ، لأنه لا يمكن أشعث تفلا من أول يوم ولا بعد يومين وثلاثة ؛ وإنما أبحنا له الطيب عند الإحرام ، وعند الإحلال كغسل الرأس بالخطمي حينئذ ؟ وشغب بعضهم بالخبر الثابت الذي رويناه من طريق مسلم عن علي بن خشرم أنا عيسى هو ابن يونس - عن ابن جريج أخبرني عطاء : { أن صفوان بن يعلى بن أمية أخبره : أن أباه كان مع رسول الله ﷺ بالجعرانة وعلى رسول الله ﷺ ثوب قد أظل به عليه معه ناس من أصحابه فيهم عمر إذ جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب ؟ فجاءه الوحي فذكر الخبر . وفيه أن رسول الله ﷺ قال له أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك } . وهكذا رويناه من طريق يحيى القطان عن ابن جريج نصا . قال علي : في احتجاجهم بهذا الخبر عبرة ولا حجة لهم فيه ، أما العجب فإنه كان في الجعرانة كما ذكر في الحديث وعمرة الجعرانة كانت إثر فتح مكة متصلة به في ذي القعدة ؟ لأن فتح مكة كان في شهر رمضان ، وكانت حنين متصلة به ، ثم عمرة الجعرانة منصرفه عليه السلام من حنين ؛ ثم حج تلك السنة عتاب بن أسيد ؛ ثم كان عام قابل فحج بالناس أبو بكر ؛ ثم كانت حجة الوداع في العام الثالث ؛ وكان تطيب النبي ﷺ وأزواجه ، معه في حجة الوداع بعد حديث هذا الرجل بأزيد من عامين ؛ فمن أعجب ممن يعارض آخر فعله عليه السلام بأول فعله هذا ؟ لو صح أن حديث يعلى بن أمية فيه نهي عن الطيب للمحرم ، وهذا لا يصح لهم - لما نذكره إن شاء الله تعالى . وأما كونه لا حجة لهم فيه ؛ فإن هذا الخبر رواه من هو أحفظ من ابن جريج وأجل منه فبينه كما حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن الباجي نا أحمد بن خالد نا عبيد بن محمد الكشوري نا محمد بن يوسف الحذافي نا عبد الرزاق نا ابن عيينة هو سفيان - عن عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه { أن رسول الله ﷺ لما كان بالجعرانة أتاه رجل متضمخ بخلوق وعليه مقطعات فقال : يا رسول الله إني أهللت بعمرة فكيف تأمرني ؟ وأنزل على رسول الله ﷺ فدعاني عمر فنظرت إليه فلما سري عنه قال : أين السائل ؟ ها أنا ذا يا رسول الله قال : ما كنت تصنع في حجك ؟ قال : أنزع ثيابي هذه وأغسل هذا عني ؟ قال : فاصنع في عمرتك مثل ما تصنع في حجتك } . قال علي : عمرو بن دينار من التابعين صحب جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وابن عمر ، فقد بين أن ذلك الطيب إنما كان خلوقا . وهكذا رويناه من طريق مسلم نا محمد بن رافع نا وهب بن جرير بن حازم نا أبي قال : سمعت قيسا هو ابن سعد - يحدث عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه { أن رجلا أتى النبي ﷺ وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة وهو مصفر رأسه ولحيته وعليه جبة فقال : يا رسول الله إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى ؟ فقال : انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة ، وما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك } . ومن طريق مسلم نا شيبان بن فروخ نا همام هو ابن يحيى - نا عطاء هو ابن أبي رباح - عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال : { جاء رجل إلى النبي ﷺ - وهو بالجعرانة - عليه جبة وعليه خلوق أو قال : أثر الصفرة فذكر الخبر - وفيه - : فقال له رسول الله ﷺ اغسل عنك أثر الصفرة ، أو قال : أثر الخلوق ، واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك } . فاتفق عمرو بن دينار ، وهمام بن يحيى ، وقيس بن سعد كلهم عن عطاء في هذه القصة نفسها عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أنه كان متضمخا بخلوق . وهو الصفرة نفسها ، وهو الزعفران - بلا خلاف وهو محرم على الرجال عامة في كل حال ، وعلى المحرم أيضا بخلاف سائر الطيب كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : { نهى رسول الله ﷺ أن يتزعفر الرجل } . نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا شعبة نا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : { نهى رسول الله ﷺ عن الورس والزعفران قال : فقلت : للمحرم ؟ قال : نعم } . فبطل تشغيبهم بهذا الخبر جملة لأنه إنما فيه نهي عن الصفرة لا عن سائر الطيب ، ولأنه لو كان فيه نهي عن الطيب وليس ذلك فيه لكان منسوخا بآخر فعله عليه السلام في حجة الوداع . وقال بعضهم : وجدنا المحرم منهيا عن ابتداء التطيب ، وعن ابتداء الصيد ، ثم وجدناه لو أحرم وفي يده صيد لوجب عليه إرساله فكذلك الطيب . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس فاسد ، ثم لو صح لكان من القياس باطلا لأنه لا يلزم من أحرم وفي يده صيد قد تصيده في إحلاله أن يطلقه فهو تشبيه للخطإ بالخطإ . والعجب كله من قول هذا القائل : إن من أحرم وفي يده صيد وفي قفصه في منزله صيد أنه يلزمه إطلاق الذي في يده ولا يلزمه إطلاق الذي في القفص وهذا عجب جدا - وبالله تعالى التوفيق ، وقاسه أيضا على من أحرم وعليه قميص ، وسراويل ، وعمامة ؟ قال أبو محمد : ويعارض قياسهم هذا بأنه لا يحل للمحرم أن يتزوج ؛ فإن تزوج ثم أحرم يبطل نكاحه . فإن قالوا : لا نوافق على هذا . قلنا : إنما خاطبنا بهذا من يقول به من المالكيين ، وأما أنتم فإنكم تقولون : [ إن ] المحرم ممنوع من ابتداء ذبح الصيد وأكله ، ولا تختلفون في أن من ذبح صيدا ثم أحرم فإن ملكه وأكله له حلال .