محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثانية والسبعون
كتاب الحج
862 - مسألة : ومن أدرك مع الإمام صلاة الصبح بمزدلفة من الرجال فلما سلم الإمام ذكر هذا الإنسان أنه على غير طهارة فقد بطل حجه ، لأنه لم يدرك الصلاة مع الإمام ، وقد تقدم ذكرنا لقول رسول الله ﷺ في ذلك وبالله تعالى التوفيق .
863 - مسألة : ومن قتل صيدا متصيدا له ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فقد بطل حجه أو عمرته لبطلان إحرامه وعليه الجزاء مع ذلك لقول الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } الآية ، فحرم الله تعالى عليه أن يقتل الصيد متعمدا في إحرامه فإذا فعل فلم يحرم كما أمر ؛ لأن الله تعالى إنما أمره بإحرام ليس فيه تعمد قتل صيد ، وهذا الإحرام هو بلا شك غير الإحرام الذي فيه تعمد قتل الصيد فلم يأت بالإحرام الذي أمره الله تعالى به . وأيضا فإن الله تعالى قال : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } ولا خلاف في أن تعمد قتل الصيد في الإحرام فسوق ، ومن فسق في حجه فلم يحج كما أمر ، ومن لم يحج كما أمر فلم يحج - : روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إبراهيم بن الحجاج نا عبد الوارث بن سعيد التنوري عن الليث عن مجاهد قال : من قتل صيدا متعمدا فقد بطل حجه وعليه الهدي - واعترض بعضهم بأن قال : إن الله تعالى يقول : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فسماهم : حرما ؟ قال أبو محمد : وهذا إقدام منهم عظيم على تقويل الله تعالى ما لم يقله قط ، وإنما سماهم الله تعالى : حرما ، قبل قتل الصيد ، ونهاهم إذا كانوا حرما عن قتل الصيد ، وما سماهم تعالى قط بعد قتل الصيد : حرما فأف لكل عصبية لمذهب تحدو إلى الكذب على الله تعالى جهارا . وقد قال تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فأثبت الحج ونهى فيه عن الرفث فيلزمهم على هذا أن لا يبطلوا الحج بالجماع الذي هو الرفث ، وهذه كالتي قبلها ولا فرق : وإنما جعلهم تعالى في الحج ما لم يرفثوا ولا فسقوا . وقال بعضهم : قد أوجب عليه السلام في الضبع كبشا ولم يخبر بأن إحرامه بطل ؟ قلنا لهم : قلتم الباطل ، بل قد أخبر عليه السلام بأن إحرامه قد بطل بقوله عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . وأيضا : فلم يقل عليه السلام قط : إن إحرامه لم يبطل ؛ ولا دل دليل على ذلك أصلا - وبالله تعالى التوفيق .
864 - مسألة : قال أبو محمد : وكل فسوق تعمده المحرم ذاكرا لإحرامه فقد بطل إحرامه ، وحجه ، وعمرته ، لقول الله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فصح أن من تعمد الفسوق ذاكرا لحجه ، أو عمرته ، فلم يحج كما أمر ، وقد أخبر عليه السلام : { أن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة } . وقال عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . ومن عجائب الدنيا : أن الآية وردت كما تلونا فأبطلوا الحج بالرفث ولم يبطلوه بالفسوق ؛ وأعجب من هذا : أن أبا حنيفة قال : من وطئ في إحرامه - ناسيا غير عامد ولا ذاكر لأنه محرم - امرأته التي أباح الله تعالى له وطأها قبل الإحرام أو بعده فقد بطل حجه ؛ فلو تعمد اللياطة بذكر ، أو أن يلاط به ذاكرا لإحرامه فحجه تام وإحرامه مبرور - فأف لهذا القول عدد الرمل ، والحصى ، والتراب ؟ فإن قالوا : إنما يبطل إحرامه بأن يأتي ما حرم في حال الإحرام فقط ، لا بما هو حرام قبل الإحرام ، وفي الإحرام وبعد الإحرام ؟ قلنا : وعن هذا التقسيم الفاسد سألناكم ؟ ولا حجة لكم فيه ، وأنتم تبطلون الصلاة بكل عمل محرم ، قبلها ، وفيها ، وبعدها ، كما تبطلونها بما حرم فيها فقط . وقد نقضتم هذا الأصل الفاسد فلم تبطلوا الإحرام بتعمد لباس ما حرم فيه مما هو حلال قبله وبعده ، فقد أبطلتم هذا التقسيم الفاسد فأين القياس الذي تنتسبون إليه بزعمكم ؟ والله تعالى قد أكد الحج وخصه بتحريم الفسوق فيه ، كما خصه بتحريم الرفث فيه ولا فرق ؟ أخبرنا محمد بن الحسن بن عبد الوارث الرازي نا عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن النحاس بمصر نا أبو سعيد بن الأعرابي نا عبيد بن غنام بن حفص بن غياث النخعي نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أحمد بن بشر عن عبد السلام بن عبد الله بن جابر الأحمسي عن أبيه عن زينب بنت جابر الأحمسية { أن رسول الله ﷺ قال لها في امرأة حجت معها مصمتة : قولي لها : تتكلم فإنه لا حج لمن لم يتكلم } . وقد ذكرنا رواية أحمد بن شعيب عن نوح بن حبيب القومسي { أن رسول الله ﷺ . أمر الذي أحرم في جبة أن يجدد إحراما } . قال أبو محمد : ولا سبيل لهم إلى أن يوجدوا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أن الفسوق لا يبطل الإحرام ؛ وأما من فسق غير ذاكر لإحرامه فإنه لا يبطل بذلك إحرامه ؛ لأنه لم يقصد إبطاله ولا أتى بإحرامه بخلاف ما أمر به عامدا - وبالله تعالى التوفيق .
865 - مسألة : والجدال قسمان : قسم في واجب وحق ، وقسم في باطل ؛ فالذي في الحق واجب في الإحرام وغير الإحرام قال تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } . ومن جادل في طلب حق له فقد دعا إلى سبيل ربه تعالى ، وسعى في إظهار الحق والمنع من الباطل ، وهكذا كل من جادل في حق لغيره أو لله تعالى . والجدل بالباطل وفي الباطل عمدا ذاكرا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج لقوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وبالله تعالى التوفيق .
866 - مسألة : ومن لم يلب في شيء من حجه أو عمرته بطل حجه وعمرته فإن لبى ولو مرة واحدة أجزأه ، والاستكثار أفضل ؛ فلو لبى ولم يرفع صوته فلا حج له ولا عمرة لأمر جبريل رسول الله ﷺ عن الله عز وجل بأن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فمن لم يلب أصلا أو لبى ولم يرفع صوته وهو قادر على ذلك فلم يحج ولا اعتمر كما أمره الله تعالى ، وقد قال عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ولو أنهم رضي الله عنهم إذ أمرهم عليه السلام برفع أصواتهم بالتلبية أبوا لكانوا عصاة بلا شك ، والمعصية فسوق بلا خلاف ، وقد أعاذهم الله عز وجل من ذلك قال تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وقد بينا أن الفسوق يبطل الحج - وبالله تعالى التوفيق . ومن لبى مرة واحدة رافعا صوته فقد لبى كما أمره الله تعالى ووقع عليه اسم : ملب وعلى فعله اسم : التلبية ، فقد أدى ما عليه ، ومن أدى ما عليه لم يلزمه فرضا أن يؤدي ما ليس عليه ، والفرائض لا تكون إلا محدودة ليعلم الناس ما يلزمهم منها ، وما لا حد له فليس فرضا عليه - وبالله تعالى التوفيق ؛ لأن في إلزامه تكليف ما لا يطاق - وقد أمننا الله تعالى من ذلك .
867 - مسألة : وجائز للمحرمين من الرجال والنساء أن يتظللوا في المحامل وإذا نزلوا - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابنا . وقال مالك : يتظللون إذا نزلوا ولا يتظللون في المحامل ولا ركابا ، وهذا تقسيم لا دليل على صحته فهو خطأ . فإن قيل : قد نهى عن ذلك ابن عمر ؟ قلنا : نعم ، ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد صح عن عمر من قدم ثقله من منى فلا حج له ، فما الذي جعل قول ابن عمر في النهي عن التظلل حجة ولم يجعل قول أبيه في النهي عن تقدم الثقل من منى وتشدده في ذلك حجة ؟ وقد صح عن ابن عمر فيمن أفطر في نهار رمضان ناسيا أن صيامه تام ولا قضاء عليه . وصح عنه إباحة تقريد البعير للمحرم . وصح عن ابن عمر من وطئ قبل أن يطوف طواف الإفاضة بطل حجه ولا مخالف له من الصحابة في شيء مما ذكرنا إلا ابن عباس فإنه رأى حج من وطئ بعد الوقوف بعرفة تاما فخالفوه ؛ فما الذي جعل قول ابن عمر في بعض المواضع حجة ، وفي بعضها ليس حجة ؟ روينا من طريق مسلم نا سلمة بن شبيب نا الحسن بن أعين نا معقل عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين قال : سمعت جدتي أم الحصين تقول { حججت مع رسول الله ﷺ حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة انصرف وهو على راحلته ، ومعه بلال ، وأسامة ، أحدهما يقود راحلته ، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله ﷺ من الشمس } . ومن طريق مسلم حدثني أحمد بن حنبل نا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت { حججت مع رسول الله ﷺ حجة الوداع فرأيت أسامة ، وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله ﷺ والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة } . فهذا هو الحجة لا ما سواه ، وقد خالف ابن عمر في هذا القول بلالا وأسامة - وهو قول عطاء ، والأسود ، وغيرهما .
868 - مسألة : والكلام مع الناس في الطواف جائز ، وذكر الله أفضل ؛ لأن النص لم يأت بمنع من ذلك ، وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فما لم يفصل تحريمه فهو حلال - وبالله تعالى التوفيق .
869 - مسألة : ولا يحل لرجل ، ولا لامرأة ، أن يتزوج أو تتزوج ، ولا أن يزوج الرجل غيره من وليته ، ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ويدخل وقت - رمي جمرة العقبة ، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور ، كان فيه دخول وطول مدة وولادة ، أو لم يكن ؛ فإذا دخل الوقت المذكور حل لهما النكاح والإنكاح ؛ وله أن يراجع زوجته المطلقة ما دامت في العدة فقط ، ولها أن يراجعها زوجها كذلك أيضا ما دامت في العدة ؛ وله أن يبتاع الجواري للوطء ولا يطأ - : روينا من طريق مالك عن نافع عن نبيه بن وهب : أن أبان بن عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : قال رسول الله ﷺ : { لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب } وهذا لفظ يقتضي كل ما قلناه . والمحرم اسم يقع على الجنس ويعم الرجال والنساء ، ومراجعة المرأة [ المطلقة ] في عدتها لا يسمى نكاحا ؛ لأنها امرأته ، كما كانت ترثه ويرثها وتلزمه نفقتها وإسكانها ، ولا صداق في ذلك ، ولا يراعى إذنها ، ولا حكم للولي في ذلك ، وأما بعد انقضاء العدة فهو نكاح لا مراجعة ، ولا يكون إلا برضاهما وبصداق وولي . وابتياع الجواري للوطء لا يسمى نكاحا ، وإنما حرم الله تعالى ما ذكرنا من النكاح والإنكاح والخطبة على المحرم . والمحرم هو الذي يحرم عليه لباس القمص ، والعمائم ، والبرانس ، وحلق رأسه إلا لضرورة بالنص والإجماع ؛ فإذا صار في حال يجوز له كل ذلك فليس محرما بلا شك ، فقد تم إحرامه ، وإذا لم يكن محرما حل له النكاح والإنكاح والخطبة . وبدخول وقت رمي الجمرة يحل له كل ما ذكرنا ، رمى أو لم يرم ، على ما ذكرنا قبل من إباحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقديم الحلق على - الرمي . فإن نكح المحرم أو المحرمة فسخ ، لقول رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وكذلك إن أنكح من لا نكاح لها إلا بإنكاحه فهو نكاح مفسوخ لما ذكرنا ؛ ولفساد الإنكاح الذي لا يصح النكاح إلا به ، ولا صحة لما لا يصح إلا بما يصح . وأما الخطبة فإن خطب فهو عاص ولا يفسد النكاح ؛ لأن الخطبة لا متعلق لها بالنكاح ، وقد يخطب ولا يتم النكاح إذا رد الخاطب ، وقد يتم نكاح بلا خطبة أصلا ، لكن بأن يقول لها : انكحيني نفسك ؟ فتقول : نعم قد فعلت ، ويقول هو : قد رضيت ويأذن الولي في ذلك وبالله تعالى التوفيق . واختلف السلف في هذا فأجاز نكاح المحرم طائفة صح ذلك عن ابن عباس ، وروي عن ابن مسعود ، ومعاذ - وقال به عطاء ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي . وبه يقول أبو حنيفة ، وسفيان ، وصح عن عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت فسخ نكاح المحرم إذا نكح . وصح عن ابن عمر من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عنه قال : المحرم لا ينكح ولا ينكح لا يخطب على نفسه ولا على من سواه . وروينا عن علي بن أبي طالب لا يجوز نكاح المحرم إن نكح نزعنا منه امرأته ؛ وهو قول سعيد بن المسيب - وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهم . واحتج من رأى نكاحه جائزا بما رويناه من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس قال { تزوج رسول الله ﷺ وهو محرم } . وبما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن مجاهد عن ابن عباس قال { إن رسول الله ﷺ تزوج ميمونة وهما محرمان } وكذلك رويناه أيضا من طريق جابر بن زيد ، وعكرمة عن ابن عباس . قال علي : فعارضهم الآخرون بأن ذكروا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة نا حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن زيد بن الأصم ابن أخت ميمونة أم المؤمنين { عن ميمونة أم المؤمنين قالت : تزوجني رسول الله ﷺ ونحن حلالان بسرف } . قال أبو محمد : فقال من أجاز نكاح المحرم : لا يعدل يزيد بن الأصم أعرابي بوال على عقبيه بعبد الله بن عباس - وقالوا : قد يخفى على ميمونة كون رسول الله ﷺ محرما ، فالمخبر عن كونه عليه السلام محرما زائد علما ؛ وقالوا : خبر ابن عباس وارد بحكم زائد فهو أولى ؛ وقالوا في خبر عثمان { لا ينكح المحرم ولا ينكح } : إنما معناه لا يوطئ غيره ولا يطأ ؛ ثم اعترضوا بوساوس من القياس عورضوا بمثلها لا فائدة في ذكرها ؛ لأنها حماقات ؟ قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به وكله ليس بشيء ؛ أما تأويلهم في خبر عثمان رضي الله عنه أن معناه لا يطأ ولا يوطئ : فباطل وتخصيص للخبر بالدعوى الكاذبة على رسول الله ﷺ إذ صرفوا كلامه عليه السلام إلى بعض ما يقتضيه دون بعض وهذا لا يجوز ، قال تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه } . ويبين ضلال هذا التأويل قوله عليه السلام { ولا يخطب } فصح أنه عليه السلام أراد النكاح الذي هو العقد ؛ ولا يجوز أن يخص هذا اللفظ بلا نص بين . وأما ترجيحهم خبر ابن عباس على خبر ميمونة بقولهم : لا يقرن يزيد إلى ابن عباس فنعم والله لا نقرنه إليه ولا كرامة ، وهذا تمويه منهم إنما روى يزيد عن ميمونة ، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس ، فليسمعوا الآن إلى الحق - : نحن نقول : لا نقرن ابن عباس صبيا من صبيان أصحاب رسول الله ﷺ إلى ميمونة المتكئة مع رسول الله ﷺ على فراش واحد في الرفيق الأعلى ، القديمة الإسلام والصحبة ، ولكن نقرن يزيد بن الأصم إلى أصحاب ابن عباس ، ولا يقطع بفضلهم عليه . وأما قولهم : قد يخفى على ميمونة إحرام رسول الله ﷺ إذ تزوجها فكلام سخيف ، ويعارضون بأن يقال لهم : قد يخفى على ابن عباس إحلال رسول الله ﷺ من إحرامه ، فالمخبرة عن كونه قد أحل زائدة علما ؛ فحصلنا على : قد يخفى وقد لا يخفى ؟ وأما قولهم : خبر ابن عباس وارد بحكم زائد فليس كذلك ، بل خبر عثمان هو الوارد بالحكم الزائد على ما نبين إن شاء الله تعالى ؛ فبطل كل ما شغبوا به ، فبقي أن نرجح خبر عثمان ، وخبر ميمونة على خبر ابن عباس رضي الله عنهم جميعهم . فنقول وبالله تعالى التوفيق - : خبر يزيد عن ميمونة هو الحق ، وقول ابن عباس وهم منه بلا شك لوجوه بينة - : أولها : أنها رضي الله عنها أعلم بنفسها من ابن عباس لاختصاصها بتلك القصة دونه ؛ هذا ما لا يشك فيه أحد . وثانيها : أنها رضي الله عنها كانت حينئذ امرأة كاملة وكان ابن عباس رضي الله عنه يومئذ ابن عشرة أعوام وأشهر فبين الضبطين فرق لا يخفى . والثالث : أنه عليه السلام إنما تزوجها في عمرة القضاء ، هذا ما لا يختلف فيه اثنان ومكة يومئذ دار حرب ، وإنما هادنهم عليه السلام على أن يدخلها معتمرا ويبقى بها ثلاثة أيام فقط ثم يخرج ، فأتى من المدينة محرما بعمرة ولم يقدم شيئا ، إذ دخل على الطواف والسعي وتم إحرامه في الوقت ، ولم يختلف أحد في أنه إنما تزوجها بمكة حاضرا بها لا بالمدينة . فصح أنه بلا شك إنما تزوجها بعد تمام إحرامه لا في حال طوافه وسعيه فارتفع الإشكال جملة ، وبقي خبر ميمونة ، وخبر عثمان ، لا معارض لهما والحمد لله رب العالمين . ثم لو صح خبر ابن عباس بيقين ولم يصح خبر ميمونة لكان خبر عثمان هو الزائد الوارد بحكم لا يحل خلافه ، لأن النكاح مذ أباحه الله تعالى حلال في كل حال للصائم ، والمحرم ، والمجاهد ، والمعتكف ، وغيرهم ، هذا ما لا شك فيه . ثم لما أمر عليه السلام بأن لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب كان ذلك بلا شك ناسخا للحال المتقدمة من الإباحة ، لا يمكن غير هذا أصلا ، وكان يكون خبر ابن عباس منسوخا بلا شك لموافقته للحالة المنسوخة بيقين . ومن ادعى في حكم قد صح نسخه وبطلانه أنه قد عاد حكمه وبطل نسخه فقد كذب أو قطع بالظن إن لم يحقق ذلك ، وكلاهما لا يحل القول به ، ولا يجوز ترك اليقين للظنون . قال أبو محمد : وقالوا : لما حل له شراء جارية للوطء ولا يطأ : حل له نكاح زوجة للوطء ولا يطأ ؟ فقلنا لهم : لو استعملتم هذا في قولكم : لا يكون صداق يستباح به الفرج أقل من عشرة دراهم ، فهلا قلتم : كما حل له استباحة فرج جارية محرمة بأن يبتاعها بدرهم حل له فرج زوجة محرمة بأن يصدقها درهما ؟ والقياسات لا يعارض بها الحق ؛ لأن القياس كله باطل . وقالوا : كما جاز له أن يراجع المطلقة في عدتها جاز له ابتداء النكاح ؟ فقلنا : هذا باطل ؛ لأنه لو كان قياس النكاح على المراجعة حقا لوجب أن يقولوا : كما جازت المراجعة بغير إذنها ولا إذن وليها ، وبغير صداق : وجب أن يجوز النكاح بغير إذنها ولا إذن وليها وبغير صداق ، وهم لا يقولونه ، وهذه صفة قياساتهم السخيفة ؟ وأما المالكيون فإنهم أجازوا نكاح الموهوبة إذا ذكر فيه صداق ، ومنعوا من نكاح المحرم ، وهم لا يزالون يقولون في الأوامر : هذا ندب . كقولهم في قوله عليه السلام { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يتوضأ منه } إنما هو ندب . فهلا قالوا : هاهنا في قوله عليه السلام : { لا ينكح المحرم ولا ينكح } : هذا ندب ؟ ولكنهم إنما يجرون على ما سنح - وبالله تعالى التوفيق .
870 - مسألة : ويستحب الإكثار من شرب ماء زمزم ، وأن يستقي بيده منها ، وأن يشرب من نبيذ السقاية - : لما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن راهويه عن حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله فذكر حديث حجة النبي ﷺ قال : { ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض بالبيت فصلى بمكة الظهر وأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه } . ومن طريق مسلم نا محمد بن المنهال الضرير نا يزيد بن زريع عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني أنه سمع ابن عباس يقول : { قدم النبي ﷺ على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال : أحسنتم وأجملتم هكذا فاصنعوا ، قال ابن عباس : فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله ﷺ } . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر وسفيان بن عيينة { عن عبد الله بن طاوس عن أبيه فذكر أمر شرب النبي ﷺ من ماء زمزم ومن شراب سقاية العباس النبيذ المذكور فقال طاوس : هو من تمام الحج } . قال أبو محمد : قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } .
871 - مسألة : ومن فاتته الصلاة مع الإمام بعرفة أو مزدلفة في المغرب والعشاء ففرض عليه أن يجمع بينهما كما لو صلاهما مع الإمام بعرفة . فلو أدرك الإمام في العصر لزمه أن يدخل معه وينوي بها الظهر ولا بد ، لا يجزيه غير ذلك . فإذا سلم الإمام أتم صلاته إن كان بقي عليه منها شيء ، ثم صلى العصر إن أمكنه في جماعة وإلا فوحده . وكذلك لو وجد الإمام بمزدلفة في العشاء الآخرة فليدخل معه ولينو بها المغرب ولا بد ، لا يجزئه غير ذلك . أما الجمع فإنه حكم هذه الصلوات هنالك في ذلك اليوم ، وتلك الليلة بالنص ، والإجماع فلا يجوز له خلاف ذلك . وأما تقديم الظهر والمغرب فلأنهما قبل العصر والعتمة ولا يحل تقديم مؤخرة منهما ولا تأخير مقدمة ، وقد ذكرنا في كتاب الصلاة جواز اختلاف نية الإمام والمأموم . فإن أدركها من أولها فليقعد في الثالثة ولا يقم حتى يقع الإمام ، فإذا سلم الإمام سلم معه ، وإن أدرك معه ثلاث ركعات فليقم في الثانية بقيام الإمام ولا بد ، وليقعد في الأولى بقعوده وليسلم بسلامه . أما قعوده في الثالثة ، فلأنه لو قام لصلى المغرب أربعا عامدا ، وهذا حرام وفساد للصلاة وكفر ممن دان به . وأما إن أدرك ثلاثا فقط فقعوده في الأولى لقول النبي ﷺ { إنما جعل الإمام ليؤتم به } ولا خلاف في نص ولا بين الأمة في أن المأموم إن وجد الإمام جالسا جلس معه ، وكذلك من أدرك ركعة من أي الصلوات كانت فإنه يجلس ولو كان منفردا أو إماما لقام . وأما قيامه من الثانية ، فللنص الوارد والإجماع في أن الإمام إن قام من اثنتين ساهيا ففرض على المأمومين اتباعه في ذلك . هذا كله إن أتم الإمام أو كان المأموم ممن يتم وإلا فلا . فإذا أتم صلاة المغرب صلى العتمة في جماعة أو وحده إن لم يجد جماعة وبالله تعالى التوفيق .
872 - مسألة : ومن كان في طواف فرض أو تطوع فأقيمت الصلاة أو عرضت له صلاة جنازة ، أو عرض له بول ، أو حاجة ، فليصل وليخرج لحاجته ، ثم ليبن على طوافه ويتمه . وكذلك من عرض له شيء مما ذكرنا في سعيه بين الصفا والمروة ولا فرق - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي . وقال مالك : أما في الطواف الواجب فيبتدئ ولا بد إلا في الصلاة المكتوبة فقط ، فإنه يصليها ثم يبني ؛ وأما في طواف التطوع فيبني في كل ذلك . قال أبو محمد : هذا تقسيم لا برهان على صحته أصلا ، ولم يأت نص ولا إجماع على وجوب ابتداء الطواف والسعي إن قطع لحاجة ، ولا بإبطال ما طاف من أشواطه وسعى ، وقد قال الله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } وإنما افترض الطواف والسعي سبعا ، ولم يأت نص بوجوب اتصاله وإنما هو عمل من النبي ﷺ فقط ، وأما من فعل ذلك عبثا فلا عمل لعابث ولا يجزئه - : نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل الحميري نا سفيان الثوري نا جميل بن زيد قال : رأيت ابن عمر طاف في يوم حار ثلاثة أطواف ، ثم أصابه حر فدخل الحجر فجلس ، ثم خرج فبنى على ما كان طاف . وعن عطاء : لا بأس بأن يجلس الإنسان في الطواف ليستريح وفيمن عرضت له حاجة في طوافه ليذهب وليقض حاجته ، ثم يبني على ما كان طاف - وبالله تعالى التوفيق .