محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الرابعة والخمسون
كتاب الحج
815 - مسألة : واستطاعة السبيل الذي يجب به الحج إما صحة الجسم والطاقة على المشي والتكسب من عمل أو تجارة ما يبلغ به إلى الحج ويرجع إلى موضع عيشه أو أهله ، وإما مال يمكنه من ركوب البحر أو البر - والعيش منه حتى يبلغ مكة ويرده - إلى موضع عيشه أو أهله وإن لم يكن صحيح الجسم إلا أنه لا مشقة عليه في السفر برا أو بحرا ؛ وإما أن يكون له من يطيعه فيحج عنه ويعتمر بأجرة أو بغير أجرة إن كان هو لا يقدر على النهوض لا راكبا ولا راجلا ؛ فأي هذه الوجوه أمكنت الإنسان المسلم العاقل البالغ ؟ فالحج والعمرة فرض عليه ، ومن عجز عن جميعها فلا حج عليه ولا عمرة . وقال قوم : الاستطاعة زاد وراحلة . وقال مالك : الاستطاعة قوة الجسم أو القوة بالمال على الحج بنفسه ، ولم ير وجود من يطيعه استطاعة ولا أوجب بذلك حجا . وروي عن أبي حنيفة أن المقعد من رجليه وإن كان له مال واسع وهو قادر على الثبات على الراحلة فلا حج عليه ، وكذلك الأعمى - وقد روي عنه أن عليه الحج وعلى الأعمى . ورأى الشافعي : أن الاستطاعة إنما هي بمال يحج به أو من يطيعه فيحج عنه فقط ، ولم ير قوة الجسم والقدرة على الراحلة استطاعة ؛ وحجة من قال : الاستطاعة زاد وراحلة بآثار رويناها - : منها : عن وكيع عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر { عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن الاستطاعة فقال : الزاد والراحلة ؟ فقيل : يا رسول الله فما الحج ؟ قال : الأشعث التفل } . ومن طريق حماد بن سلمة : أنا قتادة ، وحميد عن الحسن { أن رجلا قال : يا رسول الله ما السبيل إليه ؟ قال : زاد وراحلة } . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق عن مسلم بن إبراهيم نا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي نا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي عن النبي ﷺ { من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله - عز وجل - فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا ، أو نصرانيا ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } } . وقالوا : لما قال الله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } علمنا أنها استطاعة غير القوة بالجسم ؛ إذ لو كان تعالى أراد قوة الجسم لما احتاج إلى ذكرها ؛ لأننا قد علمنا أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وقالوا : قال الله تعالى : { إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } فصح أن الرحلة شق الأنفس بالضرورة ولا يكلفنا الله تعالى ذلك لقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . وذكروا ما روينا من طريق عطاء الخراساني عن عمر بن الخطاب أنه قال في استطاعة السبيل إلى الحج : زاد وراحلة . ومن طريق الضحاك عن ابن عباس في ذلك أيضا : زاد ، وبعير : ومن طريق إسرائيل عن الحسن عن أنس { من استطاع إليه سبيلا } قال : زاد ، وراحلة . ومن طريق إسرائيل عن مجاهد عن ابن عمر قال : { من استطاع إليه سبيلا } قال : ملء بطنه ، وراحلة يركبها - وهو قول الضحاك بن مزاحم ، والحسن البصري ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وأيوب السختياني وأحد قولي عطاء . قال أبو محمد : فادعوا في هذا أنه قول طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف وليس كما قالوا أصلا ؛ لأننا قد روينا عن وكيع وغيره عن عمران بن حدير عن النزال بن عمار عن ابن عباس قال : " من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء " . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال ، في الحج : سبيله من وجد له سعة ، ولم يحل بينه وبينه - وهذا هو قولنا . ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن خالد بن أبي كريمة عن ابن الزبير قال : { من استطاع إليه سبيلا } قال : على قدر القوة - وهو أحد قولي عطاء . قال علي : أما احتجاجهم بأن الاستطاعة لو كانت على العموم لما كان لذكرها معنى فكلام فاسد ، واعتراض على الله تعالى ، وإخراج للقرآن عن ظاهره بلا برهان . ثم لو صح هذا لكان حجة عليهم ؛ لأن رسول الله ﷺ أوجب الحج على من لا يستطيعه بجسمه ، ولا بماله - إذا وجد من يحج عنه - كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ؛ فكان ذلك داخلا في الاستطاعة ببيان رسول الله ﷺ . وأما قولهم : إن الرحلة من شق الأنفس والحرج ، والله تعالى لا يكلف ذلك عباده ، فصحيح ولم نقل نحن : إن من كانت الرحلة تشق عليه - وعليه فيها حرج - أن الحج يلزمه : بل الحج عمن هذه صفته ساقط كما قالوا ؛ وإنما قلنا : إن من يسهل عليه المشي وهو لو كانت له في دنياه حاجة لاستسهل المشي إليها - فالحج يلزمه ؛ لأنه مستطيع ؟ وأما الأخبار التي ذكروا - : فإن في أحدها - : إبراهيم بن يزيد وهو ساقط مطرح ؛ وفي الثاني : الحارث الأعور وهو مذكور بالكذب ، وحديث الحسن مرسل ولا حجة في مرسل والعجب من مالك ، والشافعي ، في هذه المسألة ؛ فإن المالكيين يقولون : المرسل ، والمسند سواء لا سيما مرسل الحسن فإنهم ادعوا أنه كان لا يرسل الحديث إلا إذا حدثه به أربعة من الصحابة فصاعدا ؛ ثم خالفوا هاهنا أحسن مراسيل الحسن ؛ والشافعيون لا يقولون : إلا بالمسند الصحيح وأخذوا هاهنا بالساقط ، والمرسل . وأما الروايات في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم فواهية كلها ؛ لأنها إما من طريق عطاء الخراساني مرسلة ، وإما من طريق إسرائيل ، وإما من طريق رجل لم يسم ، وأحسنها الرواية عن ابن عباس الموافقة لقولنا ، وأما الرواية الأخرى عنه في الثلاثمائة درهم ، إلا أن هذا مما خالف فيه المالكيون جمهور العلماء وهم يعظمون ذلك . والحنفيون يبطلون السنن الصحاح - : كنفي الزاني ، وحديث لا تحرم المصة ولا المصتان ، وحديث رضاع سالم ، وغيرها ؛ لزعمهم : أنها زائدة على ما في القرآن ، أو مخالفة له ، وأخذوا هاهنا بأخبار ساقطة لا يحل الأخذ بها مخصصة للقرآن مخالفة له ، ثم خالفوها مع ذلك في تخصيصهم المقعد . وأطرف شيء احتجاجهم في تخصيص المقعد بقول الله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } وهم يقولون : إن الأعرج يلزمه الحج إذا وجد زادا وراحلة وقدر على الركوب ، وكذلك الأعمى ؛ فخالفوا ما في الآية وحكموا بها فيما ليس فيها منه شيء ؟ قال علي : فلما بطل كل ما شغبوا به وجب طلب البرهان من القرآن والسنة الصحيحة فوجدنا الله تعالى قال : { من استطاع إليه سبيلا } فكان هذا عموما لكل استطاعة بمال أو جسم هذا الذي يوجبه لفظ الآية ضرورة ، ولم يجز أن يخص من ذلك مقعد ولا أعمى ولا أعرج إذا كانوا مستطيعين الركوب ومعهم سعة ، وليس هذا من الحرج الذي أسقطه الله تعالى عنهم ؛ لأنه لا حرج فيه عليهم . وأيضا : فإن هذه الآية بنص القرآن إنما نزلت في الجهاد ، وهو الذي يحتاج فيه إلى الشد والتحفظ والجري ، وكل ذلك حرج ظاهر على الأعرج والأعمى ؛ وأما الحج فليس فيه شيء من ذلك أصلا . وبقي من لا مال له ولا قوة جسم إلا أنه يجد من يحج عنه بلا أجرة أو بأجرة يقدر عليها ؛ فوجدنا اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله تعالى في كل ما ألزمنا إياه لا خلاف بين أحد من أهلها في أنه يقال : الخليفة مستطيع لفتح بلد كذا ، ولنصب المنجنيق عليه - وإن كان مريضا مثبتا - لأنه مستطيع لذلك بأمره وطاعة الناس له ، وكان ذلك داخلا في نص الآية . ووجدنا من السنن - : ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا علي بن خشرم عن عيسى بن يونس عن ابن جريج عن ابن شهاب نا سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل بن عباس : { أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله ﷺ إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله تعالى في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره فقال لها النبي ﷺ : حجي عنه } . ورويناه ( أيضا ) من طريق البخاري عن عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس ( * ) أن الخثعمية قالت لرسول الله { إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم ، وذلك في حجة الوداع } . ونا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا يزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين عن عبيد الله بن العباس قال : { كنت رديف رسول الله ﷺ فأتاه رجل فقال : يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة إن حزمها خشي أن يقتلها وإن لم يحزمها لم تستمسك ؟ فأمره عليه السلام أن يحج عنها } : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - نا وكيع بن الجراح نا شعبة عن النعمان هو ابن سالم - عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه قال { يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة والظعن ؟ فقال له رسول الله ﷺ : حج عن أبيك واعتمر } . رويناه أيضا : من طريق ابن الزبير عن رسول الله ﷺ وهذه أخبار متظاهرة متواترة من طرق صحاح عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم : الفضل ، وعبد الله ، وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب - وابن الزبير ، وأبو رزين العقيلي . /126 L473 ويزيد بن إبراهيم المذكور هو أبو سعيد التستري بصري /126 - كان ينزل بأهله عند مقبرة بني سهم مات سنة ( 161 هـ ) إحدى وستين ومائة ، وقيل : بل في المحرم سنة 162 هـ اثنتين وستين ومائة ثقة ثبت ، وثقه أبو الوليد الطيالسي ، وعبد الله بن نمير ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وعمرو بن علي ، وأحمد بن صالح ، والنسائي وليس هو يزيد بن إبراهيم الذي يروي عن قتادة ، ذلك ليس بالقوي . فبين في هذه الأخبار أن من لم يكن قط صحيحا فإن فريضة الحج لازمة له إذا وجد من يحج عنه ؛ لأنه عليه السلام سمع قول المرأة عن أبيها : { إن فريضة الله تعالى أدركته وهو شيخ كبير لا يستطيع الثبات على الراحلة } ، فلم ينكر ذلك عليها ، ولا على أبي رزين مثل ذلك في أبيه ؛ فصح أن الفرض باق على هذين إذا وجدا من يحج عنهما . وقال الشافعي : إنما يلزمه ذلك إذا كان له زاد وراحلة - وهذا خطأ لأنه ليس في حديث أبي رزين : أنه كانت له راحلة ، ولا في حديث عبيد الله بن العباس أيضا ؛ فهذه زيادة فاسدة . فإن قيل : إنما جاءت هذه الأحاديث في شيخ كبير ، وعجوز كبيرة ، فمن أين تعديتم ما فيها إلى كل من لا يستطيع الحركة بزمانة ، أو مرض ولم يكن شيخا كبيرا ؟ قلنا : ليس كل شيخ كبير تكون هذه صفته وإنما يكون بهذه الصفة من غلبه الضعف ، فإنما أمر عليه السلام بذلك فيمن لا يستطيع ثباتا على الدابة وليس للشيخ هنالك معنى أصلا . وأيضا : فإنه ليس للشيخ حد محدود إذا بلغه المرء سمي : شيخا ، ولم يسم : شيخا ، حتى يبلغه ؛ ودين الله تعالى لا يتسامح فيه ولا يؤخذ بالظنون الكاذبة المفتراة المشروع بها ما لم يأذن به الله تعالى ، ولو كان للشيخ في ذلك حكم لبين رسول الله ﷺ حده الذي به ينتقل حكمه إلى أن يحج عنه كما أثبت ذلك فيمن لا يستطيع الثبات على الراحلة ، ولا المشي إلى الحج ؛ فصح أنه ليس للشيخ في ذلك حكم أصلا ، وإنما الحكم للعجز عن الركوب والمشي فقط - وبالله تعالى التوفيق - فكان هذا استطاعة للسبيل مضافة إلى القوة بالجسم وبالمال . قال أبو محمد : فتعلل قوم في هذه الآثار بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس : { أن رجلا سأل رسول الله ﷺ أأحج عن أبي ؟ قال : نعم ، إن لم تزده خيرا لم تزده شرا } . قالوا : فهذا دليل على أنه ندب لا فرض . قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه أن أباه كان ميتا ، ولا أنه كان عاجزا عن الركوب والمشي ولا أنه كان حج الفريضة ؛ بل إنما هو سؤال مطلق عن الحج عن غيره ممن هو ممكن أن يكون قد حج عن نفسه ، أو أنه قادر على الحج ؛ فأجابه عليه السلام بإباحة ذلك ؛ وإنما في هذا الخبر جواز الحج عن كل أحد ولا مزيد ، وهو قولنا . وأما تلك الأحاديث ففيها بيان أنها في الحج الفرض ؛ وأيضا : فليس قوله عليه السلام : { إن لم تزده خيرا لم تزده شرا } بمخرج لذلك عن الفرض إلى التطوع ؛ لأن هذه صفة كل عمل مفترض أو تطوع إن لم يتقبل من المرء فإنه على كل حال لا يكتب له به سيئة ؛ فبطل اعتراضهم بهذا الخبر ؟ وقالوا : قال الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } . قال علي : هذه سورة مكية بلا خلاف ، وهذه الأحاديث كانت في حجة الوداع ، فصح أن الله تعالى بعد أن لم يجعل للإنسان إلا ما سعى تفضل على عباده وجعل لهم ما سعى فيه غيرهم عنهم بهذه النصوص الثابتة . وقال بعضهم : قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } . قال علي : إذا أمر الله تعالى أن تزر وازرة وزر أخرى لزم ذلك ، وكان مخصوصا من هذه الآية ؛ وقد أجمعوا معنا على أن العاقلة لم تقتل وأنها تغرم عن القاتل ، ولم يعترضوا على ذلك بهذه الآية ، وليس هو إجماعا ؛ فإن عثمان البتي لا يرى حكم العاقلة . وأيضا : فإن الذي أتانا بهذا هو الذي افترض أن يحج عن العاجز ، والميت ، وقد قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وهم يجيزون الحج عن الميت إذا أوصى بذلك ، والصدقة عن الحي ، والميت ، والعتق عنهما أوصيا بذلك أو لم يوصيا ، ولا يعترضون في ذلك بهذه الآية . فإن قالوا : لما أوصى بالحج كان مما سعى ؟ قلنا لهم : فأوجبوا بذلك أن يصام عنه إذا أوصى بذلك ؛ لأنه مما سعى . فإن قالوا : عمل الأبدان لا يعمله أحد عن أحد ؟ فقلنا : هذا باطل ودعوى كاذبة ، ومن أين قلتم هذا ؟ بل كل عمل إذا أمر النبي ﷺ به أن يعمله المرء عن غيره وجب ذلك على رغم أنف المعاند فإن قالوا : قياسا على الصلاة ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا عليكم لا لكم ؛ لأنكم لا تختلفون في جواز أن يصلي المرء الذي يحج عن غيره ركعتين عند المقام عن المحجوج عنه ، فقد جوزتم أن يصلي الناس بعضهم عن بعض فقيسوا على ذلك سائر أعمال الأبدان ؟ وقالوا : لما كان الحج فيه مدخل للمال في جبره بالهدي ، والإطعام - : جاز أن يعمله بعض الناس عن بعض ؟ قلنا : ومن أين لكم هذا الحكم الذي هو كذب مفترى وشرع موضوع بلا شك ؟ ثم قد تناقضتم فيه ؛ لأن الصيام فيه مدخل للمال في جبره بالعتق ، والإطعام ولا فرق ، وفي وجوب زكاة الفطر من صومه ، فأجيزوا لذلك أن يعمله بعض الناس عن بعض . قال أبو محمد : والعجب كله أن المالكيين يجيزون أن يجاهد الرجل عن غيره بجعل ، ويجيزون الكفارة عن المرأة المكرهة على الوطء في نهار رمضان على غيرها عنها ، وهو الذي أكرهها ، فأجازوا كل ذلك حيث لم يجزه الله تعالى ، ولا رسوله عليه السلام ومنعوا من جوازه حيث افترضه الله تعالى ورسوله ﷺ . قال علي : فإن موهوا بما رويناه من طريق ابن أبي أويس : نا محمد بن عبد الله بن كريم الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن يحيى العدوي النجاري { أن امرأة قالت : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ؟ فقال رسول الله ﷺ : لتحجي عنه ، وليس لأحد بعده } . وبما رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب حدثني مطرف عن محمد بن الكرير عن محمد بن حبان الأنصاري : { أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت : إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الحج فقال عليه السلام : فلتحجي عنه ، وليس ذلك لأحد بعده } . ومن طريق عبد الملك بن حبيب حدثني هارون بن صالح الطلحي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ربيعة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي " أن رسول الله ﷺ قال : { لا يحج أحد عن أحد إلا ولد عن والد } . قال علي : فهذه تكاذيب ، أول ذلك : أنها مرسلة ولا حجة في مرسل : والأول : فيه مجهولان لا يدرى من هما ؟ وهما محمد بن عبد الله بن كريم ، وإبراهيم بن محمد العدوي ؟ والآخران من طريق عبد الملك بن حبيب وكفى ؛ فكيف وفيه : الطلحي ، ومحمد بن الكرير ، ومحمد بن حبان ، ولا يدرى من هم ، وعبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف ، وهذا خبر حرفه عبد الملك ؛ لأننا رويناه من طريق سعيد بن منصور قال : نا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني ربيعة بن عثمان التيمي عن محمد بن إبراهيم التيمي { أن رجلا قال للنبي ﷺ : يا رسول الله ، أبي مات ولم يحج أفأحج عنه ؟ قال : نعم ولك مثل أجره } . ومن طريق سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه : { أن رجلا قال : يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج حجة الإسلام أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين فدعوت غرماءه لتقضيهم ؟ أكانوا يقبلون ذلك منك ؟ قال : نعم ؛ قال : فحج عنه فإن الله قابل من أبيك } . قال أبو محمد : فاعجبوا لهذه الفضائح ونعوذ بالله من الخذلان ، ثم لو صحت لكانوا مخالفين لها ؛ لأنهم يجيزون الحج عن الميت إذا أوصى به ، وأن يحج عنه غير ولده ؛ وهو خلاف لما في هذه الآثار فهي عليهم [ لا لهم ] وتخصيصهم جواز الحج إذا أوصى به لا يوجد في شيء من النصوص ، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة ، ولا يوجبها قياس ؛ لأن الوصية لا تجوز إلا فيما يجوز للإنسان أن يأمر به في حياته بلا خلاف ؟ قال أبو محمد : فإن قالوا : قد صح من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : لا يصومن أحد عن أحد ولا يحجن أحد عن أحد . ومن طريق وكيع عن أفلح عن القاسم بن محمد قال : لا يحج أحد عن أحد ؟ قلنا : نعم ، هذا صحيح عنهما ، وأنتم مخالفون لهما في ذلك ؛ لأنكم تجيزون الحج عن الميت إذا أوصى بذلك وهو خلاف قول ابن عمر ، والقاسم وما وجدنا قولهم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ؛ وصح قولنا عن طائفة من السلف . كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن شعبة عن مسلم القري قال : قلت لابن عباس : إن أمي حجت ولم تعتمر ، أفأعتمر عنها ؟ قال : نعم ؛ . قال أبو محمد فهذا لا تخصيص فيه لميت دون حي .
ومن طريق يزيد بن زريع عن داود أنه قال ، قلت لسعيد بن المسيب : يا أبا محمد ، لأيهما الأجر أللحاج أم للمحجوج عنه ؟ فقال سعيد : إن الله تعالى واسع لهما جميعا . قال أبو محمد : صدق سعيد رحمه الله . ومن طريق معمر عن أبي إسحاق عن أم محبة أنها نذرت أن تمشي إلى الكعبة فمشت حتى إذا بلغت عقبة البطن عجزت فركبت ثم أتت ابن عباس فسألته فقال : أتستطيعين أن تحجي قابلا ؟ فإذا انتهيت إلى المكان الذي ركبت فيه فتمشي ما ركبت ؟ قالت : لا ، قال لها : فهل لك ابنة تمشي عنك ؟ قالت : لي ابنتان ولكنهما أعظم في أنفسهما من ذلك قال : فاستغفري الله . وروينا أيضا مثله من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية عن ابن عباس . قال أبو محمد : هذه هي التي عولوا على روايتها عن عائشة رضي الله عنها في أمر العبد المبيع من زيد بن أرقم إلى العطاء بثمانمائة درهم ثم ابتاعته منه بستمائة ، وتركوا فيه فعل زيد بن أرقم فكانت حجة هنالك إذ لم توافق النصوص ، ولم تكن حجة عن ابن عباس إذ وافقت النصوص . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا حفص هو ابن غياث - عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه قال في الشيخ الكبير : أنه يجهز رجلا بنفقته فيحج عنه . ومن طريق إبراهيم بن ميسرة قال : رمى عبد الله بن طاوس عن أبيه الجمار ، وطاف عنه طواف يوم النحر وكان أبوه مريضا . وعن سفيان عن ابن طاوس في رمي الجمار عن أبيه بأمر أبيه . وعن مجاهد من حج عن رجل فله مثل أجره . وعن عطاء فيمن نذر أن يمشي فعجز ؟ قال : يمشي عنه بعض أهل بيته ، وأنه رأى الرمي عن المريض للجمار . فهؤلاء : ابن عباس ، وعلي ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، وعبد الله بن طاوس : وروي أيضا : عن إبراهيم النخعي ، وما نعلم لمن خالفنا هاهنا - فلم يوجب الحج على من وجد من يحج عنه وهو عاجز ، ولا عن الميت إلا أن يوصي - : سلفا أصلا من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا مما خالفوا فيه الجمهور من العلماء ؛ وبمثل قولنا يقول سفيان الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق .