محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثالثة والخمسون
كتاب الحج
813 - مسألة : وأما المرأة التي لا زوج لها ولا ذا محرم يحج معها فإنها تحج ولا شيء عليها ؛ فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وتحج هي دونه وليس له منعها من حج التطوع . وروينا عن إبراهيم ، وطاوس ، والشعبي ، والحسن : لا تحج المرأة إلا مع زوج أو محرم ، وهو قول الحسن بن حي . وروينا عن أبي حنيفة ، وسفيان : إن كانت من مكة على أقل من ليال ثلاث فلها أن تحج مع غير زوج ، وغير ذي محرم ، وإن كانت على ثلاث فصاعدا فليس لها أن تحج إلا مع زوج ، أو ذي محرم من رجالها . وروينا من طريق ابن عمر لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم . وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن حميد عن الحسن بن حي عن علي بن عبد الأعلى : أن عكرمة سئل عن المرأة تحج مع غير ذي محرم أو زوج ؟ فقال : { نهى رسول الله ﷺ أن تسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم } . وقالت طائفة : تحج في رفقة مأمونة وإن لم يكن لها زوج ولا كان معها ذو محرم - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن يونس هو ابن يزيد - عن الزهري قال : ذكر عند عائشة أم المؤمنين المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم ؟ قالت عائشة : ليس كل النساء تجد محرما . ومن طريق سعيد بن منصور نا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن نافع مولى ابن عمر قال : كان يسافر مع عبد الله بن عمر موليات له ليس معهن محرم ، وهو قول ابن سيرين وعطاء ، وهو ظاهر قول الزهري ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة - وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم . قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة في التحديد الذي ذكر فلا نعلم له سلفا فيه من الصحابة . ولا من التابعين رضي الله عنهم ؛ بل ما نعلم أحدا قاله قبلهم ، وهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ، ويقولون : إن المرسل كالمسند ، وقد صح عن ابن عمر ما ذكرنا ؛ وروي عن أم المؤمنين بأحسن مرسل يمكن وجود مثله ، ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد خالفهما أصحاب أبي حنيفة ، وهذا تناقض فاحش ؟ قال أبو محمد : ثم نظرنا فيما احتجت به كل طائفة لقولها فوجدنا أصحاب أبي حنيفة يحتجون لقولهم بالخبر عن رسول الله ﷺ : { لا تسافر امرأة ثلاثا إلا مع زوج أو ذي محرم } . وقالوا : قد روي أيضا " ليلتين " وروي " يوما وليلة " وروي " يوما " وروي " بريدا " قالوا : ونحن على يقين من تحريم سفرها ثلاثا وعلى شك من تحريم سفرها أقل من ذلك ؛ لأنه قد يكون ذكر الثلاث متقدما ويكون متأخرا فالثلاث على كل حال محرم عليها سفرها إلا مع زوج أو ذي محرم فنأخذ ما لا شك فيه وندع ما فيه الشك لا حجة لهم غير هذا أصلا . قال علي : وهذا عليهم لا لهم لوجهين - : أحدهما : أنه ليس صواب العمل ما ذكروا ؛ لأنه إن كان خبر الثلاث متقدما أو متأخرا فليس فيه إن تقدم إبطال لحكم النهي عن سفرها أقل من ثلاث لكنه بعض ما في سائر الروايات ، وسائر الروايات زائدة عليه ، وليس هذا مكان نسخ أصلا ؛ بل كل تلك الأخبار حق وكلها يجب استعمالها وليس بعضها مخالفا لبعض أصلا . ويقال لهم : خبر ابن عباس عن النبي ﷺ : { لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم } جامع لكل سفر فنحن على يقين من تحريم كل سفر عليها إلا مع زوج أو ذي محرم ، ثم لا ندري أبطل هذا الحكم أم لا ؟ فنأخذ باليقين ونلغي الشك ؛ فهذا معارض لاحتجاجهم مع ما قدمنا . ويقال لهم : عهدنا بكم تذمون الأخبار بالاضطراب ، وهذا خبر رواه أبو سعيد ، وأبو هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، فلم يضطرب عن ابن عباس أصلا واضطرب عن سائرهم - : فروي عن ابن عمر : { لا تسافر ثلاثا } ؛ وروي عنه : { لا تسافر فوق ثلاث } ؛ وروي عن أبي سعيد : { لا تسافر فوق ثلاث } ؛ وروي عنه { لا تسافر يومين } ؛ وروي عن أبي هريرة : { لا تسافر ثلاثا } ؛ وروي عنه : { لا تسافر فوق ثلاث } ؛ وروي عنه : { لا تسافر يوما وليلة } ؛ وروي عنه : { لا تسافر يوما } ؛ وروي عنه : { لا تسافر بريدا } ؛ فعلى أصلكم دعوا رواية من اختلف عليه واضطرب عنه إذ ليس بعض ما روي عن كل واحد أولى من سائر ما روي عنه ؛ وخذوا برواية من لم يختلف عليه ولا اضطرب عنه ؛ وهو ابن عباس ؛ فهذا أشبه من استدلالكم . والوجه الثاني : أنه قد روي عن ابن عمر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، كما ذكرنا لا تسافر المرأة فوق ثلاث ؛ فإن صححتم استدلالكم الفاسد بأخذ أكثر مما ذكر في تلك الأخبار فامنعوها مما زاد على مسيرة ثلاث ؛ لأنه اليقين وأبيحوا لها سفر الثلاث ؛ لأنه مشكوك فيه كما سفر اليومين ، واليوم ، والبريد مشكوك فيه عندكم ؛ وهذا ما لا مخلص لهم منه ؛ فإن ادعوا إجماعا هاهنا - فما هذا ينكر من إقدامهم ، وأكذبهم ما روينا من طريق الحذافي - عن عبد الرزاق - نا عبد الله بن عمر بن حفص عن نافع عن ابن عمر قال : لا تسافر امرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم ؛ ولا سيما وابن عمر هو راوي الحديث الذي تعلقوا به . وأكذبهم أيضا ما روينا عن عكرمة آنفا من منعه إياها ما زاد على الثلاث لا ما دون ذلك . والعجب أنهم يقولون في امرأة لا تجد معاشا أصلا إلا على ثلاث فصاعدا ؛ أنها تخرج بلا زوج ولا ذي محرم . ويقولون فيمن حفزتها فتنة - وخشيت على ، نفسها غلبة الكفار ، والمحاربين ، أو الفساق ولم تجد أمنا إلا على ثلاث فصاعدا - أنها تخرج مع غير زوج ومع غير ذي محرم ، وطاعة الله تعالى في الحج واجبة عليها كوجوب خلاص روحها . فإن قالوا : الزوج والمحرم من السبيل ؟ قلنا : عليكم الدليل وإلا فهي دعوى فاسدة لم يعجز عن مثلها أحد ، فسقط هذا القول الفاسد جملة - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول عكرمة واحتجاجه بالخبر الذي فيه ما زاد على الثلاث فوجدناه لا حجة له فيه لما ذكرنا من أن سائر الأخبار وردت بالمنع ، مما دون الثلاث ؛ فليس الخبر الذي فيه نهيها عن أن تسافر ثلاثا أو أكثر من ثلاث بأولى من سائر الأخبار التي فيها منعها من سفر أقل من ثلاث ؟ قال أبو محمد : فبطل هذا القول أيضا ولم يبق إلا قولنا ، أو قول النخعي ، والشعبي ، وطاوس ، والحسن في منعها جملة أو إطلاقها جملة ؛ فوجدنا المانعين يحتجون بالأخبار التي ذكرنا ، وهي أخبار صحاح لا يحل خلافها إلا لنص آخر يبين حكمها إن وجد . فنظرنا فوجدنا ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا ابن نمير نا أبي ، وابن إدريس قالا : نا عبيد الله هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : { ولا تمنعوا إماء الله مساجد الله } . وبه إلى ابن نمير نا أبي نا حنظلة هو ابن أبي سفيان الجمحي - قال : سمعت سالما هو ابن عبد الله بن عمر يقول : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن } فأمر ﷺ الأزواج وغيرهم أن لا يمنعوا النساء من المساجد ؛ والمسجد الحرام أجل المساجد قدرا . ووجدنا الله تعالى يقول : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ثم وجدنا الأسفار تنقسم قسمين سفرا واجبا ، وسفرا غير واجب ؛ فكان السفر الواجب بعض الأسفار بلا شك ، وكان الحج من السفر الواجب ؛ فلم يجز أخذ بعض الآثار دون بعض ووجبت الطاعة لجميعها ولزم استعمالها كلها ولا بد : فهذا هو الفرض ، وكان من رفض بعضها وأخذ بعضها عاصيا لله تعالى ، ولا سبيل إلى استعمال جميعها إلا بأن يستثنى الأخص منها من الأعم ، ولا بد ؛ فكان نهي المرأة عن السفر إلا مع زوج ، أو ذي محرم عاما لكل سفر ؛ فوجب استثناء ما جاء به النص من إيجاب بعض الأسفار عليها من جملة النهي ، والحج سفر واجب فوجب استثناؤه من جملة النهي . فإن قالوا : بل إيجاب الحج على النساء عموم فيخص ذلك بحديث النهي عن السفر إلا مع زوج أو ذي محرم ؟ قلنا : هذا خطأ ؛ لأن تلك الأخبار إنما جاءت بالنهي عن كل سفر جملة لا عن الحج خاصة ، وإنما كان يمكن أن يعارضوا بهذا أن لو جاءت في النهي عن أن تحج المرأة إلا مع زوج ، أو ذي محرم ؛ فكان يكون حينئذ اعتراضا صحيحا وتخصيصا لأقل الحكمين من أعمهما وهذا بين جدا ؟ وبرهان آخر - : وهو أن تلك الأخبار كلها إنما خوطب بها ذوات الأزواج ، واللاتي لهن المحارم ؛ لأن فيها إباحة الحج أو إيجابه مع الزوج ، أو ذي المحرم بلا شك ؛ ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن أصلا أن يخاطب النبي ﷺ بالحج مع زوج أو ذي محرم من لا زوج لها ولا ذا محرم ، فبقي من لا زوج لها ولا محرم على وجوب الحج عليها وعلى خروجها عن ذلك النهي . وبرهان آخر - : وهو ما حدثناه حمام قال : نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا أحمد بن خالد أخبرنا عبيد بن محمد الكشوري نا محمد بن يوسف الحذافي نا عبد الرزاق نا ابن جريج ، وسفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله ﷺ يخطب يقول : { لا يخلون رجل بامرأة ، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال : انطلق فاحجج مع امرأتك } فكان هذا الحديث رافعا للإشكال ومبينا لما اختلفنا فيه من هذه المسألة ، لأن نهيه ﷺ عن أن تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وقع ثم سأله الرجل عن امرأته التي خرجت حاجة لا مع ذي محرم ، ولا مع زوج فأمره ﷺ بأن ينطلق فيحج معها ولم يأمر بردها ولا عاب سفرها إلى الحج دونه ودون ذي محرم ، وفي أمره ﷺ بأن ينطلق فيحج معها بيان صحيح ونص صريح على أنها كانت ممكنا إدراكها بلا شك فأقر ﷺ سفرها كما خرجت فيه ، وأثبته ولم ينكره ؛ فصار الفرض على الزوج ؛ فإن حج معها فقد أدى ما عليه من صحبتها وإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وعليها التمادي في حجها والخروج إليه دونه أو معه أو دون ذي محرم أو معه كما أقرها عليه رسول الله ﷺ ولم ينكره عليها ، فارتفع الشغب جملة - ولله الحمد كثيرا . فإن قال قائل : فأين أنتم عما رويتموه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ؟ قال : أخبرني عكرمة ، أو أبو معبد عن ابن عباس قال { جاء رجل إلى المدينة فقال له رسول الله ﷺ : أين نزلت ؟ قال : على فلانة ، قال : أغلقت عليها بابك - مرتين - لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم } قال عبد الرزاق : وأما ابن عيينة فأخبرناه عن عمرو عن عكرمة ليس فيه شك ؟ قلنا : هذا خبر لم يحفظه ابن جريح لأنه شك فيه أحدثه به عمرو عن عكرمة مرسلا ؟ أم حدثه به عمرو عن أبي معبد مسندا ؟ فلم يثبته أصلا ؛ فبطل التعلق به وإنما صوابه كما رواه عبد الرزاق عن سفيان ، وابن جريج عن عمرو عن أبي معبد عن ابن عباس كما أوردناه آنفا ليس فيه هذه اللفظة . وهكذا رويناه أيضا من طريق حماد بن زيد كما حدثنا به أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد الصائغ نا سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي معبد { عن ابن عباس : أنه سمع رسول الله ﷺ - وهو يخطب - يقول لا تسافرن امرأة إلا مع ذي محرم ، ولا يدخلن عليها رجل إلا ومعها محرم ؛ فقال رجل : يا رسول الله إن نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج ؟ قال : فاخرج معها } فلم يقل ﷺ : لا تخرج إلى الحج إلا معك ؛ ولا نهاها عن الحج أصلا ، بل ألزم الزوج ترك نذره في الجهاد وألزمه الحج معها ؛ فالفرض في ذلك على الزوج لا عليها . وأما حديث عكرمة فمرسل كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا عيسى بن خبيب قاضي أشونة قال : نا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري نا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : { قدم رجل من سفر فقال له رسول الله ﷺ قد نزلت على فلانة فأغلقت عليها بابك - مرتين } . فهذا هو - حديث عمرو بن دينار عن عكرمة اختلط على ابن جريج فلم يدر أحدثه به عمرو بن دينار عن عكرمة أم حدثه به عمرو عن أبي معبد عن ابن عباس وأدخل فيه ذكر الحج بالشك ؛ ولا تثبت الحجة بخبر مشكوك في إسناده أو في إرساله - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا : إن له منعها من حج التطوع فلأن طاعته فرض عليها فيما لا معصية لله تعالى فيه ، وليس في ترك الحج التطوع معصية ؟
814 - مسألة : فإن أحرمت من الميقات أو من مكان يجوز الإحرام منه بغير إذن زوجها ، وأحرم العبد بغير إذن سيده ؛ فإن كان حج تطوع - كل ذلك - فله منعهما وإحلالهما لما ذكرنا وإن كان حج الفرض نظر فإن كان لا غنى به عنها أو عنه - لمرض أو لضيعته دونه أو دونها أو ضيعة ماله - فله إحلالهما لما ذكرنا من قول رسول الله ﷺ : { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه } وإن كان لا حاجة به إليهما لم يكن له منعهما أصلا فإن منعهما فهو عاص لله عز وجل وهما في حكم المحصر ؛ وكذلك القول في الابن والابنة مع الأب والأم ولا فرق ؛ وطاعة الله تعالى في الحج متقدمة لطاعة الأبوين والزوج ؛ قال رسول الله ﷺ : { إنما الطاعة في الطاعة } . وقال ﷺ : { فإذا أمرت بمعصية فلا سمع ولا طاعة } وترك الحج معصية ، ولا فرق بين طاعة الأبوين والزوج في ترك الحج وبين طاعتهم في ترك الصلاة أو في ترك الزكاة أو في ترك صيام شهر رمضان . فإن قيل : الحج في تأخيره فسحة ؟ قلنا : إلى متى ؟ أفرأيت إن لم يبيحوا الحج للأولاد أو الزوجة أبدا ؟ فإن حدوا في ذلك سنة أو سنتين أو أكثر كانوا متحكمين في الدين بالباطل وشارعين ما لم يأذن به الله تعالى ولا يقول أحد بطاعتهم في ترك الحج أبدا جملة - وبالله تعالى التوفيق . وروينا عن قتادة والحكم بن عتيبة في امرأة أحرمت بغير إذن زوجها ، أنها محرمة ؟ قال الحكم : حتى تطوف بالبيت .