محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثانية والخمسون
كتاب الحج
811 - مسألة : [ قال أبو محمد ] : الحج إلى مكة ، والعمرة [ إليها ] فرضان على كل مؤمن ، عاقل ، بالغ ، ذكر ، أو أنثى ، بكر ، أو ذات زوج . الحر والعبد ، والحرة والأمة ، في كل ذلك سواء ، مرة في العمر إذا وجد من ذكرنا إليها سبيلا ، وهما أيضا على أهل الكفر إلا أنه لا يقبل منهم إلا بعد - الإسلام ، ولا يتركون ودخول الحرم حتى يؤمنوا . أما قولنا بوجوب الحج - على المؤمن العاقل البالغ الحر ، والحرة التي لها زوج أو ذو محرم يحج معها مرة في العمر - فإجماع متيقن ، واختلفوا في المرأة ، لا زوج لها ولا ذا محرم ، وفي الأمة والعبد ، وفي العمرة - : برهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فعم تعالى ولم يخص . وقال عز وجل : { وأتموا الحج والعمرة لله } . وقال قوم : العمرة ليست فرضا واحتجوا بما رويناه من طريق الحجاج بن أرطاة عن ابن المنكدر عن جابر { سئل رسول الله ﷺ عن العمرة أفريضة هي ؟ قال : لا ، وأن تعتمر خير لك } . وبما رويناه عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح ماهان الحنفي عن النبي ﷺ : { الحج جهاد والعمرة تطوع } . ومن طريق يحيى بن أيوب عن عبد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر { قلت : يا رسول الله العمرة فريضة كالحج ؟ قال : لا ، وأن تعتمر خير لك } . ومن طريق حفص بن غيلان عن مكحول عن أبي أمامة الباهلي عن النبي ﷺ : { من مشى إلى صلاة مكتوبة فهي كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة تامة } . ومن طريق يحيى بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي ﷺ : { من مشى إلى مكتوبة فأجره كأجر الحاج ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى فأجره كأجر المعتمر } . ومن طريق محاضر بن المورع عن الأحوص بن حكيم عن عبد الله بن حكيم عن عبد الله بن عابر الألهاني عن عتبة بن عبد السلمي ، وعن أبي أمامة الباهلي كلاهما عن رسول الله ﷺ : { من صلى في مسجد جماعة ثم ثبت فيه سبحة الضحى كان كأجر حاج ومعتمر } . ومن طريق عبد الباقي بن قانع حديثا فيه عمر بن قيس عن طلحة بن موسى ، عن عمه إسحاق بن طلحة عن أبيه أنه سمع النبي ﷺ يقول : { الحج جهاد والعمرة تطوع } . ومن طريق ابن قانع عن أحمد بن محمد بن بحير العطار عن محمد بن بكار عن محمد بن الفضل ابن علية عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ : { الحج جهاد والعمرة تطوع } . ومن طريق عبد الباقي بن قانع نا بشر بن موسى نا ابن الأصبهاني نا جرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ : { الحج جهاد والعمرة تطوع } . وقالوا : قد صح عن النبي ﷺ أنه قال : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . وروى أبو داود نا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا : نا زيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس قال { : يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة واحدة ؟ قال : بل مرة واحدة فما زاد فتطوع } قالوا : فقد صح أنه لا يلزم إلا حجة واحدة ، فالعمرة تطوع لدخولها في الحج ، وقالوا : قول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة } لا يوجب كونها فرضا ، وإنما يوجب إتمامها على من دخل فيها لا ابتداءها ؛ لكن كما تقول : أتم الصلاة التطوع ، والصوم التطوع . وقالوا : لما كانت العمرة غير مرتبطة بوقت وجب أن لا تكون فرضا - : وروينا عن إبراهيم النخعي ، والشعبي : أنها تطوع ؟ قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به وكله باطل ، أما الأحاديث التي ذكروا فمكذوبة كلها ؛ أما حديث جابر فالحجاج بن أرطاة ساقط لا يحتج به . والطريق الأخرى أسقط وأوهن ؛ لأنها من طريق يحيى بن أيوب - وهو ضعيف عن العمري الصغير - وهو ضعيف . وأما حديث أبي صالح ماهان الحنفي فهو مرسل - وماهان هذا ضعيف كوفي . وأما حديث أبي أمامة فأحد طرقه عن حفص بن غيلان - وهو مجهول عن مكحول عن أبي أمامة ولم يسمع مكحول من أبي أمامة شيئا . والأخرى من طريق القاسم أبي عبد الرحمن - وهو ضعيف . والثالثة - من طريق ابن المورع وهو ضعيف عن الأحوص بن حكيم وهو ساقط عن عبد الله بن عابر ، وهو مجهول ؛ وهو حديث منكر ظاهر الكذب ؛ لأنه لو كان أجر العمرة كأجر من مشى إلى صلاة تطوع لما كان - لما تكلفه النبي ﷺ من القصد إلى العمرة إلى مكة من المدينة - معنى ، ولكان فارغا - ونعوذ بالله من هذا . وأما حديث طلحة فمن طريق عبد الباقي بن قانع ، وقد أصفق أصحاب الحديث على تركه ، وهو راوي كل بلية وكذبة ؛ ثم فيه عمر بن قيس سندل وهو ضعيف . وأما حديث ابن عباس فمن طريق عبد الباقي بن قانع ويكفي ؛ ثم هو عن ثلاثة مجهولين في نسق لا يدرى من هم . وأما حديث أبي هريرة فكذب بحت من بلايا عبد الباقي بن قانع التي انفرد بها والناس رووه مرسلا من طريق أبي صالح ماهان كما أوردنا قبل فزاد فيه أبا هريرة ، وأوهم أنه صالح السمان - فسقطت كلها ولله الحمد . ولو شئنا لعارضناهم بما رويناه من طريق ابن لهيعة عن عطاء عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال : { الحج والعمرة : فريضتان واجبتان } ولكن يعيذنا الله عز وجل ، ومعاذ الله والشهر الحرام من أن نحتج بما ليس حجة ؛ ولكن ابن لهيعة إذا روى ما يوافقهم صار ثقة وإذا روى ما يخالفهم صار ضعيفا ؛ والله ما هذا فعل من يوقن أنه محاسب بكلامه في دين الله تعالى ؟ قال أبو محمد : وعهدنا بهم يقولون : إن الصاحب إذا روى خبرا وتركه كان ذلك دليلا على ضعف ذلك الخبر . وقد حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد الصائغ نا سعيد بن منصور نا سفيان هو ابن عيينة - عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه قال { : الحج والعمرة واجبتان } . وبه نصا إلى سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أنه قال في الحج والعمرة : إنها لقرينتها في كتاب الله وهذا عن ابن عباس من طرق في غاية الصحة أنها واجبة كوجوب الحج . ونا أحمد بن عمر بن أنس نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا الأنصاري هو محمد بن عبد الله القاضي - أنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : ليس مسلم إلا عليه حجة وعمرة { من استطاع إليه سبيلا } . قال أبو محمد : فلو صح ما رووا من الكذب الملفق لوجب على أصولهم الخبيثة المفتراة إسقاط كل ذلك إذا كان ابن عباس وجابر رويا تلك الأخبار بزعمهم قد صح عنهما خلافها ، ولكن القوم متلاعبون كما ترون ، ونعوذ بالله من الخذلان . قال أبو محمد : ثم لو صحت كلها - ومعاذ الله من أن يصح الباطل والكذب - لما كانت لهم في شيء منها حجة - . لما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني نا خالد هو ابن الحارث - نا شعبة قال : سمعت النعمان بن سالم قال : سمعت عمرو بن أوس يحدث عن { أبي رزين العقيلي أنه قال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : فحج عن أبيك واعتمر } . فهذا أمر رسول الله ﷺ بأداء فرض الحج والعمرة عمن لا يطيقهما ؛ فهذا حكم زائد وشرع وارد ؛ وكانت تكون تلك الأحاديث موافقة لمعهود الأصل فإن الحج والعمرة قد كانا بلا شك تطوعا لا فرضا فإذا أمر بهما الله تعالى ورسوله ﷺ فقد بطل كونهما تطوعا بلا شك وصارا فرضين ، فمن ادعى بطلان هذا الحكم وعودة المنسوخ فقد كذب وأفك وافترى ؛ وقفا ما ليس له به علم ؛ فبطل كل خبر مكذوب موهوا به لو صح فكيف وكلها باطل ؟ وأما قول من قال : إن إخبار النبي ﷺ بدخول العمرة في الحج ، وبأنه ليس على المرء إلا حجة واحدة دليل على أنها ليست فرضا فهذيان لا يعقل ؛ بل هذا برهان واضح في كون العمرة فرضا ؛ لأنه عليه السلام أخبر بأنها دخلت في الحج ؛ ولا يشك ذو عقل في أنها لم تصر حجة ؛ فوجب أن دخولها في الحج إنما هو من وجهين فقط - : أحدهما : أنه يجزى لهما عمل واحد في القران . والثاني : دخولها في أنها فرض كالحج . فإن قالوا : قد جاء أنها الحج الأصغر ؟ قلنا لو صح هذا لكان حجة لنا ؛ لأن القران [ قد ] جاء بإيجاب الحج فكانت حينئذ تكون فرضا بنص قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } لكنا لا نستحل التمويه بما لا يصح ، مع أن الخبر الذي ذكروا عن ابن عباس لا حجة لهم فيه ؛ لأن راويه أبو سنان الدؤلي وقد قال فيه عقيل : سنان هو مجهول غير معروف ، وأيضا : فإنهم كذبوا فيه وحرفوه وأوهموا أن فيه من لفظ النبي ﷺ أنه { ليس على المرء إلا حجة واحدة } ليس هذا في ذلك الخبر أصلا وإنما فيه أن الحج مرة واحدة وهذا لا يمنع من وجوب العمرة : إما مع الحج مقرونة ، وإما معه في عام واحد ؛ فصار حجة لنا عليهم . وأما قولهم : إن الله تعالى إنما أمر بإتمامها من دخل فيها لا بابتدائها ، وأن بعض الناس قرأ : { والعمرة لله } بالرفع فقول كله باطل ؛ لأنها دعوى بلا برهان وقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } لا يقتضي ما قالوا وإنما يقتضي وجوب المجيء بهما تامين وحتى لو صح ما قالوه لكان حجة عليهم ؛ لأنه إذا كان الداخل فيها مأمورا بإتمامها فقد صارت فرضا مأمورا به ؛ وهذا قولنا لا قولهم الفاسد المتخاذل - وابن عباس حجة في اللغة . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : والله إنها لقرينتها في كتاب الله عز وجل : { وأتموا الحج والعمرة لله } فابن عباس يرى هذا النص موجبا لكونها فرضا كالحج بخلاف كيس هؤلاء الحذاق باللغة بالضد ، وبهذا احتج مسروق ، وسعيد بن المسيب ، وعلي بن الحسين ، ونافع في إيجابها ؛ ومسروق ؛ وسعيد حجة في اللغة . فإن قالوا : أنتم تقولون : بهذا في الحج التطوع ، والعمرة التطوع ؟ قلنا : لا بل هما تطوع غير لازم جملة إن تمادى فيهما أجر ، وإلا فلا حرج ولو كان غير هذا لكان الحج يتكرر فرضه مرات ، وهذا خلاف حكم الله تعالى في أنه لا يلزم إلا مرة واحدة في الدهر . فإن قالوا : فإنكم تقولون : بإتمام النذر ، وإتمام قضاء صوم التطوع على من أفطر فيه ؟ قلنا : نعم ؛ لأن كل ذلك صار فرضا زائدا بأمر الله تعالى بذلك وأمر رسوله ﷺ فإنما الحج فرض مرة واحدة على من لم ينذره لا على من نذره ؛ بل هو على من نذره فرض آخر لا نضرب أوامر الله تعالى بعضها ببعض بل نضم بعضها إلى بعض ونأخذ بجميعها . وأما القراءة { والعمرة لله } بالرفع فقراءة منكرة لا يحل لأحد أن يقرأ بها ، وسبحان من جعلهم يلجئون إلى تبديل القرآن فيحتجون به ؟ وأما قولهم : لو كانت فرضا لكانت مرتبطة بوقت ؟ فكلام سخيف لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة ولا قول صاحب ولا إجماع ولا قياس يعقل ، وهم موافقون لنا على أن الصلاة على رسول الله ﷺ فرض ولو مرة في الدهر وليست مرتبطة بوقت ، وأن النذر فرض وليس مرتبطا بوقت ، وأن قضاء رمضان فرض وليس مرتبطا بوقت ، والإحرام للحج عندهم فرض وليس عندهم مرتبطا بوقت ، فظهر هوس ما يأتون به ؟ قال أبو محمد : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن ثابت قال فيمن يعتمر قبل أن يحج : نسكان لله عليك لا يضرك بأيهما بدأت . ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني نافع مولى ابن عمر أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلا ومن زاد بعدهما شيئا فهو خير وتطوع . ومن طريق أبي إسحاق عن مسروق عن ابن مسعود قال : أمرتم بإقامة الصلاة ، والعمرة إلى البيت ؛ وقد ذكرناه آنفا عن جابر ، وابن عباس . ومن طريق قتادة قال عمر بن الخطاب : يا أيها الناس كتبت عليكم العمرة . وعن أشعث عن ابن سيرين قال : كانوا لا يختلفون أن العمرة فريضة ، وابن سيرين أدرك الصحابة وأكابر التابعين . وعن معمر عن قتادة قال : العمرة واجبة . ومن طريق سفيان الثوري ، ومعمر عن داود بن أبي هند قلت لعطاء : العمرة علينا فريضة كالحج ؟ قال : نعم . وعن يونس بن عبيد عن الحسن ، وابن سيرين جميعا العمرة واجبة - وعن طاوس العمرة واجبة . وعن سعيد بن جبير العمرة واجبة ؛ فقيل له : إن فلانا يقول : ليست واجبة ، فقال : كذب إن الله تعالى يقول : { وأتموا الحج والعمرة لله } . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت مسروقا يقول أمرتم في القرآن بإقامة أربع : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والعمرة - قال أبو إسحاق : وسمعت عبد الله بن شداد يقول : العمرة الحج الأصغر . وعن سعيد بن المسيب إنما كتبت علي عمرة ، وحجة . وعن مجاهد : الحج والعمرة فريضتان ؛ وعن منصور عن مجاهد العمرة الحجة الصغرى ، وعن علي بن الحسين أنه سئل عن العمرة ؟ فقال : ما نعلمها إلا واجبة { وأتموا الحج والعمرة لله } . وعن حماد بن زيد عن عبد الرحمن بن السراج قال : سألت هشام بن عروة ، ونافعا مولى ابن عمر عن العمرة أواجبة هي ؟ - فقرأ جميعا : { وأتموا الحج والعمرة لله } . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا مغيرة هو ابن مقسم - عن الشعبي أنه قال في العمرة : هي واجبة - وعن شعبة عن الحكم قال : العمرة واجبة . قال أبو محمد : وهو قول سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم . وقال أبو حنيفة ، ومالك : ليست فرضا ، والقوم يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ، وهم قد خالفوا هاهنا عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، ولا يصح عن أحد من الصحابة خلاف لهم في هذا إلا رواية ساقطة من طريق أبي معشر عن إبراهيم أن عبد الله قال : العمرة تطوع ، والصحيح عنه خلاف هذا كما ذكرنا . وعهدنا بهم يعظمون خلاف الجمهور ، وقد خالفوا [ هاهنا ] عطاء ، وطاوسا ، ومجاهدا ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، ومسروقا ، وعلي بن الحسين ، ونافعا مولى ابن عمر ، وهشام بن عروة ، والحكم بن عتيبة ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، وقتادة وما نعلم لمن قال : ليست واجبة سلفا ، من التابعين إلا إبراهيم النخعي وحده ؛ ورواية عن الشعبي قد صح عنه خلافها كما ذكرنا - وتوقف في ذلك حماد بن أبي سليمان . قال أبو محمد : وموه بعضهم بحديثين هما من أعظم الحجة عليهم - : أحدهما : الخبر الثابت في الذي سأل رسول الله ﷺ عن الإسلام ؟ فأخبره بالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ؛ فقال : هل علي غيرها يا رسول الله ؟ قال : لا إلا أن تطوع . والثاني : خبر ابن عمر { بني الإسلام على خمس } فذكر شهادة التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج . قال أبو محمد : وهما - أقوى ، حججنا عليهم لصحة قول رسول الله ﷺ : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } فصح أنها واجبة بوجوب الحج ، وأن فرضها دخل في فرض الحج . وأيضا : فحتى لو لم يأت هذا الخبر لكان أمر النبي ﷺ وورود القرآن بها شرعا زائدا وفرضا واردا مضافا إلى سائر الشرائع المذكورة ؛ وكلهم يرى النذر فرضا ، والجهاد إذا نزل بالمسلمين فرضا ؛ وغسل الجنابة فرضا ، والوضوء فرضا ، وليس ذلك مذكورا في الحديثين المذكورين ولم يروا الحديثين المذكورين حجة في سقوط فرض كل ما ذكرنا ، فوضح تناقضهم وفساد مذهبهم في ذلك - والحمد لله رب العالمين .
812 - مسألة : وأما حج العبد ، والأمة ، فإن أبا حنيفة ، ومالكا ، والشافعي قالوا : لا حج عليه فإن حج لم يجزه ذلك من حجة الإسلام . وقال أحمد بن حنبل : إذا عتق بعرفة أجزأته تلك الحجة ؛ وقال بعض أصحابنا : عليه الحج كالحر ، وقد ذكرنا آنفا عن جابر ، وابن عمر قال أحدهما : ما من مسلم ، وقال الآخر : ما من أحد من خلق الله إلا عليه عمرة وحجة ؛ فقطعا وعما ولم يخصا إنسيا من جني ، ولا حرا من عبد ، ولا حرة من أمة ، ومن ادعى عليهما تخصيص الحر ، والحرة ؛ فقد كذب عليهما ؛ ولا أقل حياء ممن يجعل قول ابن عمر { بني الإسلام على خمس } حجة في إسقاط فرض العمرة - وهو حجة في وجوب فرضها كما ذكرنا - ولا يجعل قوله : ما من أحد من خلق الله إلا عليه : حجة ، وعمرة - : حجة في وجوب الحج على العبد . فإن قيل : لعلهما أرادا إلا العبد ؟ قيل : هذا هو الكذب بعينه أن يريدا إلا العبد ثم لا يبينانه ؛ وأيضا : فلعلهما أرادا إلا المقعد ، وإلا الأعمى ، وإلا الأعور ، وإلا بني تميم ، وإلا أهل إفريقية ، وهذا حق لا خفاء به ؛ ولا يصح مع هذه الدعوى قولة لأحد أبدا . ولعل كل ما أخذوا به من قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، ليس على عمومه ؛ ولكنهم أرادوا تخصيصا لم يبينوه وهذه طريق السوفسطائية نفسها ؛ ولا يجوز أن يقول أحد ما لم يقل إلا ببيان وارد متيقن ينبئ بأنه أراد غير مقتضى قوله . وقد ذكروا هاهنا قول الله تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } . { وأوتيت من كل شيء } . و { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } . وكل هذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنها إنما دمرت بنص الآية كل شيء بأمر ربها فدمرت ما أمرها ربها بتدميره لا ما لم يأمرها . وما تذر من شيء أتت عليه ؛ فإنما جعلت كالرميم ما أتت عليه لا ما لم تأت عليه بنص الآية . وأوتيت من كل شيء : لا يقتضي إلا بعض الأشياء ؛ لأن " من " للتبعيض ، فمن آتاه الله شيئا ما قل أو كثر فقد آتاه من كل شيء ؛ لأن كل شيء هو العالم كله ؛ فمن أوتي شيئا فقد أوتي من العالم كله - وهذا بين وبالله تعالى التوفيق . وكتب إلي أبو المرجي الحسين بن عبد الله بن زر المصري قال : نا أبو الحسن الرحبي - : نا أبو مسلم الكاتب نا أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا زيد بن الحباب العكلي نا ابن لهيعة عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال : سألت القاسم بن محمد ، وسليمان بن يسار عن العبد إذا حج بإذن سيده ؟ فقالا جميعا : تجزئ عنه من حجة الإسلام فإذا حج بغير إذن سيده لم تجزه ؛ وبه إلى زيد بن الحباب أنا إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : إذا حج العبد وهو مخلى فقد أجزأت عنه حجة الإسلام . قال أبو محمد : واحتج من لم ير للعبد حجا بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق قال : سمعت شيخا يحدث أبا إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن رسول الله ﷺ : { أيما صبي حج به أهله ثم مات أجزأ عنه وإن أدرك فعليه الحج ، وأيما مملوك حج به أهله ثم مات أجزأ عنه وإن عتق فعليه الحج } . قال أبو محمد : هذا مرسل ، وعن شيخ لا يدرى اسمه ولا من هو . واحتجوا أيضا بخبر رويناه من طريق عثمان بن خرزاد الأنطاكي نا محمد بن المنهال الضرير نا يزيد بن زريع نا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ : { أيما صبي حج لم يبلغ الحنث فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى } . قال علي : وهذا خبر رواه من هو أوثق من عثمان بن خرزاذ عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة ، ومن هو إن لم يكن فوق يزيد بن زريع لم يكن دونه عن شعبة فأوقفه أحدهما على ابن عباس ، وأسنده الآخر بزيادة : نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن أبي عدي ومحمد بن المنهال ، قال ابن المنهال : نا يزيد بن زريع نا شعبة ، وقال ابن أبي عدي : نا شعبة ، ثم اتفقا عن شعبة عن الأعمش عن أم ظبيان عن ابن عباس قال يزيد بن زريع : عن رسول الله ﷺ قال : { إذا حج الصبي له فهي حجة صبي حتى يعقل ، فإذا عقل فعليه حجة أخرى ، وإذا حج الأعرابي فهي له حجة أعرابي ، فإذا هاجر فعليه حجة أخرى } . وأوقفه ابن أبي عدي على ابن عباس من قوله - وأوقفه أيضا : سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس من قوله . وأوقفه أيضا : أبو السفر ، وعبيد صاحب الحلى ، وقتادة على ابن عباس . وقال أبو محمد : إن كان هذا الخبر حجة في أن لا يجزئ العبد حجه فهو حجة في أن لا يجزئ الأعرابي حجه ولا فرق ؛ وهو قول ابن عباس الثابت عنه كما أوردنا . وكذلك أيضا رويناه من طريق أبي معاوية ، وسفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس من قوله في إعادة الحج على الصبي إذا احتلم ، وعلى العبد إذا عتق ، وعلى الأعرابي إذا هاجر - وهو قول الحسن . كما روينا عن ابن أبي شيبة عن علي بن هاشم عن إسماعيل عن الحسن البصري قال : الصبي إن حج ، والمملوك إن حج ، والأعرابي إن حج ، ثم هاجر الأعرابي ، واحتلم الصبي ، وعتق العبد فعليهم الحج . وقال عطاء : أما الأعرابي فيجزئه حجه ، وأما الصبي ، والمملوك فعليهما الحج . وقال إبراهيم النخعي : لا يجزئ العبد حجه إذا أعتق ، وعليه حجة أخرى ، وأما الأعرابي فيجزئه حجه . وقد روينا أيضا مثل هذا عن الحسن ، وعن الزهري ، وطاوس ، وما نعلم أحدا من التابعين روي عنه في هذا الباب شيء غير ما ذكرناه ، ولا عن الصحابة غير ما أوردنا . قال أبو محمد : فمن أعجب شأنا ممن يدعي الإجماع في هذا وليس معه فيه إلا خمسة من التابعين ، أحدهم مختلف عنه في ذلك ، وقد روينا مثل قولنا عن ثلاثة من التابعين ، وعن اثنين من الصحابة رضي الله عنهم وهم قد خالفوا في هذه المسألة كل قول جاء في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم ، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق تقليدهم فلم يجعلوا ما روي عن ستة من الصحابة وأربعة عشر من التابعين في أن العمرة فرض ؛ ولا يصح عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف ولا عن أحد من التابعين إلا عن واحد باختلاف فلم يجعلوه إجماعا . قال أبو محمد : لا تخلو رواية عثمان بن خرزاذ ، ومحمد بن بشار عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع من أن تكون صحيحة أو غير صحيحة فإن كانت غير صحيحة فقد كفينا المؤنة فيها ، وإن كانت صحيحة وهو الأظهر فيها - ؛ لأن رواتها ثقات - فإنه خبر منسوخ بلا . شك . برهان ذلك - : أن هذا الخبر بلا شك كان قبل فتح مكة ؛ لأن فيه إعادة الحج على من حج من الأعراب قبل هجرته ، وقد حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن عطاء عن عائشة أم المؤمنين قالت { سئل رسول الله ﷺ عن الهجرة فقال : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فإذا استنفرتم فانفروا } . وبه إلى مسلم نا يحيى وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - قالا جميعا أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : { قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية إذا استنفرتم فانفروا } . ورويناه أيضا من طريق ثابتة عن مجاشع ، ومجالد : ابني مسعود السلميين عن رسول الله ﷺ فإذ قد صح بلا شك أن هذا الخبر كان قبل الفتح فقد نسخه ما روينا بالسند المذكور إلى مسلم - : نا زهير بن حرب نا يزيد بن هارون نا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال { خطبنا رسول الله ﷺ فقال : أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال عليه السلام : لو قلت : نعم ، لوجبت ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه } . قال أبو محمد : كان هذا في حجة الوداع فصار عموما لكل حر ، وعبد ، وأعرابي ، وعجمي [ وبلا شك ولا مرية ] أن العبد قد كان غير مخاطب بالحج في صدر الإسلام ولا الحر أيضا ؛ فكان خبر يزيد بن زريع في أن عليه وعلى الأعرابي حجة الإسلام إذا عتق العبد ، وهاجر الأعرابي ، موافقا للحالة الأولى وبقيا على أنهما غير مخاطبين كما كانا ، وجاء هذا الخبر فدخل في نصه في الخطاب بالحج : العبد ، والأعرابي ؛ لأنهما من الناس فكان بلا شك ناسخا للحالة الأولى ومدخلا لهما في الخطاب بالحج ضرورة ولا بد . ورأيت بعضهم قد احتج فقال : حج النبي ﷺ بأزواجه ، ولم يحج بأم ولده ؟ قال علي : وهذه كذبة شنيعة لا نجدها في شيء من الآثار أبدا وإن التسهل في مثل هذا لعظيم جدا - : قال أبو محمد : عهدنا بهم يقولون في النفي في الزنا ، وفي كثير من السنن مثل : لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ، وفي خبر اليمين مع الشاهد ، هذا زيادة على ما في القرآن ، وهذا تخصيص للقرآن ، وهذا خلاف ما في القرآن ، وكذبوا في كل ذلك ، ثم لم يقولوا في هذا الخبر : هذا تخصيص للقرآن ، وهذا زيادة على ما في القرآن ، وهذا خلاف لما في القرآن . وعهدنا بهم يردون السنن الثابتة بدعوى الاضطراب : كخبر القطع في ربع دينار ، وخبر ابن عمر في الزكاة وغير ذلك ، وكذبوا في ذلك ؛ ثم احتجوا ( في ذلك ) بهذا الخبر الذي لا نعلم خبرا أشد اضطرابا منه . وهم يتركون السنن للقياس : كخبر المصراة ، وخبر القرعة في الستة الأعبد ، وهم هاهنا قد تركوا القياس ؛ لأنهم لا يختلفون أن العبد مخاطب بالإسلام وبالصلاة ، والصيام ، فما الذي منع ( من ) أن يخاطب بالحج ، والعمرة ؛ ثم يقولون : العبد ليس هو من أهل الجمعة فإذا حضرها صار من أهلها وأجزأته ، فهم قالوا هاهنا : إن العبد وإن لم يكن من أهل الحج فإنه إذا حضره صار من أهله وأجزأه وأكثرهم يقول : من نوى تطوعا بحجه أجزأه عن الفرض ، وأقل حال حج العبد : أن يكون تطوعا فهلا أجزأه عندهم ؟ فإن قالوا : هو غير مخاطب ؟ قلنا : قد جمعتم في هذا القول الكذب وخلاف القرآن إذ لم يخص الله تعالى عبدا من حر ، والتناقض ؛ لأنه إن لم يكن مخاطبا به فلا يحل له أن يتكلف ولا يلزمه إحرام ولا شيء من جزاء صيد ولا فدية أذى ولا غير ذلك كما لا يلزم الحائض شيء من أحكام الصلاة والصيام ، إذ ليست مخاطبة به ، وكالصبي الذي لا يلزمه شيء من أمور الحج فإن فعلهما أو فعل به كان له أجر وكان له حج للأثر في ذلك لا لغيره . فهذا مما خالفوا فيه القرآن والسنن الثابتة وقول طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف والقياس : نعم ، والخبر الذي به احتجوا ؛ لأنهم خالفوا ما فيه من حكم الأعرابي في الحج وبالله تعالى التوفيق .