محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الحادية والثمانون
كتاب الحج
902 - مسألة : ومن نذر أن يمشي إلى مكة أو إلى عرفة أو إلى منى أو إلى مكان ذكره من الحرم على سبيل التقرب إلى الله - عز وجل - أو الشكر له - تعالى - لا على سبيل اليمين ففرض عليه المشي إلى حيث نذر للصلاة هنالك ، أو الطواف بالبيت فقط - ولا يلزمه أن يحج ، ولا أن يعتمر إلا أن ينذر ذلك وإلا فلا . فإن شق عليه المشي إلى حيث نذر من ذلك فليركب ولا شيء عليه ؛ فإن ركب الطريق كله لغير مشقة في طريق فعليه هدي ولا يعوض منه صياما ولا إطعاما . فإن نذر أن يحج ماشيا فليمش من الميقات حتى يتم حجه . ومن نذر أن يركب في ذلك فعليه أن يركب ولا بد لقول الله - تعالى - : { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } فالمشي والركوب إلى كل ما ذكرنا طاعة لله - عز وجل - . روينا من طريق مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت : قال رسول الله عليه السلام { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . وقال - تعالى - { : يوفون بالنذر } وقال - تعالى - { : أوفوا بالعقود } فإنما أمر - تعالى - بالوفاء بعقود الطاعة لا بعقود المعاصي . وقال قوم : لا يمشي إلا في حج ، أو عمرة . قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأنه إلزام ما لم ينذره على نفسه بغير قرآن ، ولا سنة . وقال مالك : إن نذر المشي إلى المسجد ، أو إلى الكعبة ، أو إلى الحرم لزمه ، فإن نذر إلى عرفة ، أو إلى مزدلفة ، أو منى ، أو الصفا والمروة لم يلزمه - وهذا تقسيم بلا برهان . روينا من طريق البخاري نا محمد بن سلام نا الفزاري عن حميد الطويل أخبرني ثابت هو البناني - عن أنس { عن النبي عليه السلام : أنه رأى شيخا يهادي بين بنيه فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي قال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ، وأمره أن يركب } فلم يوجب عليه النبي عليه السلام شيئا لركوبه . وقال - تعالى - { : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فمن ليس المشي في وسعه فلم يكلفه الله - تعالى - المشي ، وكان نذره لما ليس في وسعه معصية لا يجوز له الوفاء بها . قال علي : الفزاري هذا هو أبو إسحاق - أو مروان بن معاوية ، وكلاهما ثقة إمام . ومن طريق البخاري نا إبراهيم بن موسى نا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب أن يزيد بن أبي حبيب أخبره أن أبا الخير حدثه { عن عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله - تعالى - وأمرتني أن أستفتي لها النبي ﷺ فاستفتيت النبي عليه السلام ؟ فقال : لتمش ولتركب فأمرها بكلا الأمرين ولم يوجب عليها في ذلك شيئا } . وقد علمنا ضرورة أن رسول الله عليه السلام لم يأمرها بالمشي إلا وهي قادرة عليه لقول الله - تعالى - : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا أبو الوليد هو الطيالسي - نا هشام هو الدستوائي - نا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس { أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت فأمرها النبي عليه السلام أن تركب وتهدي هديا } . فهذان أمران من رسول الله عليه السلام ، أحدهما : أن تركب وتمشي دون إلزام شيء في ذلك ، والآخر : أن تركب وتهدي هديا دون مشي في ذلك - وهذا هو قولنا . قال أبو محمد : وروينا من طريق فيها عبيد الله بن زحر - وهو ضعيف - عن أبي سعيد الرعيني وهو مجهول " أنه عليه السلام أمرها أن تصوم ثلاثة أيام " . وروي أيضا مثل هذا من طريق فيها حي بن عبد الله - وهو مجهول - ومثله من طريق فيها شريك - وهو ضعيف - نبهنا عليها لئلا يغتر بها . وقد اعترض قوم في الحديثين اللذين أوردنا بأن قالوا : قد رواه مطر الوراق عن عكرمة عن عقبة ، وعكرمة لم يلق عقبة ؛ وأوقفه بعض الناس على ابن عباس - وقد روي عن ابن عباس خلافه . قال علي : وهذا مما يمقت الله - تعالى - عليه ؛ لأن المفترض بهذا من قوله : إن المرسل والمنقطع كالمسند ثم يعيب هنا مسندا صحيحا برواية من رواه منقطعا أو موقوفا إن خالف تقليده ، وهذا فعل من لا ورع له ولا صدق ولا يعترض على المسند الذي تقوم به الحجة بمثل هذا إلا جاهل ؛ لأنه اعتراض لا دليل على صحته ودعوى فاسدة ؛ لأن المسند تقوم به الحجة ، والمرسل مطرح ، وأي نقيصة على الحق من رواية آخر مما لا حجة فيه . وأما قولهم : إنه قد روي عن ابن عباس خلاف ما روي من ذلك ، فإن الرواية عن ابن عباس اختلفت - : فروينا عنه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس قال : امش ما استطعت واركب واذبح ، أو تصدق - وهذا موافق لما روي إلا ذكر الصدقة فقط . وروينا عنه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن بكر هو ابن عبد الله المزني - أن ابن عباس أمر امرأة نذرت أن تحج ماشية بأن تشتري رقبة ولتمش فإذا عجزت فلتركب ولتمش الرقبة فإذا أعيت الرقبة فلتركب ولتمش الناذرة فإذا قضت حجها فلتعتقها . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن أم محبة أنها نذرت أن تمشي إلى الكعبة فمشت حتى أعيت فركبت ، ثم أتت ابن عباس فسألته ؟ فقال : أتستطيعين أن تحجي قابلا وتركبي حتى تنتهي إلى المكان الذي ركبت فيه فتمشي ما ركبت ؟ قالت : لا ، قال : ألك ابنة تمشي عنك ؟ قالت : لي ابنتان هما في أنفسهما أعظم من ذلك ؛ قال : فاستغفري الله وتوبي إليه . قال أبو محمد : هذه أم محبة التي عولوا على روايتها في بيع العبد من زيد بن أرقم إلى أجل بثمانمائة وابتياعها إياه منه بستمائة درهم ، فمرة يقلدون روايتها حيث اشتهوا ، ومرة يطرحونها ؛ والحجة إنما هي في رواية ابن عباس لا في رأيه وقد يهم وينسى ، وقد ذكرنا ما أخذوا به مما رواه الصاحب وخالفه كرواية عائشة تحريم الرضاع بلبن الفحل ، ثم كانت لا تدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها . وروينا عن علي : من نذر أن يمشي إلى بيت الله فليركب وليهد هديا - . وروينا عنه أيضا يهدي بدنة . وعن ابن الزبير ، وابن عمر : يمشي فإذا أعيا يركب ويعود من قابل فيركب ما مشى ويمشي ما ركب . وقال أبو حنيفة : يمشي فإن ركب فليهد شاة فما فوقها . وقال مالك في رواية ابن وهب عنه : يمشي ، فإن عجز ركب وأهدى شاة فما فوقها - وروى عنه ابن القاسم أنه يمشي فإذا أعيا ركب ويعرف الموضع الذي ركب منه فإذا كان من قابل رجع فمشى ما ركب وركب ما مشى فإن كان ركوبه يوما فأقل لم يرجع لذلك ولكن عليه الهدي ، فإن ركب من مكة إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى منى إلى مكة رجع من قابل فمشى كل ذلك بخلاف الركوب يوما في الطريق وعليه مع ذلك هدي - فإن كان شيخا كبيرا مشى ولو نصف ميل ؛ ثم ركب ويهدي ولا يرجع ثانية . وقال الشافعي : يمشي فإن أعيا ركب وعليه هدي غير واجب ، ولكن احتياطا . وقال ابن شبرمة كقولنا : إن عجز ركب ولا شيء عليه . فأما قول مالك فتقسيم لا يعرف عن أحد من المتقدمين قبله ، وخلاف لكل ما روي في ذلك عن الصحابة ، وقول لا دليل على صحته . وروينا عن حماد بن سلمة عن حبيب عن عطاء فيمن جعل على نفسه المشي إلى البيت قال : يمشي من حيث نوى فإن لم ينو شيئا فليركب فإذا دخل الحرم مشى إلى البيت
903 - مسألة : فإن نذر أن يحج ماشيا ، أو يعتمر ماشيا فكما ذكرنا ولا يلزمه المشي إلا مذ يحرم إلى أن يتم مناسك عمله ؛ لأن هذا هو الحج ، فإن نذر المشي إلى مكة فكما قال عطاء : من حيث نوى ، فإن لم ينو فليمش ما يقع عليه اسم مشي وليركب غير ذلك ولا شيء عليه ؛ لأنه قد أوفى بما نذر - وبالله - تعالى - التوفيق .
904 - مسألة : ودخول مكة بلا إحرام جائز ؛ لأن النبي عليه السلام إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا ، أو عمرة ، ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة ، فلم يأمر الله - تعالى - قط ، ولا رسوله عليه السلام بأن لا يدخل مكة إلا بإحرام فهو إلزام ما لم يأت في الشرع إلزامه . وروينا عن ابن عباس : لا يدخل أحد مكة إلا محرما . وعن ابن عمر أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم . وعن ابن شهاب : لا بأس بدخول مكة بغير إحرام . وقال أبو حنيفة : أما من كان منزله بحيث يكون الميقات بينه وبينها فلا يدخلها إلا بإحرام بعمرة أو حجة ، وأما من كان منزله بين الميقات ومكة أو كان من أهل الميقات فله دخول مكة ولا إحرام . وقال مالك : لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام إلا من اختلف من الطائف وعسفان ، بالحطب ، والفاكهة : فله دخولها بلا إحرام ، وإلا العبيد فلهم دخولها بلا إحرام ، وإلا من خرج منها ، ثم رجع من قرب فله دخولها بلا إحرام . وقال الشافعي : لا يدخلها أحد إلا بإحرام . فأما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد ؛ لأنه تقسيم لا يعقل ولا له وجه ، وفيه إيجاب حج وعمرة لم يوجبها الله - تعالى - ولا رسوله عليه السلام ؛ وإنما يجب في الدين مرة في الدهر إلا من نذر ذلك فيجب أن يفي بنذره بالنص ، وقول مالك أيضا : كذلك سواء سواء - وما نعرف لهما في هذين القولين سلفا أصلا . والعجب من احتجاج من احتج في ذلك { بقول رسول الله ﷺ في مكة إنها حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت كحرمتها بالأمس } . فليت شعري بأي شيء استحلوا أن يوهموا في هذا الخبر ما ليس فيه أثر ولا دليل ؟ وإنما أخبر عليه السلام أن سفك الدماء والقتال حرام لم يحل لأحد قبله كما ذكرنا قبل هذا وليس في هذا الحديث للإحرام معنى . وقد صح أنه عليه السلام دخلها وعلى رأسه المغفر أو عمامة سوداء ، وهو غير محرم - وحتى لو لم يأت هذا لكان في أنه لم يأت بإيجاب الإحرام على من قصدها لغير حج ، أو عمرة كفاية . وبالله - تعالى - التوفيق .
905 - مسألة : ومن نذر أن يحج ، أو يعتمر ، ولم يكن حج ولا اعتمر قط فليبدأ بحجة الإسلام وعمرته ، ولا يجزيه إلا ذلك ، ولا يجزيه أن يحج ناويا للفرض ولنذره ، ولا لحجة فرض وعمرة نذر ، ولا لحجة نذر وعمرة فرض ؛ لأن عقد الله ثابت عليه قبل نذره ، فإن أخر ما قدمه الله - تعالى - فهو عاص والمعصية لا تنوب عن الطاعة ولا يجزي عمل واحد عن عملين مفترضين إلا حيث أجازه النص وقد قدمنا أن من ساق الهدي ففرض عليه أن يقرن فالعمرة الموجبة عليه لسوق الهدي هي غير التي نذر ؛ فلا يجزئه غير ما أمر به ولا يجزئه عمل عن عملين إلا حيث أجازه النص ، والقياس باطل . وقد أجمعوا أنه لا تجزئ صلاة عن صلاتين ، ووافقونا - نعني الحاضرين من خصومنا - على أنه لا يجزئ صوم يوم عن يومين ، ولا رقبة عن رقبتين ولا زكاة عن زكاتين ، فتناقضوا ، وبالله - تعالى - التوفيق . وروينا عن ابن عمر أنه سألته امرأة عمن نذر أن يحج ولم يكن حج بعد ؟ فقال : هذه حجة الإسلام وفي بنذرك . وعن أنس قال : يبدأ بالفريضة فيمن نذر ولم يكن حج بعد . وفي هذا خلاف . روينا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير فيمن نذر أن يحج ولم يكن حج حجة الإسلام ، قالا جميعا : تجزئه حجة الإسلام عنهما جميعا . وقال محمد بن الحسن ، وأبو يوسف : من حج حجة الإسلام فنوى بعمله فرضه ، والتطوع معا : أنه يجزئه عن حجة الإسلام ، وتبطل نية التطوع . فلو نذر أن يحج فحج ينوي نذره والتطوع معا ؟ قال أبو يوسف : يجزئه عن نذره فقط . وقال محمد : هي تطوع ولا تجزي عن النذر . قال أبو محمد : العمل كله باطل ؛ لأنه لم يخلص النية لما لزمه كما أمر .
906 - مسألة : من أهدى هدي تطوع فعطب في الطريق قبل بلوغه مكة ، أو منى فلينحره ، وليلق قلائده في دمه وليخل بين الناس وبينه ؛ وإن قسمه بين الناس ضمن مثل ما قسم . فلو قال : شأنكم به أو نحو هذا فلا بأس ؛ ولا يحل له أن يأكل هو ولا رفقاؤه منه شيئا ، فمن أكل منهم منه أدى إلى المساكين لحما مثل ما أكل فقط - الغنم ، والبقر ، والإبل في كل ذلك سواء . فإن بلغ محله ففرض عليه أن يأكل منه ولا بد ، ويتصدق منه ولا بد - وهكذا روينا عن طائفة من السلف . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان ، ومعمر ، كليهما عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هدي التطوع يعطب : لينحره ، ثم ليغمس نعله في دمه ، ثم ليضرب بالنعل صفحته فإن أكل منه ، أو أمر بأكله غرم . فإن كان واجبا فعطب فلينحره ، ثم ليغمس نعله في دمه ، ثم ليضرب بالنعل صفحته فإن شاء أكل ، وإن شاء أهدى ؛ وإن شاء تقوى به في ثمن أخرى - وعن عطاء مثل هذا كله - وعن ابن المسيب في التطوع مثله . وروينا خلاف هذا من طريق حماد بن سلمة : أخبرني حماد هو ابن أبي سليمان - عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد أن عائشة أم المؤمنين قالت في الهدي يعطب في الطريق : كلوه ولا تدعوه للكلاب ، والسباع ، فإن كان واجبا فأهدوا مكانه هديا ، وإن كان تطوعا فإن شئتم فلا تهدوا وإن شئتم فأهدوا . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه عطبت له بدنة تطوع فنحرها ابن عمر وأكلها ولم يهد مكانها . ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان هو ابن عيينة - عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : إذا أهديت هديا - وهو تطوع - فعطب فانحره ، ثم اغمس النعل في دمه ، ثم اضرب به صفحته ، ثم كله إن شئت ، واهده إن شئت وتقو به في هدي آخر . وعن ابن مسعود إذا ساق الهدي تطوعا فعطب : كل وأطعم وليس عليك البدل - وهو قول نافع أيضا . وعن سعيد بن جبير إذا عطب الهدي قبل محله فكل من التطوع ، ولا تأكل من الواجب . وروينا قولا آخر عن سعيد بن المسيب قال : يدعها تموت فرجعنا إلى السنة فوجدنا ما روينا من طريق أبي داود نا مسدد نا حماد عن أبي التياح عن موسى بن سلمة عن ابن عباس قال { بعث رسول الله ﷺ مع فلان الأسلمي ثمان عشرة بدنة فقال : أرأيت إن أزحف علي منها شيء ؟ فقال رسول الله عليه السلام : تنحرها ثم تصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك } ومن طريق أبي داود نا محمد بن كثير نا سفيان هو الثوري - عن هشام بن عروة عن أبيه { عن ناجية الأسلمي أن رسول الله عليه السلام بعث معه بهدي فقال : إن عطب منها شيء فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس } فهذا عموم لكل هدي . قال أبو محمد : قال أبو حنيفة : له أن يتصدق بها - وهذا خلاف أمر رسول الله عليه السلام ؛ لأنه إذا تولى توزيعها - : فلم يخل بين الناس وبينها . وقال مالك : إن أكل منها شيئا ضمن الهدي كله . وهذا خطأ ؛ لأن الله - تعالى - قال : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ومن الباطل المحال أن يأكل لقمة فيغرم عنها ناقة من أصلها ، وهذا عدوان لا شك فيه . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان : لا يغرم إلا مثل ما أكل . وهذا مما يتناقض فيه أبو حنيفة ، ومالك ، فأخذا فيه برواية ابن عباس وتركا رأيه الذي خالف فيه ما روي - وبالله - تعالى - التوفيق .
907 - مسألة : فإن كان الهدي عن واجب - وهي ستة أهداء فقط لا سابع لها - : إما جزاء صيد ، وإما هدي المتمتع ، وإما هدي الإحصار ، وإما نسك فدية الأذى ، وإما هدي من نذر مشيا إلى الكعبة فركب ، وإما نذر هدي . وهذا الهدي ينقسم قسمين - : قسم بغير عينه ، وقسم منذور بعينه - فإن عطب الواجب قبل بلوغه محله فعل به صاحبه ما شاء من بيع أو أكل أو هدية أو صدقة ويهدي ما وجب عليه ولا بد حاشا المنذور بعينه فإنه ينحره ويتركه ولا يبدله ؛ لأنه إنما عليه في كل ما ذكرنا هدي واجب في ماله وذمته فعليه أن يأتي به أبدا وما لم يؤده عما عليه فهو مال من ماله يفعل فيه ما شاء عطب أو لم يعطب . وأما المنذور بعينه فهو خارج عن ماله لا حق له فيه وليس عليه أن يبدله إلا أن يتعدى عليه فيهلكه فيضمنه بالوجه الذي نذره له ؛ لأنه اعتدى على حق غيره فعليه مثله . وأما من منع من تحكم المرء في هديه ما لم يبلغه محله فمبطل بلا دليل ، وإنما خرج من ذلك التطوع يعطب قبل محله بالنص الذي أوردنا . والتطوع ثلاثة أهداء لا رابع لها - : من ساق هديا في قران أو في عمرة وهو لا يريد أن يحج من عامه ، أو أهدى وهو لا يريد حجا ولا عمرة .
908 - مسألة : ويأكل من هدي التطوع إذا بلغ محله ولا بد كما قلنا ولا يحل له أن يأكل من شيء من الأهداء الواجبة إذا بلغت محلها فإن أكل ضمن مثل ما أكل فقط ، ولا يعطى في جزارة الهدي شيء منه أصلا ويتصدق بجلاله وجلوده ولا بد . أما التطوع فلقول الله - تعالى - : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ، وأمر الله - تعالى - فرض . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه { عن جابر بن عبد الله فذكر حجة رسول الله ﷺ قال جابر ثم انصرف رسول الله عليه السلام إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ، ثم أمر في كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها } فهذا أمر منه عليه السلام بأخذ البضعة وطبخها ولم يقتصر على الأكل من بعض الهدي دون بعض . ومن طريق محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمران بن يزيد نا شعيب بن إسحاق نا ابن جريج نا الحسن بن مسلم أن مجاهدا أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخبره { أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله ﷺ أمره أن يقسم بدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها في المساكين ولا يعطي في جزارتها منها شيئا } . قال أبو محمد : من جعل بعض أوامره عليه السلام في كل ما ذكرنا فرضا وبعضها ندبا فقد تحكم في دين الله - تعالى - بالباطل وبما لا يحل من القول . وروينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أنه بعث بهدي وقال : كل أنت وأصحابك ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى آل عتبة ثلثا . ومن طريق وكيع عن ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال : الضحايا والهدايا : ثلث لأهلك ، وثلث لك ، وثلث للمساكين . وعن معمر عن عاصم عن أبي مجلز : أن ابن عمر أمر أن يدفع له من أضحيته بضعة ويتصدق بسائرها . واختلف الناس فيما يؤكل من الهدي - : فروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : يؤكل من كل شيء إلا من جزاء صيد ونذر . وعن علي : لا يؤكل من جزاء الصيد ولا من النذر ولا مما جعل للمساكين . وعن معمر عن قتادة عن الحسن : يؤكل من الهدي كله إلا من جزاء الصيد - وقال الأوزاعي يؤكل من الهدي خمسة : النذر ، والمتعة ، والتطوع ، والوصية ، والمحصر ، إلا الكفارات كلها . وقال أبو حنيفة : لا يؤكل من شيء من الهدي إلا المتعة ، والقران ، والتطوع إذا بلغ محله - وقال مالك : يؤكل من كل شيء من الهدي إلا التطوع إذا لم يبلغ محله ، وجزاء الصيد ، وفدية الأذى ، ونذر المساكين . قال أبو محمد : هذه آراء مجردة لا دليل على شيء منها . واحتج بعضهم بأن يؤكل من كل هدي إلا ما جعل للمساكين . فقلنا : وأين وجدتم أن جزاء الصيد للمساكين ، وأن هدي المتعة والإحصار ليس للمساكين ؟ وقال بعضهم : قسنا هدي المتعة على هدي القران . فقلنا : أين وجدتم أن على القارن هديا يلزمه بعد قرانه ؟ وقد مضى الكلام في هذا - وبالله - تعالى - التوفيق . قال علي : كل هدي أوجبه الله - تعالى - فرضا فقد ألزم صاحبه إخراجه من ماله وقطعه منه ؛ فإذ هو كذلك فلا يحل له ما قد سقط ملكه عنه إلا بنص ؛ لكن يأكل منه أهله وولده إن شاءوا ؛ لأنهم غيره إلا ما سمي للمساكين فلا يأكلوا منه إن لم يكونوا مساكين - وبالله - تعالى - التوفيق .
909 - مسألة : والأضحية للحاج مستحبة كما هي لغير الحاج . وقال قوم : لا يضحي الحاج . روينا من طريق مسلم نا عمرو الناقد نا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت : { خرجنا مع رسول الله ﷺ ولا نرى إلا الحج فذكرت الحديث ، وفيه فضحى رسول الله عليه السلام عن نسائه بالبقر } . ومن طريق البخاري نا مسدد نا سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه { عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي عليه السلام دخل عليها وقد حاضت بسرف قبل أن تدخل مكة فأخبرته أنها حاضت ، فقال لها عليه السلام : فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت قالت : فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر كثير فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : ضحى رسول الله عليه السلام عن نسائه بالبقر } . ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : الهدي ما قلد وأشعر ووقف به بعرفة وإلا فإنما هي ضحايا . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا سليمان بن حرب نا حماد بن زيد حدثني عبد الله بن الحسن بن أبي الحسن البصري أن الحسن أباه تمتع فذبح شاتين شاة لمتعته وشاة لأضحيته . وقد حض رسول الله عليه السلام على الأضحية فلا يجوز أن يمنع الحاج من الفضل والقربة إلى الله - تعالى - بغير نص في ذلك
910 - مسألة : وإن وافق الإمام يوم عرفة يوم جمعة : جهر ، وهي صلاة جمعة ، ويصلي الجمعة أيضا بمنى وبمكة ؛ لأن النص لم يأت بالنهي عن ذلك . وقال - تعالى - { : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فلم يخص الله - تعالى - بذلك غير يوم عرفة ومنى من عرفة ومنى . وروينا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مسلم بن إبراهيم نا بشر بن منصور عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال : إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة : جهر الإمام بالقراءة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء مثله - وهو قول أبي سليمان . فإن ذكروا خبرا رويناه من طريق إبراهيم بن أبي يحيى عن عبد العزيز بن عمر عن الحسن بن مسلم قال : { وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه السلام فقال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل ، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب } قال عبد العزيز : وفعل عمر بن الخطاب مثل ذلك . وبه إلى إبراهيم بن أبي يحيى عن الحجاج بن أرطاة عن وبرة قال : وافق يوم عرفة يوم جمعة فصلى ابن الزبير الظهر ولم يجهر بالقراءة - : فهذا خبر موضوع فيه كل بلية . إبراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل ، ثم هو مرسل ، وفيه عن ابن الزبير مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة وهو ساقط ؛ ثم الكذب فيه ظاهر ؛ لأن يوم التروية في حجة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس وكان يوم عرفة يوم الجمعة - : روينا ذلك من طريق البخاري نا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عوف نا أبو العميس نا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب " أن هذه الآية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزلت على رسول الله عليه السلام وهو قائم بعرفة يوم جمعة " . فإن قيل : إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر ؟ قلنا : نعم ، وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها وليس في شيء من الآثار أنه عليه السلام لم يجهر فيها ، والجهر أيضا ليس فرضا وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان .
911 - مسألة : ولا يجوز تأخير الحج والعمرة عن أول أوقات الاستطاعة لهما ؛ فمن فعل ذلك فقد عصى وعليه أن يعتمر ويحج - وهو قول مالك ، وأبي سليمان - وقال الشافعي : هو في سعة إلى آخر عمره . برهان صحة قولنا قول الله - عز وجل - : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وقال - تعالى - { : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولا خلاف في أن هذا متوجه إلى كل مستطيع ؛ فلا يخلو المستطيع من أن يكون مفترضا عليه الحج أو لا يكون مفترضا عليه الحج ؛ فإن كان مفترضا عليه فهو مأمور به في عامه - وهو قولنا ، وهو إن لم يحج معطل فرض وإن كان ليس مفترضا عليه الحج فهذا خلاف القرآن . وأيضا فإن كان مفسوحا له إلى آخر عمره فإنما تلحقه الملامة بعد الموت ، والملامة لا تلحق أحدا بعد الموت ، فصح أنه ملوم في حياته . فإن احتجوا بأن النبي عليه السلام أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج إلا في آخرها ؟ قلنا : لا بيان عندكم متى افترض الله - تعالى - الحج ، وممكن أن لا يكون افترض إلا عام حج عليه السلام ، وما لا نص بينا فيه فلا حجة فيه ، إلا أننا موقنون أن رسول الله ﷺ لا يدع الأفضل إلا لعذر مانع ، ولا يختلفون معنا في أن التعجيل أفضل . فإن ذكروا تأخير الصلاة إلى آخر وقتها . قلنا : هذا جاء به النص فأوجدونا نصا بينا في جواز تأخير الحج وهو قولكم حينئذ ، ولا سبيل إلى هذا - وبالله - تعالى - التوفيق .
912 - مسألة : وإنما تراعى الاستطاعة بحيث لو خرج من المكان الذي حدثت له فيه الاستطاعة فيدرك الحج في وقته والعمرة ، فإن استطاع قبل ذلك العام كله وبطلت استطاعته في الوقت المذكور لم يكن مستطيعا ولا لزمه الحج ؛ لأنه لم يكلف العمرة والحج إلا في وقت الحج فيكون قارنا ، أو متمتعا .