مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
فصل في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
[عدل]وقال أيضا شيخ الإسلام قدس الله روحه:
قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } 1، وهو منزل من الله، كما قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ } 2. فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك، والعلم لا يكون إلا حقًا.
وقال تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } 3، { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } 4، { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } 5، وقال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } 6، وقال تعالى: { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } 7 ونحو ذلك، وقال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 8.
فأخبر سبحانه أنه منزل من الله، ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه؛ بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك.
ولهذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فإن من قال: إنه مخلوق يقول: إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها، فمن ذلك المخلوق نزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله تعالى أنه منزل من الله يناقض أن يكون قد نزل من غير الله؛ ولهذا فسر الإمام أحمد قوله: منه بدأ أي: هو المتكلم به. وقال أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن عنه.
وأيضا، فلو كان مخلوقًا في غيره لم يكن كلامه، بل كان يكون كلامًا لذلك المخلوق فيه، وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور، لو كان مخلوقًا في غيره لم يكن الرب تعالى متصفًا به، بل كان يكون صفة لذلك المحل؛ فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره، فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفًا بصفة موجودة قائمة بغيره؛ لأن ذلك فطري، فما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به، وهذا مبسوط في مواضع أخر.
ولم يقل السلف: إن النبي سمعه من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين، قال الله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } 9 وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال لي النبي ﷺ: «اقرأ علَيَّ القرآن». قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري». فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت إلى هذه الآية { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } 10. قال: «حَسْبُكَ»، فنظرت فإذا عيناه تذْرِفان من البكاء.
والنبي ﷺ سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } 11، وقال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } 12، وقال تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ َواللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 13 فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس وهو الروح الأمين، وهو جبريل من الله بالحق، ولم يقل أحد من السلف: إن النبي ﷺ سمعه من الله، وإنما قال ذلك بعض المتأخرين.
وقوله تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } 14، هو كقوله تعالى: { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } 15، وقوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } 16 ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته؛ فإن لفظ نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه، فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها، تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه، فهو سبحانه أحق باسم 17 و 18 ونحو ذلك من كل ما يستعمل.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ يُعَالِج 19 من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله ﷺ يحركهما. وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } 20 قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } 21
فإذا قرأه رسولنا، وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } 22 أي نقرؤه. فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي ﷺ كما قرأه.
وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } 23 فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحيًا، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولا فيوحى الرسول بإذن الله ما يشاء، وقال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } 24 فإذا أرسل الله تعالى رسولا كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به، كما قال تعالى: { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } 25 وإنما نبأهم بواسطة الرسول والرسول مبلغ به، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } 26، وقال تعالى: { لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } 27، وقال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } 28.
والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه. ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: «بلَّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وقال ﷺ لما خطب المسلمين: «ليبلِّغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مُبلَّغ أوْعَى من سامع»، وقال ﷺ: «نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل غير فقيه، ورب حامل فِقْهٍ إلى من هو أفقه منه»، وفي السنن عن جابر قال: كان النبي ﷺ يعْرِض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي».
وكما لم يقل أحد من السلف: إنه مخلوق، فلم يقل أحد منهم: إنه قديم، لم يقل واحدًا من القولين أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله. ولما ظهر من قال: إنه مخلوق، قالوا ردًا لكلامه: إنه غير مخلوق، ولم يريدوا» بذلك أنه مفترى، كما ظنه بعض الناس، فإن أحدًا من المسلمين لم يقل: إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا: إنه مخلوق، خلقه الله في غيره، فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنف في ذلك مصنفات متعددة، وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.
وأول من عرف أنه قال: مخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال: هو قديم: عبد الله بن سعيد بن كُلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول.
فمنهم من قال: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، ومعني القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه هو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل هو مخلوق خلقه في غيره. وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار. فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى آية الكرسي ليس معنى آية الدين ولا معني { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } معنى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ، فكيف بمعاني كلام الله كله في الكتب المنزلة، وخطابه لملائكته، وحسابه لعباده يوم القيامة، وغير ذلك من كلامه؟
ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، لم يزل ولا يزال موصوفًا بها.
وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يأيها المزمل، يأيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين. ولم يقل أحد من السلف: إن هذا القرآن عبارة عن كلام الله، ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم: إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلا عن أن يقول: إن صوتي به قديم أو غير مخلوق، بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله، والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم، وما بين اللوحين كلام الله، وكلام الله غير مخلوق.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوِّ»، وقال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } 29، والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق، والصوت الذي يقرأ به هو صوت العبد، والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الباري، والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، كما قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } 30، وقال النبي ﷺ: «زَيِّنُوا القرآن بأصواتكم»، فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي ﷺ: لو علمتُ أنك تسمع لَحَبَّرْتُه لك تحبيرًا».
فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقًا للكتاب والسنة، وقد قال تعالى: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } 31، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } 32، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } 33، وقال تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 34، ففرق سبحانه بين المداد الذي تكتب به كلماته وبين كلماته، فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق وكلمات الله غير مخلوقة، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } 35، فالأبحر إذا قدرت مدادا تنفد، وكلمات الله لا تنفد؛ ولهذا قال أئمة السنة: لم يزل الله متكلمًا كيف شاء وبما شاء، كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع، فقال تعالى: { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } 36، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } 37، { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } 38، وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة طه ومريم وال طس الثلاث وفي سورة والنازعات وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } 39، وقال تعالى: { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } 40، وقال تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } 41.
واستفاضت الآثار عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت، نادى موسى، وينادى عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم: إن الصوت الذي سمعه موسى قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم: إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به وبين أصوات العباد.
وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية، كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال: إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل. وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت. وقد ذكر من صنف في السنة... من ذلك قطعة، وعلى ذلك ترجم عليه البخاري في صحيحه بقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } 42 وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال مما يبين به الفرق بين الصوتين آثارًا متعددة. وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره بعد موت أحمد بسنين، ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه.
وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول قال: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله، والنبي ﷺ سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله ﷺ وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا؛ مسموعًا، ومكتوبًا، ومحفوظًا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين.
وقد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة تنازعوا في اللفظ بالقرآن، هل يقال: إنه مخلوق؟ ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال: إنه مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع. وأما صوت العبد فلم يتنازعوا أنه مخلوق؛ فإن المبلغ لكلام غيره بلفظ صاحب الكلام إنما بلغ غيره، كما يقال: روى الحديث بلفظه، وإنما يبلغه بصوت نفسه لا بصوت صاحب الكلام.
واللفظ في الأصل: مصدر لفظ يلفظ لفظًا، وكذلك التلاوة والقراءة مصدران، لكن شاع استعمال ذلك في نفس الكلام الملفوظ المقروء المتلو، وهو المراد باللفظ في إطلاقهم، فإذا قيل: لفظي أو اللفظ بالقرآن مخلوق، أشعر أن هذا القرآن الذي يقرؤه ويلفظ به مخلوق، وإذا قيل: لفظي غير مخلوق أشعر أن شيئًا مما يضاف إليه غير مخلوق، وصوته وحركته مخلوقان، لكن كلام الله الذي يقرؤه غير مخلوق، و التلاوة قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعهما. فإذا أريد بها الكلام نفسه الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام، فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره.
ولم يكن أحد من السلف يريد بالتلاوة مجرد قراءة العباد، وبالمتلو مجرد معنى واحد يقوم بذات الباري تعالى بل الذي كانوا عليه أن القرآن كلام الله، تكلم الله به بحروفه ومعانيه، ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما، بل قد كفر الله من جعله قول البشر، مع أنه سبحانه أضافه تارة إلى رسول من البشر وتارة إلى رسول من الملائكة، فقال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } 43، فالرسول هنا محمد ﷺ، وقال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } 44. فالرسول هنا جبريل.
وأضافه سبحانه إلى كل منهما باسم رسول؛ لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره، وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئًا منه؛ إذ لو كان قد أحدث منه شيئًا لم يكن رسولا فيما أحدثه، بل كان منشئًا له من تلقاء نفسه، وهو سبحانه يضيفه إلى رسول من الملائكة تارة ومن البشر تارة، فلو كانت الإضافة لكونه أنشأ حروفه لتناقض الخبران؛ فإن إنشاء أحدهما له يناقض إنشاء الآخر له. وقد كفر الله تعالى من قال: إنه قول البشر، فمن قال: إن القرآن أو شيئًا منه قول بشر أو ملك، فقد كذب، ومن قال: إنه قول رسول من البشر ومن الملائكة، بلغه عن مرسله ليس قولا أنشأه، فقد صدق، ولم يقل أحد من السلف: إن جبريل أحدث ألفاظه ولا محمدا ﷺ، ولا أن الله تعالى خلقها في الهواء أو غيره من المخلوقات، ولا أن جبريل أخذها من اللوح المحفوظ، بل هذه الأقوال هي من أقوال بعض المتأخرين.
وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على تنازع المبتدعين الذين اختلفوا في الكتاب وبين فساد أقوالهم، وأن القول السديد هو قول السلف وهو الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، وإن كان عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه، ولا وحدوه في كتاب من الكتب التي يتداولونها؛ لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها؛ ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالا مبتدعة؛ إما قولين، وإما ثلاثة، وإما أربعة، وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره؛ لأنه لا يعرفه؛ ولهذا تجد الفاضل من هؤلاء حائرًا مقرًا بالحيرة على نفسه وعلى من سبقه من هؤلاء المختلفين؛ لأنه لم يجد فيما قالوه قولا صحيحًا.
وكان أول من ابتدع الأقوال الجهمية المحضة النفاة الذين لا يثبتون الأسماء والصفات، فكانوا يقولون أولا: إن الله تعالى لا يتكلم، بل خلق كلاما في غيره، وجعل غيره يعبر عنه، وأن قوله تعالى: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } 45 وقول النبي ﷺ: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ » معناه: أن ملكا يقول ذلك عنه، كما يقال: نادى السلطان، أي أمر مناديا ينادي عنه، فإذا تلا عليهم ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أنه يقول ويتكلم. قالوا: هذا مجاز؛ كقول العربي:
امتلأ الحوض وقال: قطني
وقالت: اتساع بطنه، ونحو ذلك.
فلما عرف السلف حقيقته، وأنه مُضَاهٍ لقول المتفلسفة المعطلة الذين يقولون: إن الله تعالى لم يتكلم، وإنما أضافت الرسل إليه الكلام بلسان الحال كَفَّروهم وبينوا ضلالهم، ومما قالوا لهم: إن المنادي عن غيره كمنادي السلطان يقول: أمر السلطان بكذا، خرج مرسومه بكذا، لا يقول: إني آمركم بكذا وأنهاكم عن كذا، والله تعالى يقول في تكليمه لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } 46 ويقول تعالى إذا نزل ثلث الليل الغابر: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟ »، وإذا كان القائل ملكا قال كما في الحديث الذي في الصحيحين: «إذا أحب الله العبد نادى في السماء: يا جبريل، إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض »، فقال جبريل في ندائه عن الله تعالى: «إن الله يحب فلانا فأحبوه»، وفي نداء الرب يقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ».
فإن قيل: فقد روى أنه يأمر مناديا فينادي، قيل: هذا ليس في الصحيح، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر مناديا ينادي، أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول، مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟ » فلا يجوز.
وكذلك جَهْم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئًا ولا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز، قال: لأنه إذا سمى باسم تسمى به المخلوق كان تشبيهًا، وكان جهم مجبرًا يقول: إن العبد لا يفعل شيئًا؛ فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادرًا؛ لأن العبد عنده ليس بقادر.
ثم إن المعتزلة الذين اتبعوا عمرو بن عبيد على قوله في القَدر والوعيد دخلوا في مذهب جهم، فأثبتوا أسماء الله تعالى ولم يثبتوا صفاته، وقالوا: نقول: إن الله متكلم حقيقة، وقد يذكرون إجماع المسلمين على أن الله متكلم حقيقة؛ لئلا يضاف إليهم أنهم يقولون: إنه غير متكلم، لكن معنى كونه سبحانه متكلمًا عندهم: أنه خلق الكلام في غيره، فمذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون: هو متكلم حقيقة، وأولئك ينفون أن يكون متكلمًا حقيقة. وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام، ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولا محب ولا راض ولا مبغض ولا رحيم إلا من قامت به الإرادة والمحبة والرضى والبغض والرحمة، وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة. وغيرهم من أئمة المسلمين ليس فيهم من يقول بقول المعتزلة، لا في نفي الصفات، ولا في القدر، ولا المنزلة بين المنزلتين، ولا إنفاذ الوعيد.
ثم تنازع المعتزلة والكلابية في حقيقة المتكلم، فقالت المعتزلة: المتكلم من فعل الكلام ولو أنه أحدثه في غيره، ليقولوا: إن الله يخلق الكلام في غيره وهو متكلم به. وقالت الكُلابيّة: المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلمًا بمشيئته وقدرته، ولا فعل فعلا أصلا، بل جعلوا المتكلم بمنزلة الحي الذي قامت به الحياة، وإن لم تكن حياته بمشيئته ولا قدرته ولا حاصلة بفعل من أفعاله.
وأما السلف وأتباعهم وجمهور العقلاء فالمتكلم المعروف عندهم من قام به الكلام، وتكلم بمشيئته وقدرته. لا يعقل متكلم لم يقم به الكلام، ولا يعقل متكلم بغير مشيئته وقدرته، فكان كل من تينك الطائفتين المبتدعتين أخذت بعض وصف المتكلم؛ المعتزلة أخذوا أنه فاعل، والكلابية أخذوا أنه محل الكلام، ثم زعمت المعتزلة أنه يكون فاعلا للكلام في غيره، وزعموا هم ومن وافقهم من أتباع الكلابية كأبي الحسن وغيره أن الفاعل لا يقوم به الفعل، وكان هذا مما أنكره السلف وجمهور العقلاء، وقالوا: لا يكون الفاعل إلا من قام به الفعل، وأنه يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول، وذكر البخاري في كتاب خلق أفعال العباد إجماع العلماء على ذلك.
والذين قالوا: إن الفاعل لا يقوم به الفعل، وقالوا مع ذلك: إن الله فاعل أفعال العباد كأبي الحسن وغيره، وأن العبد لم يفعل شيئًا وأن جميع ما يخلقه العبد فعل له، وهم يصفونه بالصفات الفعلية المنفصلة عنه ويقسمون صفاته إلى صفات ذات وصفات أفعال، مع أن الأفعال عندهم هي المفعولات المنفصلة عنه، فلزمهم أن يوصف بما خلقه من الظلم والقبائح مع قولهم: إنه لا يوصف بما خلقه من الكلام وغيره، فكان هذا تناقضًا منهم تسلطت به عليهم المعتزلة. ولما قرروا ما هو من أصول أهل السنة، وهو أن المعنى إذا قام بمحل اشتق له منه اسم ولم يشتق لغيره منه اسم كاسم المتكلم، نقض عليهم المعتزلة ذلك باسم الخالق والعادل، فلم يجيبوا عن النقض بجواب سديد.
وأما السلف والأئمة فأصلهم مطرد، ومما احتجوا به على أن القرآن غير مخلوق ما احتج به الإمام أحمد وغيره من قول النبي ﷺ: «أعوذ بكلمات الله التامات». قالوا: والمخلوق لا يستعاذ به، فعورضوا بقوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك»، فطرد السلف والأئمة أصلهم وقالوا: معافاته: فعله القائم به، وأما العافية الموجودة في الناس فهي مفعوله.
وكذلك قالوا: إن الله خالق أفعال العباد، فأفعال العباد القائمة بهم مفعولة له لا نفس فعله، وهي نفس فعل العبد، وكان حقيقة قول أولئك نفي فعل الرب ونفي فعل العبد، فتسلطت عليهم المعتزلة في مسألة الكلام والقدر تسلطًا بينوا به تناقضهم كما بينوا هم تناقض المعتزلة.
وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيًا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقًا لما جاء به الرسول ﷺ ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقًا لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وممن له قلب يعقل به وأذن يسمع بها، بخلاف الذين قالوا: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } 47.
وقد وافق الكلابية على قولهم كثير من أهل الحديث والتصوف، ومن أهل الفقه المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، وليس من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين من يقول بقولهم
وحدث مع الكلابية ونحوهم طوائف أخرى من الكرامية وغير الكرامية من أهل الفقه. والحديث والكلام فقالوا: إنه سبحانه متكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته، ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا: إنه لم يكن يمكنه في الأزل أن يتكلم، بل صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، من غير حدوث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه، وهذا القول مما وافق الكرامية عليه كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل قولهم. وهذا مما شاركوا فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن هؤلاء كلهم يقولون: إنه لم يكن الكلام ممكنًا له في الأزل ثم صار ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه من غير حدوث سبب أوجب إمكانه، لكن الجهمية والمعتزلة يقولون: إنه خلق كلامًا في غيره من غير أن يقوم به كلام؛ لأنه لو قام به كلام بمشيئته وقدرته لقامت به الحوادث، قالوا: ولا تقوم به الحوادث. قالت الجهمية والمعتزلة: لأن الحوادث هي من جملة الصفات التي يسمونها الأعراض، وعندهم لا يقوم به شيء من الصفات، قالوا: لأن الصفات أعراض، والعَرَض لا يقوم إلا بجسم وليس هو بجسم؛ لأن الجسم لا يخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وقالت الكلابية: بل تقوم به الصفات ولا تقوم به الحوادث، ونحن لا نسمى الصفات أعراضًا؛ لأن العرض عندنا لا يبقى زمانين، وصفات الله تعالى باقية. وقالوا: وأما الحوادث فلو قامت به لم يخل منها؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فقال الجمهور المنازعون للطائفتين: أما قول أولئك: أنه لا تقوم به الصفات؛ لأنها أعراض والعَرَض لا يقوم إلا بجسم وليس بجسم، فتسمية ما يقوم بغيره عرضًا اصطلاح حادث، وكذلك تسمية ما يشار إليه جسما اصطلاح حادث أيضا، والجسم في لغة العرب هو البدن وهو الجسد كما قال غير واحد من أهل اللغة، منهم الأصمعي وأبو عمرو، فلفظ الجسم يشبه لفظ الجسد وهو الغليظ الكثيف. والعرب تقول: هذا جسيم، وهذا أجسم من هذا، أي أغلظ منه، قال تعالى: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } 48، وقال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } 49، ثم قد يراد بالجسم نفس الغلظ والكثافة، ويراد به الغليظ الكثيف.
وكذلك النُّظَّار يريدون بلفظ الجسم تارة المقدار، وقد يسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر، وهو الجسمي الطبيعي، والمقدار المجرد عن المقدر كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان. وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن. قالوا: وإذا كان هذا معنى الجسم بلغة العرب، فهو أخص من المشار إليه؛ فإن الروح القائمة بنفسها لا يسمونها جسمًا، بل يقولون: خرجت روحه من جسمه، ويقولون: إنه جسم وروح، ولا يسمون الروح جسمًا، ولا النفس الخارج من الإنسان جسمًا، لكن أهل الكلام اصطلحوا على أن كل ما يشار إليه يسمى جسمًا، كما اصطلحوا على أن كل ما يقوم بنفسه يسمى جوهرًا، ثم تنازعوا في أن كل ما يشار إليه هل هو مركب من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو ليس مركبًا لا من هذا ولا من هذا، على أقوال ثلاثة، قد بسطت في غير هذا الموضع؛ ولهذا كان كثير منهم يقولون: الجسم عندنا هو القائم بنفسه، أو هو الموجود لا المركب.
قال أهل العلم والسنة: فإذا قالت الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم، والله تعالى ليس بجسم، قيل لهم: إن أردتم بالجسم ما هو مركب من جواهر فردة أو ما هو مركب من المادة والصورة لم نسلم لكم المقدمة الأولى، وهي قولكم: إن الصفات لا تقوم إلا بما هو كذلك، قيل لكم: إن الرب تعالى قائم بنفسه، والعباد يرفعون أيديهم إليه في الدعاء، ويقصدونه بقلوبهم، وهو العلي الأعلى سبحانه ويراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة عيانا، كما يرون القمر ليلة البدر، فإن قلتم: إن ما هو كذلك فهو جسم وهو محدث، كان هذا بدعة مخالفة للغة والشرع والعقل، وإن قلتم: نحن نسمى ما هو كذلك جسمًا ونقول: إنه مركب، قيل: تسميتكم التي ابتدعتموها هي من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ومن عمد إلى المعاني المعلومة بالشرع والعقل وسماها بأسماء منكرة لينفر الناس عنها، قيل له: النزاع في المعاني لا في الألفاظ، ولو كانت الألفاظ موافقة للغة، فكيف إذا كانت من ابتداعهم؟ ومعلوم أن المعاني التي يعلم ثبوتها بالشرع والعقل لا تدفع بمثل هذا النزاع اللفظي الباطل.
وأما قولهم: إن كل ما كان تقوم به الصفات، وترفع الأيدي إليه، ويمكن أن يراه الناس بأبصارهم، فإنه لابد أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهذا ممنوع؛ بل هو باطل عند جمهور العقلاء؛ من النظار والفقهاء وغيرهم، كما قد بسط في موضعه.
قال الجمهور: وأما تفريق الكلابية بين المعاني التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث، ومنهم من يسمى الصفات أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين فيقال: قول القائل: إن العَرَض الذي هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو ذلك لا يبقى زمانين قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف، بل من الناس من يقول: إنه معلوم الفساد بالاضطرار، كما قد بسط في موضع آخر.
وأما تسمية المسمى للصفات أعراضًا، فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام، ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم، والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيه اختلاف الاصطلاحات، بل يعد هذا من النزاعات اللفظية، والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف، فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين، وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
وأما قول الكلابية: ما يقبل الحوادث لا يخلو منها، و ما لم يخل من الحوادث فهو حادث فقد نازعهم جمهور العقلاء في كلا المقدمتين، حتى أصحابهم المتأخرون نازعوهم في ذلك، واعترفوا ببطلان الأدلة العقلية التي ذكرها سلفهم على نفي حلول الحوادث به، واعترف بذلك المتأخرون من أئمة الأشعرية والشيعة والمعتزلة وغيرهم، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وحدثت طائفة أخرى من السالمية وغيرهم ممن هو من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، ومنهم كثير ممن هو ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكثر هذا في بعض المتأخرين المنتسبين إلى أحمد بن حنبل فقالوا بقول المعتزلة وبقول الكلابية، وافقوا هؤلاء في قولهم: إنه قديم، ووافقوا أولئك في قولهم: إنه حروف وأصوات، وأحدثوا قولا مبتدعًا كما أحدث غيرهم فقالوا: القرآن قديم، وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لنفس الله تعالى أزلا وأبدًا.
واحتجوا على أنه قديم بحجج الكلابية، وعلى أنه حروف وأصوات بحجج المعتزلة. فلما قيل لهم: الحروف مسبوقة بعضها ببعض، فالباء قبل السين والسين قبل الميم، والقديم لا يسبق بغيره، والصوت لا يتصور بقاؤه فضلا عن قدمه، قالوا: الكلام له وجود وماهية، كقول من فرق بين الوجود والماهية من المعتزلة وغيرهم. قالوا: والكلام له ترتيب في وجوده، وترتيب ماهية الباء للسين بالزمان هي في وجوده وهي مقارنة لها في ماهيتها لم تتقدم عليها بالزمان، وإن كانت متقدمة بالمرتبة كتقدم بعض الحروف المكتوبة على بعض؛ فإن الكاتب قد يكتب آخر المصحف قبل أوله، ومع هذا فإذا كتبه كان أوَّله متقدما بالمرتبة على آخره.
فقال لهم جمهور العقلاء: هذا مما يعلم فساده بالاضطرار؛ فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الموجود في الخارج دعوى فاسدة، كما قد بسط في موضع آخر، والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية، والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني، بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول: يعني بالقديم أنه بدأ من الله، وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح، لكن الذين نازعوا: هل هو قديم أو ليس بقديم، لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم: إنه قديم وأراد هذا المعنى، قد أراد معنًى صحيحًا، لكنه جاهل بمقاصد الناس، مضل لمن خاطبه بهذا الكلام، مبتدع في الشرع واللغة.
ثم كثير من هؤلاء يقولون: إن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف، ومنهم من يقول: بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول: بل يسمع من القارئ شيئان: الصوت القديم، وهو ما لابد منه في وجود الكلام، والصوت المحدث، وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون: المداد الذي في المصحف مخلوق، لكن الحروف القديمة ليست هي المداد، بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر، وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد: إنه قديم أو مخلوق، وقد يقول: لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق، لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا يهجر من يتكلم بالحق، ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض.
وخوض الناس وتنازعهم في هذا الباب كثير، قد بسطناه في مواضع، وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع يبين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام، والله تعالى أعلم.
هامش
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [الزمر: 1، الجاثية: 2، الأحقاف: 2]
- ↑ [غافر: 1، 2]
- ↑ [فصلت: 1، 2]
- ↑ [السجدة: 13]
- ↑ [طه: 129]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [آل عمران: 164]
- ↑ [النساء: 41]
- ↑ [البقرة: 97]
- ↑ [الشعراء: 193 195]
- ↑ [النحل: 101، 102]
- ↑ [القيامة: 17 19]
- ↑ [القصص: 3]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [نحن]
- ↑ [فعلنا]
- ↑ [أي: يحصل له ألم]
- ↑ [القيامة: 16، 17]
- ↑ [القيامة: 18]
- ↑ [القيامة: 19]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [الحج: 75]
- ↑ [التوبة: 94]
- ↑ [المائدة: 67]
- ↑ [الجن: 28]
- ↑ [النور: 54، العنكبوت: 18]
- ↑ [البروج: 21، 22]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [لقمان: 19]
- ↑ [الحجرات: 2]
- ↑ [الحجرات: 3]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [لقمان: 27]
- ↑ [الأعراف: 22]
- ↑ [القصص: 62، 74]
- ↑ [القصص: 65]
- ↑ [القصص: 30]
- ↑ [النازعات: 15، 16]
- ↑ [القصص: 46]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [الحاقة: 4043]
- ↑ [التكوير: 19 27]
- ↑ [الشعراء: 10]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [الملك: 10]
- ↑ [البقرة: 247]
- ↑ [المنافقون: 4]