مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به
سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به
[عدل]ما تقول السادة الأعلام أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين:
هل هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ وإذا كان كلامه، فهل إذا تلوناه وقام بنا يطلق عليه كلام الله وصفته؟ أم يطلق عليه كلام الله دون صفته؟ أم في ذلك تفصيل يجب بيانه؟ وهل إذا قام بنا كان منتقلا عن الله بعد أن قام به؟ أم يكون قائمًا بنا وبه معًا؟ أم الذي قام بنا يكون عبارة عن كلام الله، أو حكاية عنه، ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا؟ وهل يكون صفة لنا محدثة قامت بمحدث؛ إذ القديم لا يقوم بمحدث، والمحدث لا يكون قديمًا، وهل التلاوة هي نفس المتلو أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة جوابها يحتمل البسط، ويمكن فيه الاختصار، ثم بسط الجواب بعض البسط، فأما الجواب المختصر فإنه يقال:
جواب هذه المسألة مبني على مقدمة، وهي أن يعرف الإنسان معنى قول القائل لما بلغه عن غيره: هذا كلام ذلك الغير؛ فإن المحدث إذا حدث عن النبي ﷺ بقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، أو قوله: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس»، أو قوله: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ» ونحو ذلك.
فإنه من المعلوم أن هذا كلام النبي ﷺ، تكلم به بلفظه ومعناه، فهو الذي أخبر بمعناه، وهو الذي ألف حروفه وتكلم بها بصوته. ثم المبلغ بذلك عنه بلّغ كلامه، كما قال النبي ﷺ: «نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فدعى بالنضرة لمن سمع منه حديثًا فبلغه كما سمعه. فبين أن الحديث المسموع منه هو الحديث المبلغ عنه، مع العلم بأن المبلغ عنه بلغه بأفعاله وأصواته، وأن الصوت المسموع منه هو صوته لا صوت النبي ﷺ، وإن كان النبي ﷺ تكلم بذلك الحديث بصوته المختص به، فالمبلغ عنه هو حديثه الذي سمع منه، وليس الصوت المسموع صوته.
فإذا قال القائل: هل هذا الحديث الذي قرأه المحدث القائم به حين القراءة هو كلام النبي ﷺ، الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ قيل له: إن كنت تريد: أن نفس الحديث من حيث هو هو كلام النبي ﷺ، الذي قام به حين تكلم به كان صفة له، فنعم. هذا الحديث من حيث هو هو كلام النبي ﷺ، وإن كنت تريد: أن ما اختص بالقارئ من حركاته وأصواته هو القائم بالرسول، فليس كذلك.
وكذلك إن أردت: أن نفس ما اختص به الرسول من حركاته وأصواته، والصفات القائمة بنفسه هي بعينها انتقلت عن الرسول. وقامت بالقارئ، فليس كذلك.
وقول القائل: هذا هو هذا وليس هو إياه، وهذا هو عين هذا وليس هو عينه، لفظ فيه إجمال؛ فإن من نقل لفظ غيره، كما سمعه وكتبه في كتاب، فإنه يقول: هذا كلام فلان بعينه، وهذا نفس كلامه، وهذا عين كلامه. ومراده أن نفس ما قاله هو الذي بلغه عنه، وهو المكتوب في الكتاب، لم يزد فيه ولم ينقص منه.
فإذا قال القائل لما سمع من القارئ: هذا عين كلام الله، أو هذا كلام الله بعينه، أو هذا نفس كلام الله، أو قال لما بين لوحي المصحف: هذا كلام الله بعينه، وهذا عين كلام الله كان صادقًا، ومن أنكر ذلك بهذا الاعتبار كان مقتضى قوله: أن القرآن زيد فيه ونقص؛ ولهذا كان الناس مطبقين على أن ما بين اللوحين كلام الله، والإنكار على من نفي ذلك.
وقد يقال لكلام المتكلم المسموع منه: هذا كلام زيد بعينه، وهذا عين كلام زيد، وهذا نفس كلام زيد، بمعنى أنه مسموع منه بلا واسطة، بحيث يسمع صفة ذلك المتكلم المختص به بذلك، كما قال أيوب السختياني: كان الحسن يتكلم بكلام فيأتي مثل الدر، فتكلم به بعده قوم فجاء مثل البَعْر. والمتكلم بالكلام من البشر له صوت يخصه، ونغمة تخصه، كما له سجية تخصه، كما قال تعالى: { وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } 1. وله أيضا إن كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا من الحال والصفة والكيفية ما يختص به، فإذا سمع كلامه بالصفة المختصة به، وقيل: هذا كلامه بعينه، وهذا عين كلامه، ونفس كلامه، وأدخلت الصفة المختصة به في مسمى العين والنفس، لم يصدق هذا عليه، إذا كان مرويا.
لكن لما كان الناس في زماننا يعلمون أن أحدًا لا يسمع كلام النبي ﷺ، لم يسبق هذا المعنى إلى ذهن أحد، بل كل أحد يعلم أنا إذا قلنا: سمعنا كلام النبي ﷺ، وهذا كلام النبي ﷺ بعينه، وهذا عين كلامه، فإنما المراد به المعنى الأول، وهو كونه مسموعًا من المبلغ عنه، لا أنه مسموع منه، ولا أن تكلمه الذي يختص بالكلام وجد.
وإذا كان هذا في كلام النبي ﷺ، فكلام الله سبحانه أولى بذلك، فإن الناس يعلمون أن أحدًا منهم لم يسمعه من الله،، كما سمع موسى كلام الله من الله، بل يعلمون أن كلام الله إنما سمع من المبلغين له، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } 2، وقال تعالى: { لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } 3، وقال نوح: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } 4.
وفي سنن أبي داود عن جابر: أن النبي ﷺ كان يقول بالموقف: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي».
فلما كان هذا مستقرًا في قلوب المستمعين علموا أن قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ } 5، إنما هو سماعه من المبلغين له، لا سماعه منه، وأن هذا السماع ليس كسماع موسى كلام الله من الله؛ فإن موسى سمعه منه بلا واسطة، ونحن إذا سمعنا كلام النبي ﷺ من الصحابة لم يكن كسمع الصحابة من النبي ﷺ، مع أنهم يبلغون حديثه كما سمعوه، مع العلم بأنهم لم يحكوا صوت النبي ﷺ، فلا هي أصواتهم صوته، ولا مثل صوته، مع أنهم بلغوا حديثه كما سمعوه. فالقرآن أولى أن يكون جبريل بلغه كما سمعه، والرسول بلغه كما سمعه، والأمة بلغته كما سمعته، وأن يكون ما بلغته هو ما سمعته، وهو كلام الله عز وجل في الحالين، مع أن الرسول بشر من جنس البشر، والله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 6.
والتفاوت الذي بين صفات الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت بين أدنى المخلوقات وأعلاها، فإذا كان سَمْع التابعين لكلام النبي ﷺ من الصحابة ليس كسمع الصحابة من النبي ﷺ، فسماع كلام الله من الله أبعد من مماثلة سماع شيء لشيء من المخلوقات.
والقائل إذا قال لما سمعه من المبلغ عن الرسول: هذا كلام الرسول أو هذا كلام صواب، أو حق أو صحيح، أو هذا حديث رسول الله أداه كما سمعه، أو هذا نفس كلام الرسول أو عينه فإنما قصد إلى مجرد الكلام، وهو ما يوجد حال سماعه من المبلغ، والمبلغ عنه لم يشر إلى ما يختص بأحدهما، فلم يشر إلى مجرد صوت المبلغ، ولا مجرد صوت المبلغ عنه، ولا إلى حركة أحد منهما، بل هناك أمر يتحد في الحالين، وهذا أمر يتعدد يختص كل منهما منه بما يخصه.
فإذا قيل: هذا هو كلامه، كانت الإشارة إلى المتحد المتفق عليه بينهما. وإذا قيل: هذا صوته كانت الإشارة إلى المختص المتعدد، فيقال: هذا صوت غليظ، أو رقيق، أو حسن، أو ليس حسنًا، كما في الحديث الذي في سنن ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه قال: «لَلَّهُ أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب الْقَيْنَة إلى قينته»، وفي الحديث المشهور: «زيِّنُوا القرآن بأصواتكم». قال أحمد: يحسنه بصوته ما استطاع. فبين الإمام أحمد أن الصوت صوت القارئ، مع أن الكلام كلام البارئ. وهذا كما أنه معلوم من تبليغ كلام الله ورسوله، فكذلك في تبليغ كلام كل أحد، فإذا سمع الناس منشدًا ينشد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قالوا: هذا شعر لَبيد، لفظه ومعناه، وهذا كلام لبيد، كما قال النبي ﷺ: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
ولو قال المنشد: هذا شعري أو كلامي لكذبه الناس، كما يكذبونه لو قال: هذا صوت لبيد، وإذا قال: هذا لفظ لبيد بالمعنى المعروف وهو أن هذا الكلام الملفوظ هو كلامه بنظمه وتأليفه لصدقه الناس. وإن قال: هذا لفظه بمعنى أن هذا بلفظه، كذبه الناس؛ فإن اللفظ يراد به المصدر، ويراد به الملفوظ، وكذلك التلاوة والقراءة يراد بذلك المصدر، ويراد به الكلام نفسه الذي يقرأ ويتلى.
وأصل هذا: أن تعلم الجامع والفارق بين سماع الكلام من المتكلم به، ومن المبلغ له عن المتكلم به، وأنه كلامه في الحالين، لكن هو في أحدهما مسموع منه سماعًا مطلقًا بغير واسطة، وفي الأخرى مسموع منه سماعًا مقيدًا بواسطة التبليغ، كما أنك تارة ترى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة، فلا تحتاج في ذلك إلى واسطة، وتارة تراها في ماء أو مرآة ونحو ذلك، تراها بواسطة ذلك الجسم الشفاف، فهي المقصودة بالرؤية في الموضعين، لكن في إحدى الحالتين رأيتها نفسها بالمباشرة رؤية مطلقة، وفي الأخرى رأيتها رؤية مقيدة بواسطة.
وإذا قلت: المرئي مثالها أو خيالها أو نحو ذلك. قيل: أنت تجد الفرق بين رؤيتك خيال الشيء الذي هو ظله وتمثاله الذي هو صورته المصورة، وبين رؤيته في الماء والمرآة، إذا كان المرئي هنا، وإن كان لابد فيه من توسط خيال، فالمقصود بالرؤية هو الحقيقة، ولكن تختلف باختلاف المرآة، فيرى كبيرًا إن كانت المرآة كبيرة، وصغيرًا إن كانت المرآة صغيرة، ومستطيلا إن كانت المرآة مستطيلة. وهذا الكلام المروي عن الغير المقصود منه هو نفس كلام ذلك الغير، وإن كان لابد من توسط صوت هذا المبلغ؛ ولهذا يختلف باختلاف صوت المبلغ؛ فتارة يكون رقيقًا، وتارة غليظًا، وتارة مجهورًا به، وتارة مخافتًا به.
فإن قلت: فهذا المسموع مثل كلام المروي عنه، أو حكاية كلام المروي عنه، كما أطلق ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، كان إطلاق هذا خطأ، كما أنك إذا قلت لما تراه في الماء والمرآة: هذا مثل الشمس، أو هذا يحكي الشمس، كان إطلاق ذلك خطأ، قال تعالى: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } الآية 7، فقد بين عجز الخلائق عن الإتيان بمثله، مع أنهم قادرون على تبليغه وتلاوته، فعلم أن هذا المسموع لا يقال: إنه مثل كلام الله، كما سماه كلامه، لكنه كلامه بواسطة المبلغ لا بطريق المباشرة.
والله سبحانه قد فرق بين التكليمين، فقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } 8 ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلمه موسى وبين تكليمه بإرساله رسولا يوحي بإذنه، ذاك تكليم بلا واسطة، وهذا تكليمه بواسطة.
وإن قلت لما يبلغه المبلغ عن غيره: هذا حكاية كلام ذلك، كان الإطلاق خطأ؛ فإن لفظ الحكاية إذا أطلق يراد به أنه أتى بكلام يشبه كلامه، كما يقال: هذا يحاكي هذا، وهذا قد حكى هذا، لكن قد يقال: فلان قد حكى هذا الكلام عن فلان، كما يقال: رواه عنه، و بلغه عنه، ونقله عنه، وحدث به عنه؛ ولهذا يجىء في الحديث عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه. فكل ما بلغه النبي ﷺ عن الله فقد حكاه عنه، ورواه عنه.
فالقائل إذا قال للقارئ: هذا يحكي كلام الله، أو يحكي القرآن، فقد يفهم منه أنه يأتي بكلام يحاكي به كلام الله، وهذا كفر. وإن أراد أنه بلغه وتلاه فالمعنى صحيح، لكن ينبغي تعبيره بما لا يدل على معنى باطل، فيقول: قرأه وتلاه، وبلغه وأداه؛ ولهذا إذا قيل: يحكي القراءات السبع، ويرويها، وينقلها، لم ينكر ذلك؛ لأنه لا يفهم منه إلا تبليغها، لا أنه يأتي بمثلها.
هامش
- ↑ [الروم: 22]
- ↑ [المائدة: 67]
- ↑ [الجن: 28]
- ↑ [الأعراف: 61، 62]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [الشورى: 51]