مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في ذكر من قال إن الإمام أحمد قال ذلك خوفا من الناس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في ذكر من قال إن الإمام أحمد قال ذلك خوفا من الناس[عدل]

وأما قول القائل: إن أحمد إنما قال ذلك خوفًا من الناس، فبطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفترى بها على الأئمة أحوج منه إلى جوابه ؛ فإن الإمام أحمد صار مثلا سائرًا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، حتى صار اسم الإمام مقرونًا باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد ؛ لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } 1 ؛ فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين.

وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون، من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة والأمراء، والولاة من لا يحصيهم إلا الله. فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره، وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء، والصالحون والأبرار، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك مالم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل، فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التي لا قدر لها؟

وأيضا، فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا، وقد جعلوا يطالبونه بما ابتدعوه، فيقول لهم: كيف أقول مالم يقل؟ فكيف يكتم كلمة ما قالها أحد قبله من خلق الله.

وأيضا، فإن أحمد بن الحسن الترمذي من خواص أصحابه وأعيانهم، فما الموجب لأن يستعمل التقية معه.

وأيضا، فلم يكن به حاجة إلي أن يقول: كلام الآدمي مخلوق، وإنما هو ذكر ذلك مستدلا به ضاربًا به المثل، فكيف يبتدئ بكلام هو عنده باطل لم يسأله عنه أحد؟

وأيضا، فقد كان يسعه أن يسكت عن هذا ؛ فإن الإنسان إذا خاف من إظهار قول كتمه. أما إظهاره لقول لم يطلب منه، وهو باطل عنده، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلا وعلمًا ودينا.

فمن يسب الإمام أحمد الذي موقفه من الإسلام وأهله فوق ما يصفه الواصف، ويعرفه العارف، فقد استوجب من غليظ العقوبة ما يكون نكالا لكل مفتر كاذب راجم بالظن قاذف، قائل على الله ورسوله والمؤمنين وأئمتهم ما لا يقوله العدو المنافق.

وأيضا، فقد ذكر ذلك فيما صنفه من الرد على الزنادقة والجهمية وهو في الحبس، وكتبه بخطه، ولم يكن ذلك مما أظهره لأعدائه: الذين يحتاج غيره إلى أن يستعمل معهم التقية.

وهذا القول أقبح من قول الروافض فيما ثبت عن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أنه قاله وفعله على وجه التقية؛ فإن الإمام أحمد صنف الرد عليهم وبين أنهم زنادقة، فأي تقية تكون لهم مع هذا وهو يجاهدهم ببيانه وبنانه، وقلمه ولسانه؟.


هامش

  1. [السجدة: 24]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني عشر
فصل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين | فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | تابع فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | فصل في المراد بلفظ الحروف | فصل في بيان أن القرآن العظيم كلام الله | فصل في منشأ النزاع والاشتباه | فصل في معرفة الأصل الذي تفرع منه النزاع | سئل عمن قال اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء | تابع مسألة أختلاف الناس على ثلاثة أنحاء | سئل عن ما يجب على الإنسان أن يعتقده | فصل في نزول القرآن | سئل عن قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله إنه لقول رسول كريم | فصل عن قوله تعالى إنه لقول رسول كريم | فصل وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه | فصل قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله | فصل في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره | سئل عمن يقول كلام الناس قديم | فصل مسألة اللفظ بالقرآن | فصل فيما قاله الكفار في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم | فصل في الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله | فصل في الذين غلطوا مذهب اللفظية | فصل في ذكر بعض جهالات اللفظية | فصل رد الإمام أحمد على اللفظية | فصل فيمن أدرك من درجات الكلام بعض الحق | فصل في ذكر نصوص الإمام أحمد في الرد على اللفظية | فصل في العلة من ذكر ابن تيمية لنصوص الإمام أحمد | فصل في ذكر المواضع التي نص فيها الإمام أحمد على هذه المسألة | فصل في ذكر من قال إن الإمام أحمد قال ذلك خوفا من الناس | فصل في ذكر شبهة هؤلاء | فصل في سؤال السائل هل يجب على ولي الأمر زجرهم وردعهم | فصل في تكفير قائل هذا القول | فصل مسألة التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام | فصل في معرفة مسألة الأحكام | فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما | سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به | فصل في أن القرآن الذي نقرأه هو كلام الله | سئل عن رجلين قال أحدهما القرآن كلام الله وقال الآخر هو كلام جبريل | سئل عمن يقول الكلام غير المتكلم | سئل عن المصحف هل هو نفس القرآن | فصل في أن القرآن الذي بين دفتي المصحف متواتر | هل الحروف مخلوقة أو غير مخلوقة | سئل عمن يقول إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى | فصل في الكلام في القرآن هل هو حرف وصوت | سئل عن رجلين تباحثا في موضوع الحروف والصوت | سئل عن المصحف العتيق إذا تمزق ما يصنع به