مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في ذكر المواضع التي نص فيها الإمام أحمد على هذه المسألة
فصل في ذكر المواضع التي نص فيها الإمام أحمد على هذه المسألة
[عدل]وقد نص أحمد على نفس هذه المسألة في غير موضع، فروى أبو القاسم اللالكائي في أصول السنة قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: حدثنا عمرو بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: قلت لأحمد بن حنبل: إن الناس قد وقعوا في القرآن، فكيف أقول؟ فقال: أليس أنت مخلوقا؟ قلت: نعم. قال: فكلامك منك مخلوق؟ قلت: نعم. قال: أفليس القرآن من كلام الله؟ قلت: نعم. قال: وكلام الله من الله؟ قلت نعم. قال: فيكون من الله شيء مخلوق؟
بين أحمد للسائل: أن الكلام من المتكلم وقائم به، لا يجوز أن يكون الكلام غير متصل بالمتكلم، ولا قائم به؛ بدليل أن كلامك أيها المخلوق منك، لا من غيرك، فإذا كنت أنت مخلوقًا وجب أن يكون كلامك أيضا مخلوقا، وإذا كان الله تعالى غير مخلوق امتنع أن يكون ما هو منه وبه مخلوقا.
وقصده بذلك الرد على الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله ليس من الله ولا متصل به، فبين أن هذا الكلام ليس هو معنى كون المتكلم متكلما، ولا هو حقيقة ذلك، ولا هو مراد الرسل والمؤمنين، من الإخبار عن أن الله قال، ويقول، وتكلم بالقرآن، ونادى، وناجى، ودعا، ونحو ذلك مما أخبرت به عن الله رسله، واتفق عليه المؤمنون به من جميع الأمم؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } 1، وقال: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } 2، وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } 3، وقال تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } 4.
وليس القرآن عينا من الأعيان القائمة بنفسها حتى يقال: هذا مثل قوله: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } 5، وإنما هو صفة كالعلم، والقدرة، والرحمة، والغضب، والإرادة، والنظر، والسمع ونحو ذلك، وذلك لا يقوم إلا بموصوف، وكل معنى له اسم وهو قائم بمحل، وجب أن يشتق لمحله منه اسم، وألا يشتق لغير محله منه اسم.
فكما أن الحياة، والعلم، والقدرة إذا قام بموصوف، وجب أن يشتق له منه اسم الحي، والعالم، والقادر، ولا يشتق الحي، والعالم، والقادر لغير من قام به العلم، والقدرة، فكذلك: القول والكلام، والحب، والبغض، والرضا، والرحمة، والغضب، والإرادة، والمشيئة إذا قام بمحل، وجب أن يشتق لذلك الموصوف منه الاسم والفعل، فيقال: هو الصادق، والشهيد، والحكيم، والودود، والرحيم، والآمر، ولا يشتق لغيره منه اسم.
فلو لم يكن الله سبحانه وتعالى هو القائل بنفسه: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } 6، بل أحدث ذلك في غيره لم يكن هو الآمر بهذه الأمور، ولا المخبر بهذا الخبر، ولكان ذلك المحل هو الآمر بهذا الأمر، المخبر بهذا الخبر، وذلك المحل؛ إما الهواء، وإما غيره، فيكون ذلك المحل المخلوق هو القائل لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } ؛ ولهذا كان السلف يقولون في هذه الآية وأمثالها: من قال: إنه مخلوق فقد كفر. ويستعظمون القول بخلق هذه الآية وأمثالها أكثر من غيرها، يعظم عليهم أن تقوم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى.
ولهذا كان مذهب جماهير أهل السنة والمعرفة وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، من المالكية، والشافعية، والصوفية، وأهل الحديث، وطوائف من أهل الكلام، من الكرامية وغيرهم أن كون الله سبحانه وتعالى خالقًا، ورازقًا، ومحييا، ومميتًا، وباعثًا، ووارثًا، وغير ذلك من صفات فعله، وهو من صفات ذاته، ليس من يخلق كمن لا يخلق.
ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه.
وذهب طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم، من الفقهاء الحنبلية، والشافعية، والمالكية، وغيرهم إلى أنه ليس لله صفة ذاتية من أفعاله، وإنما الخلق هو المخلوق، أو مجرد نسبة وإضافة وهذا اختيار ابن عقيل، وأول قولي القاضي أبي يعلى، وهؤلاء عندهم حال الذات التي تخلق وترزق أو لا تخلق ولا ترزق سواء.
وبهذا نقضت المعتزلة على من ناظرها من الصفاتية الأشعرية ونحوهم، لما استدلت الصفاتية بما تقدم من القاعدة الشريفة فقالوا: ينتقض عليكم بالخالق، والرازق وغير ذلك من أسماء الأفعال؛ فإن الخلق والرزق قائم بغيره، وقد اشتق له منه اسم الخالق والرازق، ولم يقم به صفة فعل أصلا، فكذلك الصادق، والحكيم، والمتكلم، والرحيم، والودود.
وهذا النقض لا يلزم جماهير الأمة وعامة أهل السنة والجماعة؛ فإن الباب عندهم واحد، وليس هذا قولا بقدم مخلوقاته أو مفعولاته، سواء قيل: إن نفس فعله القائم به قديم فقط، كما يقوله كثير من هؤلاء الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنبلية، وأهل الحديث، والكلام، والصوفية- أو يقولون: له عند إحداث المخلوقات أحوال ونسب، كما يقوله كثير من هؤلاء - الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وأهل الكلام من الطوائف كلها.
وذلك لأن القول في ذلك كالقول في مشيئته وإرادته؛ فإنه وإن كان مذهب أهل السنة وسائر الصفاتية أنها قديمة، فليست مراداته قديمة، وكذلك صفة الخلق والتكوين، وذلك لأن الشرع والعقل يدل على أن حال الخالق، والرازق، الفاطر، المحيى، المميت، الهادي، النصير، ليس حاله في نفسه كحاله لو لم يبدع هذه الأمور؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } 7. فالفرق بين الخالق وغير الخالق كالفرق بين القادر وغير القادر.
والمخالف يقول: إنما هو موصوف بالقدرة التي تتناول ما يخلقه وما لا يخلقه، سواء في نفسه كان خالقًا أو لم يكن خالقًا، ليس له من كونه خالقًا صفة ثبوتية، لا صفة كمال، ولا صفة وجود مطلق، كما له بكونه قادرًا. ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودًا مثنى عليه ممجدًا، وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال.
وليس الغرض هنا ذكر هذه المسألة، وإنما هي طرد حجة الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات، وسائر الصفاتية؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في كتاب المحنة: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفورًا. فبين اتصافه بالعلم وهو صفة ذاتية محضة وبالمغفرة وهي من الصفات الفعلية والكلام الذي يشبه هذا وهذا، وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء، وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية لما ذكر قول جهم: أنه يتكلم؛ ولكن كلامه مخلوق. قال أحمد قلنا له: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، وكذلك ذكروا في المحنة فيما استدل به الإمام أحمد في المناظرة واستدل بقوله: { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } 8، قال: فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق.
هامش
- ↑ [السجدة: 13]
- ↑ [الزمر: 1]
- ↑ [النمل: 6]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [الجاثية: 13]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [النحل: 17]
- ↑ [السجدة: 13]