مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في العلة من ذكر ابن تيمية لنصوص الإمام أحمد
فصل في العلة من ذكر ابن تيمية لنصوص الإمام أحمد
[عدل]وإنما نبهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وأهل الحديث في مسألة تلاوتنا للقرآن ؛ لأنها أصل ما وقع من الاضطراب والتنازع في هذا الباب، مثل مسألة الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ و مسألة نور الإيمان و الهدى ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة فيها، ويتمسك كل فريق ببعض من الحق، فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، مختلفين في الكتاب، كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهم عامتهم في جهل وظلم، جهل بحقيقة الإيمان والحق، وظلم الخلق، ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان، ويغضب له الرحمن، ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف، ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف.
وأصل ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله تعالى من القرآن والإيمان الذي هو من صفاته، وبين أفعال العباد وصفاتهم، فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في الإثبات، وآخرون إلى زيادة في النفي ؛ ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار النهي عن الإثبات العام، والنفي العام، بل إما الإمساك عنهما وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد وإما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان، كما أن الأول لعموم أهل الإيمان.
وهذه المسألة لها أصلان:
أحدهما: أن أفعال العباد مخلوقة، وقد نص عليها الأئمة أحمد وغيره، وسائر أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين للقدرية، واتفقت الأمة على أن أفعال العباد محدثة.
والأصل الثاني: مسألة تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به، هل يقال: إنه مخلوق أو غير مخلوق؟ والإمام أحمد قد نص على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين والمستأخرين، لكن كان رده على اللفظية النافية أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين:
أحدهما: أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي، وجانب النفي أبدًا شر من جانب الإثبات ؛ فإن الرسل جاؤوا بالإثبات المفصل في صفات الله، وبالنفي المجمل فوصفوه بالعلم، والرحمة، والقدرة والحكمة، والكلام، والعلو، وغير ذلك من الصفات وفي النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 1، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } 2. وأما الخارجون عن حقيقة الرسالة ؛ من الصابئة، والفلاسفة، والمشركين، وغيرهم، ومن تجهم من أتباع الأنبياء، فطريقتهم النفي المفصل، ليس كذا ليس كذا، وفي الإثبات أمر مجمل ؛ ولهذا يقال: المعطل أعمى، والمشبه أعشى، فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل.
الوجه الثاني: أن أحمد إنما ابتلى بالجهمية المعطلة فهم خصومه، فكان همه منصرفًا إلى رد مقالاتهم، دون أهل الإثبات؛ فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات؛ كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي. والإنكار يقع بحسب الحاجة. والبخاري لما ابتلى باللفظية المثبتة، ظهر إنكاره عليهم، كما في تراجم آخركتاب الصحيح، وكما في كتاب خلق الأفعال، مع أنه كذَّب من نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، من جميع أهل الأمصار، وأظنه حلف على ذلك، وهو الصادق البار.
هامش