كتاب الأم/كتاب النكاح/ما جاء في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه
[قال الشافعي]: رحمه الله إن الله تبارك وتعالى لما خص به رسوله من وحيه وأبان من فضله من المباينة بينه وبين خلقه بالفرض على خلقه بطاعته في غير آية من كتابه فقال {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} وقال {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} وقال {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}.
[قال الشافعي]: رحمه الله: افترض الله عز وجل على رسوله ﷺ أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه وكرامة وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبينا لفضيلته مع ما لا يحصى من كرامته له وهي موضوعة في مواضعها.
[قال الشافعي]: رحمه الله فمن ذلك من ملك زوجة سوى رسول الله ﷺ لم يكن عليه أن يخبرها في المقام معه أو فراقها له وله حبسها إذا أدى إليها ما يجب عليه لها وإن كرهته وأمر الله عز وجل رسوله ﷺ أن يخير نساءه فقال {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} إلى قوله {أجرا عظيما} فخيرهن رسول الله ﷺ فاخترنه فلم يكن الخيار إذا اخترنه طلاقا ولم يجب عليه أن يحدث لهن طلاقا إذا اخترنه.
[قال الشافعي]: رحمه الله وكان تخيير رسول الله ﷺ إن شاء الله كما أمره الله عز وجل إن أردن الحياة الدنيا وزينتها ولم يخترنه وأحدث لهن طلاقا لا ليجعل الطلاق إليهن لقول الله عز وجل: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} أحدث لكن إذا اخترتن الحياة الدنيا وزينتها متاعا وسراحا فلما اخترنه لم يوجب ذلك عليه أن يحدث لهن طلاقا ولا متاعا فأما (قول عائشة رضي الله عنها قد خيرنا رسول الله ﷺ فاخترناه) أفكان ذلك طلاقا؟ فتعني والله أعلم لم يوجب ذلك على النبي ﷺ أن يحدث لنا طلاقا.
[قال الشافعي]: رحمه الله وإذا فرض الله عز وجل على النبي ﷺ إن اخترن الحياة الدنيا أن يمتعهن فاخترن الله ورسوله فلم يطلق واحدة منهن فكل من خير امرأته فلم تختر الطلاق فلا طلاق عليه.
[قال الشافعي]: رحمه الله وكذلك كل من خير فليس له الخيار بطلاق حتى تطلق المخيرة نفسها أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا الثقة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق (أن عائشة قالت قد خيرنا رسول الله ﷺ) فكان ذلك طلاقا أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا الثقة عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها بمثل معنى هذا الحديث.
[قال الشافعي]: فأنزل الله تبارك وتعالى {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك}.
[قال الشافعي]: قال بعض أهل العلم أنزلت عليه {لا يحل لك} بعد تخييره أزواجه أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة أنها قالت ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل له النساء أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي كأنها تعني اللاتي حظرن عليه في قول الله تبارك وتعالى {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج}.
[قال الشافعي]: وأحسب قول عائشة أحل له النساء لقول الله تبارك وتعالى {إنا أحللنا لك أزواجك} إلى قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين}.
[قال الشافعي]: فذكر الله عز وجل ما أحل له فذكر أزواجه اللاتي آتى أجورهن وذكر بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي قال فدل ذلك على معنيين أحدهما أنه أحل له مع أزواجه من ليس له بزوج يوم أحل له وذلك أنه لم يكن عنده ﷺ من بنات عمه ولا بنات عماته ولا بنات خاله ولا بنات خالاته امرأة وكان عنده عدد نسوة وعلى أنه أباح له من العدد ما حظر على غيره ومن لم يأتهب بغير مهر ما حظره على غيره.
[قال الشافعي]: رحمه الله ثم جعل له في اللاتي يهبن أنفسهن له أن يأتهب ويترك فقال {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} إلى {عليك}.
[قال الشافعي]: فمن اتهب منهن فهي زوجة لا تحل لأحد بعده ومن لم يأتهب فليس يقع عليها اسم زوجة وهي تحل له ولغيره أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي، قال أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد (أن امرأة وهبت نفسها للنبي ﷺ فقامت قياما طويلا فقال رجل يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فذكر أنه زوجه إياها).
[قال الشافعي]: رحمه الله وكان مما خص الله عز وجل به نبيه ﷺ قوله {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وقال {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} فحرم نكاح نسائه من بعده على العالمين ليس هكذا نساء أحد غيره وقال عز وجل: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فأثابهن به ﷺ من نساء العالمين.
[قال الشافعي]: رحمه الله وقوله {وأزواجه أمهاتهم} مثل ما وصفت من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معاني مختلفة ومما وصفت من أن الله أحكم كثيرا من فرائضه بوحيه وسن شرائع واختلافها على لسان نبيه وفي فعله فقوله {أمهاتهم} يعني في معنى دون معنى وذلك أنه لا يحل لهم نكاحهن بحال ولا يحرم عليهم نكاح بنات لو كن لهن كما يحرم عليهم نكاح بنات أمهاتهم اللاتي ولدنهم أو أرضعنهم.
[قال الشافعي]: رحمه الله: فإن قال قائل ما دل على ذلك؟ فالدليل عليه (أن رسول الله ﷺ زوج فاطمة بنته وهو أبو المؤمنين وهي بنت خديجة أم المؤمنين زوجها عليا رضي الله عنه وزوج رقية وأم كلثوم عثمان وهو بالمدينة) وأن زينب بنت أم سلمة تزوجت، وأن الزبير بن العوام تزوج بنت أبي بكر وأن طلحة تزوج ابنته الأخرى وهما أختا أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف تزوج ابنة جحش أخت أم المؤمنين زينب ولا يرثهن المؤمنون ولا يرثنهم كما يرثون أمهاتهم ويرثنهم ويشبهن أن يكن أمهات لعظم الحق عليهم مع تحريم نكاحهن.
[قال الشافعي]: رحمه الله وقد ينزل القرآن في النازلة ينزل على ما يفهمه من أنزلت فيه كالعامة في الظاهر وهي يراد بها الخاص والمعنى دون ما سواه.
[قال الشافعي]: رحمه الله والعرب تقول للمرأة ترب أمرهم أمنا وأم العيال وتقول ذلك للرجل يتولى أن يقوتهم أم العيال بمعنى أنه وضع نفسه موضع الأم التي ترب أمر العيال وقال تأبط شرا وهو يذكر غزاة غزاها ورجل من أصحابه ولي قوتهم:.
وأم عيال قد شهدت تقوتهم ** إذا احترتهم أقفرت وأقلت.
تخالف علينا الجوع إن هي أكثرت ** ونحن جياع أي أول تألت.
وما إن بها ضن بما في وعائها ** ولكنها من خشية الجوع أبقت.
قلت: الرجل يسمى أما وقد تقول العرب للناقة والبقرة والشاة والأرض هذه أم عيالنا على معنى التي تقوت عيالنا.
[قال الشافعي]: قال الله عز وجل: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} يعني أن اللائي ولدنهم أمهاتهم بكل حال الوارثات والموروثات المحرمات بأنفسهن والمحرم بهن غيرهن اللائي لم يكن قط إلا أمهات ليس اللائي يحدثن رضاعا للمولود فيكن به أمهات وقد كن قبل إرضاعه غير أمهات له ولا أمهات المؤمنين عامة يحرمن بحرمة أحدثنها أو يحدثها الرجل أو أمهات المؤمنين اللائي حرمن بأنهن أزواج النبي ﷺ فكل هؤلاء يحرمن بشيء يحدثه رجل يحرمهن أو يحدثنه أو حرمه النبي ﷺ والأم تحرم نفسها وترث وتورث فيحرم بها غيرها فأراد بها الأم في جميع معانيها لا في بعض دون بعض كما وصفنا ممن يقع عليه اسم الأم غيرها والله أعلم.
[قال الشافعي]: رحمه الله في هذا دلالة على أشباه له من القرآن جهلها من قصر علمه باللسان والفقه فأما ما سوى ما وصفنا من أن للنبي ﷺ من عدد النساء أكثر مما للناس ومن اتهب بغير مهر ومن أن أزواجه أمهاتهم لا يحللن لأحد بعده وما في مثل معناه من الحكم بين الأزواج فيما يحل منهن ويحرم بالحادث ولا يعلم حال الناس يخالف حال النبي ﷺ في ذلك فمن ذلك أنه كان يقسم لنسائه فإذا أراد سفرا أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وهذا لكل من له أزواج من الناس أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرني محمد بن علي أنه سمع ابن شهاب يحدث عن عبيد الله عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها).
[قال الشافعي]: رحمه الله ومن ذلك (أنه أراد فراق سودة فقالت لا تفارقني ودعني حتى يحشرني الله في أزواجك وأنا أهب ليلتي ويومي لأختي عائشة) [قال]: وقد فعلت ابنة محمد بن مسلمة شبيها بهذا حين أراد زوجها طلاقها ونزل فيها ذكر.
[قال الشافعي]: أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب في ذلك {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا} إلى {صلحا}.
[قال الشافعي]: وهذا موضوع في موضعه بحججه أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب ابنة أبي سلمة (عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت قلت يا رسول الله هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ قال رسول الله ﷺ فأفعل ماذا؟ قالت تنكحها قال أختك قالت نعم قال أوتحبين ذلك؟ قالت نعم لست لك بمخلية وأحب من شركني في خير أختي قال فإنها لا تحل لي فقلت والله لقد أخبرت أنك تخطب ابنة أبي سلمة قال ابنة أم سلمة؟ قالت نعم قال فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وإياها ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن).
[قال الشافعي]: رحمه الله وكل ما وصفت لك مما فرض الله على النبي ﷺ وجعل له دون الناس وبينه في كتاب الله أو قول رسول الله ﷺ وفعله أو أمر اجتمع عليه أهل العلم عندنا لم يختلفوا فيه.